تخطى إلى المحتوى

ستونر- رواية في اللامبالاة حتى الموت 

ستونر- رواية في اللامبالاة حتى الموت 

رشح لي أحد الأصدقاء رواية تعثّر بها اثناء سفره الأخير واعجبته بطريقة مذهلة. 

بعد عدة أيام من القراءة الممتعة للرواية خطر ببالي امرين، الأول الكاتب الإسرائيلي عاموس عوز وروايته حكاية حب وظلام، وعند الفصل الأخير وجدت نفسي اردد كلمات قصيدة التشيلي بابلو نيرودا “يموت ببطء” 

رواية ستونر للأمريكي جون وليامز (١٩٢٢-١٩٩٤)، صدرت سنة ١٩٦٦

لم تحظ باهتمام كبير عند صدورها الا انها حظيت باهتمام كبير بعد أربعين عاما من صدورها الأول.

ولا اعرف ان كان صاحب الرواية كبطلها، كتب رواية ورماها للزمن. ولكن بالتأكيد، لهذه الرواية هذا الطعم من الأهمية. تأسرك بعد وهلة. تأسرك باعتياديتها. بلا مبالاة شخصياتها، ببرود الانفعالات ورتابة الاعتيادية بالحياة… الاكاديمية منها- تحديدا- كما في هذه الرواية. 

كم من الناس يعيشون بالضبط كبطل هذه الرواية؟ تمر حياتهم امامهم فيجدون انفسهم خلفها…. خارجين منها بالمحصلة كالجميع.

ان تقرأ رواية بتفاصيل التفاصيل لكل ما يحالج المرء العادي من مشاعر وسيرورة يوم وحياة بلا أدنى ملل، يتعدى ان تكون انسانا حشريا يحب ان يعرف التفاصيل. اذكر رواية عوز هكذا، لم تكن القصة مهمة ولا احداثها بقدر ما كان الابداع في وصف التفاصيل البسيطة للغاية بدقة وعذوبة تشكل معزوفة موسيقية بحد ذاتها. 

هل يمكن ان يكون المرء منا ينجرف بانفعالاته ليحصل على حياة تشبه هذه الحياة التي لا شيء مهم فيها كأقصى وأكبر مساعيه الداخلية؟ 

تقرأ الفصل تلو الفصل في سيرة وليام ستونر وانت تتوقع ما سيأتي الآن ليغير حياته، ليقلبها رأسا على عقب. تنتظر الحبكة في تعقيدها الأهم، ولكن لا يحصل هذا. فلا تمل القراءة، ولكنك تستمر بالاستمتاع. الاستمتاع بحذر تارة وبفضول تارة وبتفكر تارة وسط كل هذه التفاصيل. تأخذك اللامبالاة لما ستؤول له الاحداث كبطل الرواية الذي ترافقه من اللحظة الأولى.

معزوفة موسيقية رائعة بكل المقاييس. تجلس وتستمتع حتى النهاية. 

وليام ستونر شاب قادم من الريف الأمريكي لعائلة مزارعين، وحيد والديه، يرسلونه لميزوري لدراسة الزراعة في كلية الزراعة بكولومبيا. تدور احداث الرواية بالنصف الأول من القرن العشرين، فيعاصر الحرب العالمية الأولى وهو طالب بالجامعة، وتمر الحرب العالمية الثانية وهو أستاذ بتلك الجامعة. 

يذهب الشاب وليام ستونر برغبة من والديه للدراسة وكان عمره عشرين سنة. لم يكن يفكر الا بعمل ما قاله والديه والرجوع اليهما. في احدى السنوات يكتشف ميوله للأدب فيحول الى دراسة الادب بلا ان يخبر والديه. هذه تكون الثورة الأولى التي قام بها، ومن ثم يقرر البقاء في كولومبيا وقبول منحة دراسة الماجستير والدكتوراه للتعليم بالجامعة. يصاب والديه بصدمة عند علمهما بأنه حول تخصصه، ولكنه ينقل لهما الخبر الأهم، وهو عدم نيته الرجوع. نرى مشهدا من التنكر الذي يعيشه الاهل في مثل هذه الحالات، وكأنه لم يقل شيء، وكأنهم لم يسمعوا. مستعدون لمحو تلك الكلمات والمضي قدما على حسب الخطة الاصلية. 

وبينما يفكر القارئ ان الثورة قادمة الا ان الاهل يعودون ادراجهم ويكملون حياتهم. 

لا أحد يهتم لأحد بهذه الشخصيات.. لا مبالاة سلبية 

ستونر يبدأ حياته الجديدة، وينجح، ولكن لا شيء مبهر به. يرفض المشاركة بالحرب مع رفاقه ويموت أحد الأصدقاء بالحرب ولا نرى تغيرا في سيرورة الاحداث التي ستهز كيانه. 

يتعرف على يوديت، المرأة التي تخطف قلبه وتأسره. يجري معها محادثة وحيدة لمدة ساعة ونصف، الأطول والوحيدة في حياتهما كزوجين معا. تحلم ان تذهب الى أوروبا. يعدها بأن يفعلا ذلك معا. يطلب يدها من والدها المصرفي، توافق، يوافق الوالدين، تتجهم يوديث بطريقة غريبة، وبينما تطلب أمها ان يتم الفرح في الصيف القادم تشترط هي ان يتم الفرح ان تم خلال شهرين فقط. ويكون ما تقوله. ننتظر انفجارا ستقوم به يوديث، ولكن لا شيء، يوديث تتزوجه لأنه مناسب، لا تحبه، ولن تحبه. بل تمقته ومقتنعة تماما انه ابدا لن يتركها. حياته معها بائسة تماما، ولا تغيير يذكر. تعيش مع نفسها، تتهرب منه، تنام عندما يأتي، متوعكة الصحة دائما. هو منغمس في حياته الاكاديمية وسط الادب في العصور الوسطى. 

ينتقل الكاتب بنا الى الجامعة، لعل حدثا عظيما سيحدث. ويحدث امر ما، ولكنه امرا اعتياديا بحياة أستاذة جامعي وسط مناكفة طلاب. ولكنه يصر ونرى هذا الحادث للطالب المعوق حركيا يرافق القارئ لوقت ليس بالقليل. 

بذلك الوقت أعلنت يوديث عن رغبتها بالإنجاب، فتحمل وتنجب. ونرى امرأة مهملة، مكتئبة، تركت الطفلة تماما لوالدها المتفاني. تمر السنوات وتنشأ علاقة قوية بينه وبين ابنته غريس التي تنشأ تقريبا ببعد واضح للام. فالأم لا تحتمل ان تحملها ولا ان تطعمها ولا بكاءها، وتضجر من انينها وحركتها بسرعة. 

يموت والده ويذهب الى المزرعة ويقضي بعض الوقت مع امه. يستخدم حصته بالميراث ليسد القرض الذي حصل عليه من حماه لشراء بيت أصرت ان يشترياه يوديث التي قررت كذلك انه يجب ان يكون لهما بيتهما الملك. يحاول اقناعها بالبدء بان تحمل عبء قرض أكبر من دخله سيكون خطرا، ولكنها تطمئنه ان القرض مضمون لأنه من عند والدها. 

تدخل البلد في حالة كساد وتفلس البنوك، ويطمئنهما والد جريس ويذهب الى عمله بكامل اناقته وينتحر. 

هنا يبدأ تحول في حياة يوديث، تترك ابنتها لدى زوجها وتغيب لأول الامر شهرين ثم تمدهم شهورا أخرى. تتأثر ام لا تتأثر بموت والدها لم يكن بالضرورة واضح، الا انها تنفض الغبار عن مقتنياتها الموزعة في صندوقين، أحدهما من والدها واخر من الناس على مدار سنين طفولتها. تحرق الصندوق الذي كان به هدايا والدها. 

تستدين بعض الأموال من والدتها وتشتري ملابس جديدة وتغير قصة شعرها وشكلها وتعود لبيتها كأنها انسانة جديدة. ولكن هناك لا يطرأ أي اهتمام من قبل ستونر او جريس. جريس تظن ان أمها تغيرت، وستونر يقول لها عندما تسأله وتصر انها بالتأكيد صارت أجمل. لكنه يخبرنا هنا ان لا مشاعر يكنها لها كتلك التي كان يشعر بها من قبل. لم يدع يشعر باي شيء تجاهها، لا رغبة ولا نزوة ولا أي شيء. 

تقرر يوديت الجديدة انها ستغير كل شيء، تستقبل الناس وتتغرف على الجيران وتقرر التفرغ لابنتها فتعزلها تماما عن والدها. فنرى شخصية تتحول من شخصية انعزالية سلبية تماما الى شخصية اجتماعية منفرة تتدخل وتحوم في كل شيء وفي كل مكان.

لم تذكر رحلة يوديت المتمنية الى أوروبا الا مرة واحدة في جلسة مع الأصدقاء، فتشرد عندما تتذكر حلمها البعيد. 

لم يعد حتى للقارئ الفضول بأن يعرف أن كانت يوديث تريد الذهاب الى أوروبا ام لا. فيوديث هي الزوجة التي يريد الهرب منها الجميع. تشبه الزوجة في وصف الرجال المسنين الذين يجلسون على المقاهي يسخرون ويتذمرون من زوجاتهم، ويرتعبون خوفا امام ظهور اسم الزوجة على شاشة الهاتف فجأة.  

تمر الفصول بأحداث بالجامعة، يتعدى عمره الأربعين: ” الفى نفسه خلال هذا العام، وخاصة في شهور الشتاء، يعود مرارا وتكرارا الى تلك الحالة اللاواقعية. بدا ان بإمكانه، بمحض ارادته، ان يخرج بوعيه من الجسد الذي يحويه، ويراقب نفسه كأنه غريب مألوف يقوم بالأشياء الغريبة المألوفة التي ينبغي عليه القيام بها. كان انفصالا لم يشعر به من قبل قط، وكان يعرف ان عليه ان يقلق، لكنه كان خدرا، ولم يستطع اقناع نفسه ان للأمر أي أهمية. كان في الثانية والأربعين من عمره، ولم يكن في حياته شيء يجلب له أي متعة كما لم يكن في ماضيه شيء يهمه ان يتذكره.”

 يتعرف على كاثرين مرة اخرى- كاثرين احدى الطالبات في أحد سميناراته التي حصل بها مشكله من قبل، تطلب من مساعدة في قراءة بحثها، يذهب اليه، يستمر بالذهاب اليها، يكثر ذهابه اليها، تربطهما علاقة عاطفية، تبدأ الالسن الحديث عنهما، لا يهتما. يكملان. 

يوديث حتى تعرف ولا تهتم، تحذره ان هذه النزوات قد تؤثر عليه، وأنها زائلة بالتأكيد، وتحصل مع الكثير من الرجال بعد الأربعين. 

تأتي لحظات قاصمة، مرة أخرى الحدث الأول بالمشكلة مع الشاب ورئيس القسم. تنشأ عداوة من طرف رئيس القسم المعين للتو مع ستونر بسبب ذلك الشاب. ستونر يصر على ترسيبه ويصر رئيس القسم على العكس. 

يستغل رئيس القسم العلاقة التي بدأت بالتلاسن والاستغابة فيقرر فصل الفتاة من الوظيفة. فستونر موظف ثابتا يمكن طرده ومحمي بقوانين التثبيت. هنا نفكر كذلك ان الحبكة ستأخذ عقدتها حدية، الا ان كاثرين تترك البلدة وينتهي الامر. 

يكسر قلبه لكنه يستمر عادي.

في أحد الأيام يرجع الى البيت ويوديث تصيح بجنون. تنظر الى جريس، تقول له انها حامل. ينظر الى ابنته ويسألها ان كانت بخير. تكمل جولة صياحها بالداخل. يحل الاب الازمة مع الابنة وتخرج الم وكأنها انسانة أخرى وتبدأ الترتيب للفرح قبل ان يظهر الحمل بعلاماته على جريس. 

يسأل ستونر ابنته ان كانت تحب الشاب فتجيب بلا، كانت مجرد ليلة وغلطة لأنه كان سكرانا لا يعي ما يحدث. وهو أصلا شاب غبي مستهتر. 

تتزوجه وتذهب معه الى بلدة أخرى، يذهب هو الى الحرب ويموت. تنجب وتعيش بعيدا عن عائلتها. 

تعترف انها فعلت كل هذا لتتخلص من العيش معهم. 

يصير عمر ستونر ٦٥ سنه، ومدير القسم لا يزال هو المسؤول، يريد ان يحيله للتقاعد. يصر ستونر انه لن يتقاعد وسيستخدم السنتين الاضافيتين. ونرى من جديد التنافر والنية بالانتقام. 

يشعر ستونر ذات يوم بالتعب، يذهب الى الطبيب يتبين انه مصاب بالسرطان. 

تمضي الفصول الأخيرة والسرطان يتغلب عليه. يدور الكثير من الأحاديث الداخلية المهمة. ما يحصل للمرء وكيف يتعامل معه المحيط. كيف تدور الاحداث والناس حوله كأنه غائب لا يسمع ولا يفهم. يدور حديث بين يوديث وصديقه عن حالته الصحية امامه، فتقول ببرودتها المعهودة انه سيموت، اكله السرطان ولا تعرف ما الذي ستفعله من دونه. 

يأخذها الصديق الى الخارج لكيلا يتأثر ستونر، الا انها لا تهتم. 

بنفس القدر تهتم به، تغسله، تطعمه، يفكر كيف أصبح هو بالنهاية ابنها. اهتمت به بدل اهتمامها بابنتها الحقيقية. يفكر كيف انه ظلمها بأنه لم يحبها او يهتم بها كما يجب. 

تأتي ابنته للزيارة، يعتذر لها عن التعاسة لتي أقحمها وامها به. تقول له ابنته انها ابدا لم تفكر انها تعست بسببه. 

يمر عنه شريط حياته. يتذكر كاثرين وكيف تخلى عنها. 

يتذكر إنجازاته التي لا يعتبرها مهمة. يتذكر انه قام بما أراد ان يقوم به، أحب الادب وعمل مدرسا.  

ويموت بهدوء. في مشهد أخير يودع فيه حياته، يقترب من مجموعة الكتب. استطاع ان يحمل كتابه هو.”  كان ثمة نعومة تحيط به. وسرى في أطرافه خدر. انتابه فجأة شعور قوي بهويته، لمس طاقته. كان نفسه، وكان يعرف ما هو عليه. أدار رأسه على الطاولة المجاورة لفراشه أكداس من كتب لم يلمسها منذ وقت طويل. ترك يده تلعب عليها لوقت، تعجب من نحول الأصابع، من الأداء المعقد للمفاصل وهو يثنيها. شعر بالقوة بداخلها وتركها تسحب كتاباً من الكتب المرصوصة على طاولة الفراش. كان كتابه، وحين حملته اليد ابتسم للغلاف الأحمر المألوف الذي أبلاه الزمن”.

” وتدفق بداخله الإحساس بالفقدان الذي ظل يمنعه لوقت طويل، وغمره، فترك نفسه تنجرف لخارجه، بعيدا عن سيطرة ارادته، ولم يكن راغبا في انقاذ نفسه. ثم ابتسم بحب كأنه يبتسم للذكرى.”

كم تبدو هذه القصة اعتيادية؟ 

هنا تذكرت قصيدة نيرودا، وفكرت كم تمضي حياتنا هكذا، بلا أي معنى ولا أي قيمة، نذهب كما اتينا…. ربما ببعض الحظ مثله إذا ما كان هناك استقرار واضح- او هكذا يبدو من الخارج. 

ما تبدو عليه الأمور من تلهث وراء الحياة، الوظيفة، البيت، الأبناء، تأمينهم، مدارسهم، نشاطاتهم، التطور الوظيفي، المناصب، الحياة الاجتماعية، المظاهر.. حياة نعيشها من اجل غيرنا، وندوس بلا تردد على سعادتنا عندما نمسكها بأيدينا. نفضل ان نعيش في امان الوظيفة الزواج والبيت والمركز الاجتماعي، ونموت من الداخل. فتأتي ساعة الموت وتأخذنا… فلا يفرق على أحد موتنا كما لم تفرق عليهم حياتنا.

لا نعرف ان كان بالمحصلة ستونر عاش لا مبالاته، وعليها مات. 

ام انه كان انسانا زاهدا لا تفرق معه الحياة. 

هل كانت يوديث سبب لا مبالاته؟ في لحظة تكسر الرواية فكرة وراء كل رجل عظيم امرأة. هنا نرى شخصية لم تصبح عظيمة، ولكنها نجت بنفسها على الرغم من امرأة. على الرغم من الاكتفاء او ربما الهدية التي يحصل عليها خلال سنواته القليلة بعلاقته مع كاثرين، الا ان تضحيته بعلاقته بكاثرين على الرغم من ذهابها لحالها الا انها تنم عن انهزامية الشخصية. 

اتساءل كم كانت الشخصية بلا مبالاتها انهزامية، ام انها كانت شخصية انهزامية بسبب ضعفها وسيطرة الاخرين عليها: والده ووالدته وما اراداه له. زوجة أحبها ولم تحبه وكانت قدره، طفلة أحبها ولم يستطع حمايتها وترك الاهتمام بها بلا سؤال. 

عناده كان في مواقف غريبة لم تكن مهمة: عندما اختار الا يرجع الى القرية ربما وغير تخصصه لتخصص لا يحبه أكثر. ومع هذا عمل قرارا حاسما. وقراره بالتصدي للساب الكسول المحتال وتعرضه لخسارة كل شيء من اجل موقفه. 

في المقابل، عند المرأة التي اسعدتها، تركها لتذهب بلا اي تردد وأكمل حياته كأنها لم تكن. 

 ..
يموت ببطء..
من يصبح عبدا للعادة..
يعاود كل يوم نفس المسافات..
من لا يغير أبدا معلمته..
لا يجازف أبدا بتغيير لون ملابسه..
أو لا يتحدث أبدا مع غريب..

يموت ببطء..
من يتجنب العاطفة..
وزوبعتها الانفعالية.. 
التي تمنحنا النور في العيون..
وتصلح القلوب الجريحة..

يموت ببطء..
من لا يغير المكان..
عندما يكون حزينا..
في العمل أو في الحب..
من لا يركب المخاطر..
لتحقيق أحلامه..
من، ولو لمرة واحدة في حياته..
لا يتهرب من نصائح حساسة..

بابلو نيرودا

اترك رد

اكتشاف المزيد من نادية حرحش

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading