نصف قرن من الحياة…اكتمال قمر عشتار

بين نصف قرن واكتمال قمر، أحاول ان اداعب الكلمات لأجعل بها متسعا أكبر للحياة. نصف قرن يبدو وكأنه حياة بحد ذاتها، وبعد اكتمال القمر ماذا يتبقى؟ 

في الأسطورة العشتارية يرتبط اكتمال المرأة بدورة القمر. عشتار الهة الانوثة والخصوبة.

بلوغ القمر تمامه كان يعتبر اليوم الذي تحيض فيه عشتار وتستريح من كل اعمالها. فيتحكم القمر في ايقاعات اكتماله في حياة المرأة النفسية، فله مزاجه الخاص وطبيعته المتميزة. 

عندما تأمل الانسان السابق لياليه، كان للقمر قيمة التقديس، فارتبط بروزه وسط عتمة الليل وكأنه النطفة التي تتشكل يوميا من اجل بزوغ نهار جديد. يخرج النهار ويغيب بغياب شمسه، ويتحكم القمر بمشهد الليل بعتمته المهيبة، بانتظار ضوء يخرج ويتحرك ويغير مكانه وتوجهاته ويكبر تدريجيا حتى يكتمل. يبهر الناظر باكتماله ويرعبه افوله حتى محاقه. 

في الأسطورة العشتارية ارتبط القمر بالمرأة وكأنه الدليل على دورة الحياة، فكان بالمعتقدات تلك هو الذي ينفخ في رحم المرأة حياة، كما تلك النطفة التي كانت تخرج كل ليلة يوم جديد. 

فتنتني هذه الأسطورة بصاحبتها دوما. تشعرني بامتدادي كامرأة خرجت من رحم هذا المكان المشكل للحضارات الإنسانية الأولى.

عشتار التي ارتبط اسمها بكل اشكال الالهة، فهي الهة الحب والجمال، والهة الحرب والتضحية. هي انانا ملكة الجنة عند السومريون، نجمة الصباح والمساء- الزهرة- تلك المرأة التي تعلو جبهتها نجمة تتوجها بأشعة تنبثق منها اشعة باتجاهات ثمانية، منتصبة على ظهر اسد، وبيدها باقة زهور. 

عشتار الالهة الام… منجبة الحياة الأولى …. عشتار رمز التضحية وخوض الصعاب والقتال ببسالة وشدة، والهبوط الى الجحيم – العالم السفلي- من اجل الحبيب- تموز. 

عشتار ونجمتها. القمر ومدلولاته عليها وعلى المرأة. 

ابتذالها، تضحيتها، بسالتها، جبروتها، واصرارها دوما على منح الحياة.

عشتار التي تحولت من الهة الى غانية منذ شعر بضعفها جلجامش، فهشمت صورتها الكتب الدينية حتى تهمشت تدريجيا واندثرت مع عبور الأزمنة وسيطرت السطوة الذكورية على الحضارات الإنسانية. فلم تترك تلك الكتب من عشتار الا لقب الحقه بها جلجامش الملك المراهق، فيصفها الكتاب المقدس في سفر الرؤيا: ” الزانية العظيمة الجالسة على المياه الكثيرة التي زنى معها ملوك الارض وسكر سكان الارض من خمر زناها، فمضى بي بالروح إلى برية فرأيت امرأة جالسة على وحش قرمزي مملوء أسماء تجديف له سبعة رؤوس وعشرة قرون، والمرأة كانت متسربله بأرجوان وقرمز ومتحلية بذهب وحجارة كريمة ولؤلؤ ومعها كاس من ذهب في يدها مملوءة رجاسات ونجاسات زناه.”

على الرغم من ارتباط اسم عشتار بتموز الذي هبطت من اجله الى العالم السفلي لإعادته للحياة، الا ان جلجامش الذي ارقه افتتان عشتار برفيقه او حارسه انكدوا استطاع ان يشكل هيأته الدنيوية بالشكل الأخير عندما خاطبها في ملحمته الشهيرة: “ما أنتِ إلا موقد سرعان ما تخمد ناره في البرد أنتِ باب لا ينفع في صدِّ ريح عاصفة أنتِ قصرٌ يتحطم في داخله الأبطال أنتِ بئر تبتلع غطاءها أنت حفنةُ قيرٍ تلوِّث حاملَها أنت قربةُ ماء تبلِّل صاحبها… أنت حذاء تقرص قدم منتعلها.” 

على الرغم من تجسيد هبوط عشتار الى العالم السفلي من اجل تموز لأعظم صور العشق والتضحية، وكأن روحها وجدت ضالتها بتموز، فتركت العالم وراءها وهبطت من اجل إنقاذه. لم تطبع هذه الصورة كمحصلة نهائية في وجداننا البشري. فتضحية عشتار هذه ترمز الى أسمى درجات ابتذال الحياة في سبيل الاخر، وبحجم الالتباس التاريخي على تلك العلاقة، تبقى بالحقيقة عظيمة بحجم اسطوريتها العابرة للحضارات. تذكرني عشتار في هذا المشهد بقرية سلمة الجبارة التي حاربت ببسالة المستعمر الإسرائيلي عند النكبة..

فلم تعد التضحية من اجل الاخر هي عنوان الحروب والمخاطرة، ولكن التضحية بالأخر والاستحواذ والسيطرة هي عنوان الحضارات. 

لم يعد القمر ينجب نهارا، ولم يعد اكتماله إشارة لاكتمال خصوبة. 

فصار الناس يقتمرون باكتماله، يجوبون الارجاء كم مسهم جن…

ها انا اقتمر عمري … لربما حان وقت الجنون المطلق الان أفكر… 

تمر من خلالي الكثير من الأفكار في هذا الصدد. اكتمال…. رقم خمسة وقوته. خمسة تستخدم لدرء الحسد وابعاده. 

ينتهي العد في أصابع اليد الواحدة ويبدأ باليد الأخرى من جديد. 

اكتمال مطلق سيلحقه بالتأكيد افول تدريجي حتى نصل الى النهاية… ونصير كالقمر محاقا… فيبدأ هو من جديد… وننتهي نحن نجوما في السماء ربما، او في هبوط يغطيه تراب أبدي ربما. بالحالتين ننتهي الى ما هو محتم… محاق… يتبعه بالتأكيد نهار جديد.. ليهيئ له القمر ولو كان في بزوغه البعيد بهلال بالكاد نراه يشق طريقه او ينهي طريقه فجر يوم جديد. 

بينما ابدأ نصف عقدي الجديد، بقمري المكتمل تماما بهذه الاثناء، انظر الى جدتي المتكومة كجنين ولد للتو، كقمر ينهي دورته بعد اكتمال دورته الأخيرة من نطفة هلال الى اكتمال بدر تآكل في دورته التالية الى نطفة تندثر تدريجيا لتنتهي الى فضاء السماء وتستقر في نجمة عشتار.

أرى نفسي واقفة كطفلتي تلك البعيدة، كانت به هلالي المشكل لبدري الان. كتلك الصور في قراءات بعيدة من الأمير الصغير ربما، تناديني اليها لنبدأ جولة جديدة من الاكتمال للانتهاء الأخير. ذلك الذي أودع فيه جدتي كل يوم. كذلك النهار الذي ينتظر ليلا يملأه قمر، أفتش عن جدتي، انتظرها يوميا، وارى باستسلام للكون في دورته افولها المنتظر. تنتظرها نجمة عشتار لتزيد اشعتها قوة في سمائنا بالتأكيد. 

تلك النجمة التي لا تفارق القمر ابدا هي نجمة عشتار، هي الكون الذي نصيره بعد افول اغلاق قمرنا لدورته الأخيرة. تلك الدورة التي تبدأ بنصفها الجديد في لحظة الخمسين.

تبدأ لتمنحنا قوة الطفل الذي ولد للتو قبل خمسين سنة. قوة كانت كامنة في لحظة الميلاد انبثقت مع انطلاق ذلك الجنين الذي كنته الى الحياة. كيف يستطيع الجنين ان يخرج من أعماق رحم محكم الاغلاق مسيطر تماما ويصنع لنفسه ومن نفسه وبنفسه حياة؟ ذلك الرحم الذي خرجنا منه، يشبه السماء بلياليها التي يضيؤها قمر يدور بدورتها نحو الاكتمال ونحو الافول بنفس الوهج والدلالات. 

وكأن الكون يمنحنا فرصة كاملة للحياة كما يجب… بحلة نكون فيها بقدر النضوج الذي عشنا لنكونه ونشكله. 

بالخمسين تبدأ الحياة كما يجب ان تكون بيوم او بخمسين سنة قادمة أخرى… نضيء فيها الأرض على امل نهار جديد كل يوم. 

اترك رد