تشكّل الرأي العام: لماذا يغيب الوعي رغم توفّر المعلومة؟
منذ ان تعرفت على الدكتور سلام فياض وانا اسمع عبارة نيو ليبرالية. الحقيقة انني لا افهم ما هي الليبرالية وما هي الليبرالية الجديدة في علوم الاقتصاد إذا ما كانت الفكرة متعلقة بالدخل. كعادتي لا افهم من الرياضيات الا ابجدياته، ولكن عند المفردات أحاول الفهم.
وطبعا العبارة الأخرى المصاحبة لهذه العبارة هي ” اغرقنا بالقروض”.
اتوقف عند الإغراق بالقروض لأنني احدى الغرقى في القروض. ولكني دوما أتذكر كم انقذت القروض حياتي. لأنها في حالتي كانت أكثر من كونها قرض شقة او سيارة او رحلة. ولكنها بالفعل مغرقة. تشعر بغرقها عندما تمر الأيام والسنوات بك وتظن انه حان الوقت لأن تتنفس. فتكتشف ان الغرقى لا يمكن لهم التنفس. ولكن هل العن سلام فياض على قروضي التي اعطتني إياها البنوك الإسرائيلية كذلك؟
قبل أسابيع قليلة انتشر مقال من قدس برس عن مقال بمدونة أمريكية تسمى المدونة العالمية للفساد، تناول فساد السلطة الأخير بإشارة كان بها الكثير من الغبن والمعلومات المضللة والخاطئة عن الحكومة بين السنوات ٢٠٠٨-٢٠١٢ بالإشارة الى مقال عن تايمز اوف إسرائيل عن التايمز اللندنية لتقرير لم يكن موجود بعد وعندما وُجد لم يذكر به أي إشارة للفساد. كنت قد تناولت هذا بمقال مطول. حاولت متابعة الامر لأرى أي ردة فعل لهذا المقال المضلل، ووجدت ردا عليه وافيا من قبل جنيفير ويدنير احدى المتخصصات بالسياسات العامة وفترة سلام فياض والتي تؤكد ان هناك تشويشا للحقائق وغبنا واضحا في ذلك المقال، ولكن لا اثر اكثر من هذا. لا رد من صاحبة المقال ولا اعتذار ولا تصحيح للمعلومات المغرضة. اما بالنسبة لقدس برس التي ترجمت المقال لم تهتم كذلك بالتأكد من صحة المعلومات ولم تحاول حتى الاعتذار او تصويب الامر بعد تبين غبن المقال.
ولكني اعترف ان الفأر لعب بعبّي للوهلة الأولى عند قراءتي الأولى للمقال، كيف تكون كاتبة هذا المقال بهذه الثقة؟ لم يكن الامر صعبا في التحقق، فكان بحثا وافيا اخذ بعض الوقت مني كفيلا بأن اعرف الحقيقة كاملة بصدد هذه التقارير الحقيقية والمزعومة منها. ولكني تذكرت نقاشا دار بيني وبين الشهيد نزار بنات في مثل هذه الأيام من العام الماضي عندما تعرفت على الدكتور سلام فياض. قال لي نزار بفخر انه كان بالمظاهرات التي خرجت ضد إضافة الضرائب في زمن سلام فياض. كان نزار عنيدا، ولكنه حقّاني. كان شديد الكبرياء، ولكنه ينزل من علياه عند مواجهته بالدلائل والمنطق. رتبنا موعدا للحديث عما يخالج نزار من أفكار، ويخالجني كذلك. وكان من السهل مجابهة الاعلام بالحقيقة.
عندما بدأت حمى الانتخابات، جرى حديث قبل أخير بيننا، لم يكن قد حسم امره بشأن القائمة التي سيشكلها بعد. قال لي بكبريائه المعهود: لن ارحم أحد عند كشف الأمور امام الناس وسلام فياض من ضمنهم. قلت له: انا اثق بأنك لن تقول الا الحقيقة، ولكني اريد ان اذكرك واحذرك بالا تنساق الى ما يرضي الجمهور من اجل ارضائه. قل الحقيقة كما هي.
في الحديث الثلاثي الذي دار بيننا عن موضوع رفع الضرائب حينها والمظاهرات، انتهى اللغط بالنسبة لي، فكنت اسمع الحوار الدائر بين الاثنين واحكم بالمنطق البديهي للأمور. نفس المنطق الذي فهمه نزار وتأكد منه حينها.
بينما لعب الفأر بعبي تذكرت الحديث واثناء بحثي عن موقف سلام فياض الموثق تعثرت ببعض الفيديوهات على اليوتيوب.
فوجدت هذ الفيديو الذي يشرح فيه سلام فياض القانون المعدل لضريبة الدخل مقارنة مع القانون القديم. لفتني مجهوده الحقيقي في عرضه كأستاذ مجتهد وجاد في شرح الدرس وتأكده ان يفهمه الطلاب. نظرت الى عدد المشاهدات التي لم تتعدّ ٢٠٠٠ مشاهدة وتساءلت لماذا لم يشاهد الشعب الذي لعن الرجل على رفعه لضريبة الدخل وتعديل القانون؟ الفيديو ليس طويلا، والشرح فيه معد لأشكالي من الذين لا يفهمون من الأرقام الا اساسياتها. في نهاية الفيديو الذي يشرح فيه الدكتور فياض بالأرقام بخط يده على اللوحة المتقلبة كتب عبارة “هذه هي الحقيقة” بالأحمر.
لو شاهد نزار حينها هذا الفيديو، الذي فهمه مباشرة بشرح الدكتور سلام له عنه بعد تسعة أعوام، هل كان سيخرج بالمظاهرات؟ نزار قال لنا في بداية اللقاء يومها انه عرف فيما بعد ان من موّل تلك المظاهرات في الخليل كان “رجال” “المصري”، ومع هذا صعد الركب وحارب فكرة روّجها ونظّمها رجال الاعمال الذين عدّل هذا القانون من اجل زيادة الضريبة على دخلهم. قادني بحثي الى فيديو اخر مقسّم الى خمسة أجزاء. قد يكون من المضحك عمل هذه الفيديوهات القصيرة وكأنها خصصت لترسل المعلومات اسرع وليتفهمها الجميع، ومع هذا لا اقبال كان عليها حينها، ولا حتى بعد عشرة أعوام عندما يتم ذكر اسم سلام فياض ويرافقه بدمغة السلام الاقتصادي والبطالة والنيوليبرالية واغراق الموازنة.
أتذكر دوما مقطعا اسرني في رواية سنونو كابول لياسمينة خضرا، في مشهد رجم امرأة زانية. كيف يتهافت الجميع على الرجم نحو تلك الحفرة حيث الرأس يتلقف الرجمات من كل اتجاه. مار الطريق يرجم. رجم يبدأ بشخص وينتهي ليكون جماعيا بعملية قتل جماعية لشخص لا يرى منه الا رأسه داخل حفرة. اجمع الجميع لعي جرمه حتى ولو لم يعرفوه من قبل، ولم يروه، ولم يسمعوا عنه. لا يأبهون لظلمه او براءته. لا يأبهون أصلا للجرم. الأصل هو القيام بما يقوم به الاخرون. رجم حتى الموت.
أفكر بنزار الذي تم تصفية جسده بسبب رأيه ومحاربته من اجل ان يكون لأبنائه مستقبلا أفضل. وأفكر بسلام فياض الذي تمت محاولة تصفيته السياسية لأنه أراد تحقيق حلم الاستقلال المستحيل على الرغم من يقينه بصعوبته واستحالته.
أفكر بكلمات غسان كنفاني بكتابه الخاص بثورة ال ١٩٣٦.
اسأل نفسي مرة أخرى ضمن المرات المتكررة، اين يكمن الخلل؟ لماذا لا نقدر الكفاءات عندما تخرج امامنا وتحاول العمل من اجل هدفنا الحقيقي في التحرر.
التحرر الذي يحمل بمفهومه الكبير التحرر من الاحتلال، ولكنه يحمل في تفاصيله تحررنا من تبعيتنا واستقلالنا. استقلالنا الذي يحمل كذلك بمفهومه الكبير استقلالنا السياسي، ولكنه يحمل في تفاصيله استقلالنا بفكرنا الخاص وقدرتنا على التفكير لأنفسنا.
لماذا نصر على اغتيال الابرار منا دوما ومن ثم تأبينهم والبكاء على خسارتهم لاحقا؟
هل تكمن المشكلة بنا كأفراد؟ كفصائل سياسية؟
ام هي مشكلة بنا كشعب؟
شعب تعود على العيش تحت الاستعمار، والانتداب، والاحتلال، والتسلط.
“نادية، لا يمكن لشخص ان يغير هذه المنظومة. لن يسمح له احد. الشعب لن يسمح.هذه كانت كلمات صديق لي بالامس على هامش الحديث بينما كنا نتمشى مع الكلاب. نعزي انفسنا بما يجري بالشارع والحي من تحولات مرعبة. انعدام الامن وغياب الاخلاق وانتشار السلاح وسط تفحيط مدوّي لسيارات تقود نحو الموت.