تخطى إلى المحتوى

بين عقوبة الاعدام والافلات من العقاب

بين عقوبة الإعدام والافلات من العقاب

تبدو الأيام في الأشهر الأخيرة من السنة تتزاحم لتنهي ما تبقى من أيام، وسط انحسار او ربما توقف تام لأي حركة مهمة يمكن البناء او التعويل عليها في مستقبل هذا الوطن. وسط هذا التوقف تنعدم سبل الحياة الامنة من كل النواحي، فلم نعد نميز من القادم الا الصدمة الأولى لسماع فاجعة جديدة كل يوم. 

لا اعرف ان كانت هذه المقدمة السوداوية مرتبطة بقراءتي الأخيرة لمذكرات رجل محكوم عليه بالإعدام (١٨٨٥) ومن قبلها البؤساء (١٨٦٢) للكاتب الفرنسي فكتور هوغو (١٨٠٢-١٨٦٨). بالعادة، يقترن مزاجي بالقراءة بالمحيط حولي ولا اعتقد ان اختياري لهاتين القراءتين البائستين في غضون أسابيع متتالية مجرد صدفة. فحياتنا لا تختلف عن مجريات البؤساء من اختلاطات إنسانية يلوثها البؤس وتنعدم فيها السبل وسط بركان انتهى هيجانه للتو من مجتمع انتفض عن بكرة ابيه فقلب موازين حكمه رأسا على عقب. هو التشاؤم الذي يسوّس الحياة كما وصفه هوجو. ورواية رجل محكوم عليه بالإعدام لا تبدو خارجة عن وحي المرحلة التي عاشها هوغو في رواية البؤساء. استوقفتني عبارة رافقتني: المحنة تصنع الرجل ورغد العيش يصنع الوحوش. محنتنا كشعب قد تصنع منا رجالا، ورغد عيش حكامنا هو ما يصنع منهم وحوشا في اعيننا. 

يكاد لا يغيب عن قارئ اسم فيكتور هوغو ودوره في الثورة الفرنسية. أفكر بهذه العبارة واعيد السؤال على نفسي، هل يمكن ان يكون الجميع على معرفة بهوغو بالفعل؟ فما زلت اشعر بعجزي التام من احباط اصابني ويرفض تركي منذ أيام بعد ان دار حديث بيني وبين مجموعة من الشبان والشابات في العشرينيات من أعمارهم والذين لم يعرفوا من هو ادوارد سعيد. وان كان اسم ادوارد سعيد قد بدا كاسم نخبوي ربما لا يتوجب معرفته من عامة الشعب الفلسطيني، جربت أسماء أخرى، فلم تكن صدمة عدم معرفة أي منهم عبد القادر الحسيني، لأن الصدمة كانت بعدم معرفة أي منهم لفيصل الحسيني. سألت بكل جدية عن المناهج التي تعلموا منها، وكان رد الشاب ممازحا وبكل جدية انه لا يهتم الا بجمع المال، وان سألته عن بوس الواوا فهو يعرف من غناها. 

في تلك المسافة بين وبين هؤلاء الشبان التي لا تبتعد عن بضعة أمتار. نتلاقى يوميا بين ابتسامات وسلامات، ونعيش في عالمين لا يلتقيان اطلاقا الا من امرين: بوس الواوا و”القسام”. 

القسام اخذ نصيبه من المعرفة، ليست التاريخية، ولكن تلك المرتبطة بالمقاومة. فجاء الشاب مكملا حديثه في محاولة جادة منه ان علي ان اسأله بما يمكن معرفته فقال لي: اسأليني ان كنت اعرف الشيخ احمد ياسين، الرنتيسي؟ 

فكرت بذلك الحديث على مدار الأيام الأخيرة، اين نحن من كل شيء. كيف يعرف الشباب بكل سهولة وفخر القسام والرنتيسي واحمد ياسين من جهة، وبوس الواوا وهيفاء وهبة من جهة أخرى في مفخرة للمعلومات العامة؟ 

ذكرني الحديث بالمشهد المتداول كذلك بالسعودية ضمن مهرجان الرياض من قبل مؤدي المهرجانات الذين تم فصلهم من نقابة الموسيقيين بمصر. بيع تذاكر الليلة الأولى واضطرار المهرجان لعمل حفل اخر بسبب الطلب. مشهد مليء محتشد بالمشاهدين وسط الديار المقدسة وتغيير كلمات اغنية تلمسا بحشمة المكان من “اشرب خمور وحشيش” الى “تمور وحليب”، ومن ثم تداول صور للمغنين وهم بلباس الطواف الخاص بأداء العمرة برحاب المسجد الحرام. 

لا اعرف كيف يمكن ان نفهم ما يجري وكيف لنا ان نقيمه ونحلله؟ صرنا مشدودين بداخل الاضداد. بهذا القرب من الشيء وضده بطريقة غير مسبوقة. 

من كل النواحي، لست ضد الانفتاح على الثقافات بكل اشكالها، ولكن ان تكون الثقافة عنوانها بوس الواوا وسكر محلي فنحن في وضع لا نحسد عليه. نفس هؤلاء الناس هم من يرون في المقاومة حياة ويكون القسام مصدر فخرهم، ويغسلون ذنوبهم بعد “خمور وحشيش” (كلمات الأغاني التي يؤديها حمو بيكا لا يمكن حتى التفكير بكتابتها لانحطاطها) الليلة الفائتة في رحاب الكعبة والبيت الحرام. 

في سياق ربما متصل وربما لا، لم تعد السياقات مهمة وسط كل ما يجري من غرائب. جاء الحكم بالإعدام على الرجل الذي قام باغتصاب طفلة في غزةمرحبا به، في وقت نشهد فيه زيادة في هذه الجرائم. 

كنت أفكر في موضوع الحكم بالإعدام كعقوبة في حدها الأقصى للحد من الجرائم التي لا يتم التوقف عن اقترافها. فمن امن العقاب ساء الادب. فماذا لو كانت عقوبة الإعدام هي ما يقع كذلك على مقترفي الجرائم ضد النساء التي تتزايد كذلك بوتيرة لم نعد نستطيع اللحاق بها لعدها والوقوف عندها. فجريمة قتل صابرين (٣٠ عام) قبل أسابيع قليلة انتهت بفراش عطوة ١٠٠٠ دينار، في وقت يتم فيه قتل وحرق الأخضر واليابس في جرائم قتل وقعت نتيجة شجار بين شابين على مصف سيارة. وهذا لا يعني ان عقوبة الإعدام  امر يجب التسليم بقبوله.

يشير هوغو في روايته مذكرات رجل محكوم عليه بالإعدام الى موضوع إيقاف العمل بهذا القانون في فرنسا حينها من قبل الملك، ولكن كان الهدف حينها انقاذ ستة مسؤولين من العقوبة. ما ان نجوا عادت العقوبة لتطال المساكين والمجرمين على حد سواء: من يسرق الخبز كان يرسل الى المقصلة، كما من يقتل نفسا بريئة بسبب نزوة عابرة. 

اترك رد

اكتشاف المزيد من نادية حرحش

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading