لطيفة يوسف …بنت النكبة…المرأة المبدعة… وداعاً

التقيت بلطيفة قبل سنوات في القاهرة لتصبح صديقة مقربة مني. كاسمها، لطيفة حملت لطف الكون. كانت تذكرني بخالتي الراحلة لطيفة. كم ظننت حينها ان للأسماء واصحابها حصة من الشخصية والحظ والمصير. 

بقدر اللطف الذي تحمله وتوزعه على من حولها، كانت مثقلة بخيبات الناس والدنيا من حولها. قررنا في احدى النقاشات ان اكتب مذكراتها ويكون عنوانها “مذكرات مناضلة ساذجة\ انضحك عليها”.

اللطف والسذاجة وصفة للاستغلال في مجتمعاتنا التي لا تفهم قيمة المعادن الاصيلة. 

عاشت وهي تتمنى ان يتم تقديرها في وطنها، وربما حققت امنيتها عندما حصلت على جائزة فلسطين للآداب والفنون والعلوم الإنسانية عن الفنون لعام ٢٠٢١ نظير ابداعها الفني قبل أشهر قليلة. لأول مرة اشعر بأهمية هكذا جوائز، فهذه من المرات القليلة التي يتم فيها تكريم من يستحق التكريم لأن فنها حمل بين طياته القيم الثقافية الإنسانية والوطنية وشكّلت إضافة للذخيرة الثقافية والمعرفية الوطنية كما وصفها السفير الفلسطيني في القاهرة ينعيه.

ولكن كان حلمها ان تستطيع ان ترجع الى الوطن لتؤمن ابناءها إذا ما غادرت هذه الدنيا. كانت لطيفة يوسف على قائمة المنع من الدخول الى الوطن بسبب خطورتها على الامن!!

مرة أخرى كم تحمل الأسماء معاني حياة الانسان: لطيفة يوسف. تلك اللطيفة عاشت كيوسف الذي غدر به اخوته الذين استأمنهم على نفسه. وعاشت على امل الرجوع.. لكن قدرها لم يكن كقدر يوسف.

 آلمني رحيلها وسط رحيل الأقرب الى قلبي- جدتي- فقلبي لا يزال يبكي الرحيل الذي يقهر الانسان ويذكره بعجزه. افهم معنى الحزن المرتبط بالموت لأول مرة بهذا الكم من النضوج ربما. كما كانت في حياتها لا تزاحم على شيء، هي هكذا في موتها، لا تزاحم على الحزن.

عندما تعرفت على لطيفة كتبت عنها مقالاً، ظننت حينها، كما اظن اليوم، ان تكريم المرء في حياته وتقديره اهم للمرء من أعظم رثاء عند موته. أسعدها ما كتبته وربما كنت قد ساهمت حينها ولو للحظة بالقول انها قيمة عظيمة بإنسانيته وبانعكاس فنها التي ترسمه ريشتها. 

حملت بلوحاتها وجع الوطن. وجع الرحيل والتهديد بعد بالترحيل بعد كل محاولة للاستقرار. 

حملت ريشتها سلاحاً وأطلقت صراخها وقاومت وتحملت وعكست المعاني لكلمات لم تستطع ان تعبر عنها دوما. 

حلمت بوطن بحجم الكفاح التي كانت جزءا منه، وماتت قبل ان ترجع الى وطن لا يحمل من معناه الا كلمة لا تستخدم الا لاستهلاك الشعارات. 

ولدت لطيفة يوسف سنة ١٩٤٨ بأسدود. استقرت في مصر بعد رحلة شتات فلسطينية من دمشق الى بيروت وتونس ثم غزة ورام الله. عملت دبلوماسية بالمندوبية الدائمة لدولة فلسطين لدى جامعة الدول العربية بين الأعوام ٢٠٠٢ و٢٠٠٨. عملت كذلك في الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون الفلسطيني، وعملت بوزارة الثقافة منذ العام ١٩٩٥ وحتى العام ٢٠٠٨. كانت تشغل عضوية في الاتحاد العام للتشكيليين العرب، وعضوية في الاتحاد العام للتشكيليين الفلسطينيين والاتحاد العام للمرأة الفلسطينية.

أقامت الفنانة لطيفة يوسف عشرات المعارض الفردية والمشتركة، وأشرفت على مئات المعارض الفنية العربية والدولية المختلفة في فلسطين ومصر ولبنان والأردن وتونس، باريس، المجر، إيطاليا، هولندا، النمسا، الولايات المتحدة الأمريكية. حصلت على عدد كبير من التكريمات والجوائز والميداليات وشهادات التقدير، كان أبرزها جائزة الأوسكار في ملتقى فناني الشرق الأوسط الذي شارك فيه مجموعة كبيره من فناني العالم العربي بالقاهرة ٢٠١٢، وفي عام ٢٠١٩ كرمتها وزارة الثقافة المصرية ضمن ١١ مبدعة عربية في الملتقى الثاني للمبدعات العربيات.

لطيفة ابنة النكبة، المبدعة اللطيفة، رحلت، ولكنها ستخلد بأعمالها وذكراها الطيب لكل من صادفها.

“ان لطيفة كميلادها الذي جاء مع النكبة … قصة تهجير وتشرد وغربة من بلد الى بلد في البحث عن يوم يكون الوطن فيه محررا لم تأت. ولأنها كالنكبة، ليست حدثا عابرا انتهى، وما يقوم به في كل سنة هو مجرد تخليد لذكراه. نكبة لم تنته منذ سبعين عام ولا تزال تتجدد يوميا. فتخليدها لا يمكن لأنها حدث مستمر. وهكذا هي لطيفة. ليس امرأة تكرم في يوم محدد او تقوم بعمل من اجل القضية في مناسبة ما. انها امرأة في مهمة. امرأة تجري فيها عروق فلسطين وتهمس بحنين باسم بلدتها اسدود.

كالنكبة ربما، اصبحت في اذهان البعض ذكرى سنوية، يتم التعامل معها من قبل اصحاب السلطة التي طالما خدمتهم بينما كانت تخدم القضية من خلال نشاطها في الجبهة ومنظمة التحرير. الا ان حضورها يطغو على اي تهميش. بلا شك ترى انسانة يحترمها الجميع ويقفون امامها بانحناء ووقار وتقدير.

أعمال لطيفة متجددة، وكأن ريشتها تمسح بلطافة اسمها. وبها دمعة لا تجف لا يمكن الا تشعر بها في كل اعمالها.

بينما كنت انظر بإعجاب للوحتين بسيطتين بهما بعض الخطوط الموشحة بالسواد وقطرات حمر، اقتربت مني وقالت هامسة: “هذه لوحة الشهيد. رسمتها يوم اغتيال باسل”.

شردت في نظري الى الصورة وكأن ما بقي هو تلك الاثار بينما كان جسده يسحب ودماءه تتبعثر.

بلا شك، ان لطيفة قد جابت الارض بأقطارها وحصلت على اعتراف وتقدير خلال مسيرتها النضالية والفنية على حد سواء.

كتاريخ هذا الوطن منذ نكبته، خطى لطيفة كانت دائما ثابتة، مقتضبة، لا تسعى الا لوجود مستحق بقدر حقها بالوجود.

لطيفة يوسف، امرأة تستحق ان يحتضنها وطن في عمر عمره من عمر نكبة هذه الارض. عمر يحتاج مع الزمن وعتيه الى دعم واحتضان لا الى مجرد اعتراف شكلي وتقدير رمزي.

هذه المرأة تشكل رمزا للقضية الفلسطينية في وجدانها، في اصالتها، في اخلاصها، في ايمانها المطلق ان الارض لا بد ان تعود…حتى ولو انتهت حياتها هذه وهي في شتات تخاف من يوم يأتي به موت لا تعرف بأي ارض جسدها سيكون.

في وقت نرى بلطيفة يوسف مثالا حيا للنضال الاصيل …كالقضية هذه التي ندعي جميعا الموت من اجلها … تذكرني لطيفة مرة تلو المرة انها كالنكبة، على امل يوم تنتهي النكبة فيه الى تحرر. الا ان كل المؤشرات تؤكد ان الفرج ليس بقريب. الا انها تبقى شاهداً يستمر بالتجسد لتذكيرنا ان هذه القضية لا تزال هي القضية الاولى.”

لطيفة يوسف …بنت النكبة…المرأة المبدعة… وداعاً

التقيت بلطيفة قبل سنوات في القاهرة لتصبح صديقة مقربة مني. كاسمها، لطيفة حملت لطف الكون. كانت تذكرني بخالتي الراحلة لطيفة. كم ظننت حينها ان للأسماء واصحابها حصة من الشخصية والحظ والمصير. 

بقدر اللطف الذي تحمله وتوزعه على من حولها، كانت مثقلة بخيبات الناس والدنيا من حولها. قررنا في احدى النقاشات ان اكتب مذكراتها ويكون عنوانها “مذكرات مناضلة ساذجة\ انضحك عليها”.

اللطف والسذاجة وصفة للاستغلال في مجتمعاتنا التي لا تفهم قيمة المعادن الاصيلة. 

عاشت وهي تتمنى ان يتم تقديرها في وطنها، وربما حققت امنيتها عندما حصلت على جائزة فلسطين للآداب والفنون والعلوم الإنسانية عن الفنون لعام ٢٠٢١ نظير ابداعها الفني قبل أشهر قليلة. لأول مرة اشعر بأهمية هكذا جوائز، فهذه من المرات القليلة التي يتم فيها تكريم من يستحق التكريم لأن فنها حمل بين طياته القيم الثقافية الإنسانية والوطنية وشكّلت إضافة للذخيرة الثقافية والمعرفية الوطنية كما وصفها السفير الفلسطيني في القاهرة ينعيه.

ولكن كان حلمها ان تستطيع ان ترجع الى الوطن لتؤمن ابناءها إذا ما غادرت هذه الدنيا. كانت لطيفة يوسف على قائمة المنع من الدخول الى الوطن بسبب خطورتها على الامن!!

مرة أخرى كم تحمل الأسماء معاني حياة الانسان: لطيفة يوسف. تلك اللطيفة عاشت كيوسف الذي غدر به اخوته الذين استأمنهم على نفسه. وعاشت على امل الرجوع.. لكن قدرها لم يكن كقدر يوسف.

 آلمني رحيلها وسط رحيل الأقرب الى قلبي- جدتي- فقلبي لا يزال يبكي الرحيل الذي يقهر الانسان ويذكره بعجزه. افهم معنى الحزن المرتبط بالموت لأول مرة بهذا الكم من النضوج ربما. كما كانت في حياتها لا تزاحم على شيء، هي هكذا في موتها، لا تزاحم على الحزن.

عندما تعرفت على لطيفة كتبت عنها مقالاً، ظننت حينها، كما اظن اليوم، ان تكريم المرء في حياته وتقديره اهم للمرء من أعظم رثاء عند موته. أسعدها ما كتبته وربما كنت قد ساهمت حينها ولو للحظة بالقول انها قيمة عظيمة بإنسانيته وبانعكاس فنها التي ترسمه ريشتها. 

حملت بلوحاتها وجع الوطن. وجع الرحيل والتهديد بعد بالترحيل بعد كل محاولة للاستقرار. 

حملت ريشتها سلاحاً وأطلقت صراخها وقاومت وتحملت وعكست المعاني لكلمات لم تستطع ان تعبر عنها دوما. 

حلمت بوطن بحجم الكفاح التي كانت جزءا منه، وماتت قبل ان ترجع الى وطن لا يحمل من معناه الا كلمة لا تستخدم الا لاستهلاك الشعارات. 

ولدت لطيفة يوسف سنة ١٩٤٨ بأسدود. استقرت في مصر بعد رحلة شتات فلسطينية من دمشق الى بيروت وتونس ثم غزة ورام الله. عملت دبلوماسية بالمندوبية الدائمة لدولة فلسطين لدى جامعة الدول العربية بين الأعوام ٢٠٠٢ و٢٠٠٨. عملت كذلك في الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون الفلسطيني، وعملت بوزارة الثقافة منذ العام ١٩٩٥ وحتى العام ٢٠٠٨. كانت تشغل عضوية في الاتحاد العام للتشكيليين العرب، وعضوية في الاتحاد العام للتشكيليين الفلسطينيين والاتحاد العام للمرأة الفلسطينية.

أقامت الفنانة لطيفة يوسف عشرات المعارض الفردية والمشتركة، وأشرفت على مئات المعارض الفنية العربية والدولية المختلفة في فلسطين ومصر ولبنان والأردن وتونس، باريس، المجر، إيطاليا، هولندا، النمسا، الولايات المتحدة الأمريكية. حصلت على عدد كبير من التكريمات والجوائز والميداليات وشهادات التقدير، كان أبرزها جائزة الأوسكار في ملتقى فناني الشرق الأوسط الذي شارك فيه مجموعة كبيره من فناني العالم العربي بالقاهرة ٢٠١٢، وفي عام ٢٠١٩ كرمتها وزارة الثقافة المصرية ضمن ١١ مبدعة عربية في الملتقى الثاني للمبدعات العربيات.

لطيفة ابنة النكبة، المبدعة اللطيفة، رحلت، ولكنها ستخلد بأعمالها وذكراها الطيب لكل من صادفها.

“ان لطيفة كميلادها الذي جاء مع النكبة … قصة تهجير وتشرد وغربة من بلد الى بلد في البحث عن يوم يكون الوطن فيه محررا لم تأت. ولأنها كالنكبة، ليست حدثا عابرا انتهى، وما يقوم به في كل سنة هو مجرد تخليد لذكراه. نكبة لم تنته منذ سبعين عام ولا تزال تتجدد يوميا. فتخليدها لا يمكن لأنها حدث مستمر. وهكذا هي لطيفة. ليس امرأة تكرم في يوم محدد او تقوم بعمل من اجل القضية في مناسبة ما. انها امرأة في مهمة. امرأة تجري فيها عروق فلسطين وتهمس بحنين باسم بلدتها اسدود.

كالنكبة ربما، اصبحت في اذهان البعض ذكرى سنوية، يتم التعامل معها من قبل اصحاب السلطة التي طالما خدمتهم بينما كانت تخدم القضية من خلال نشاطها في الجبهة ومنظمة التحرير. الا ان حضورها يطغو على اي تهميش. بلا شك ترى انسانة يحترمها الجميع ويقفون امامها بانحناء ووقار وتقدير.

أعمال لطيفة متجددة، وكأن ريشتها تمسح بلطافة اسمها. وبها دمعة لا تجف لا يمكن الا تشعر بها في كل اعمالها.

بينما كنت انظر بإعجاب للوحتين بسيطتين بهما بعض الخطوط الموشحة بالسواد وقطرات حمر، اقتربت مني وقالت هامسة: “هذه لوحة الشهيد. رسمتها يوم اغتيال باسل”.

شردت في نظري الى الصورة وكأن ما بقي هو تلك الاثار بينما كان جسده يسحب ودماءه تتبعثر.

بلا شك، ان لطيفة قد جابت الارض بأقطارها وحصلت على اعتراف وتقدير خلال مسيرتها النضالية والفنية على حد سواء.

كتاريخ هذا الوطن منذ نكبته، خطى لطيفة كانت دائما ثابتة، مقتضبة، لا تسعى الا لوجود مستحق بقدر حقها بالوجود.

لطيفة يوسف، امرأة تستحق ان يحتضنها وطن في عمر عمره من عمر نكبة هذه الارض. عمر يحتاج مع الزمن وعتيه الى دعم واحتضان لا الى مجرد اعتراف شكلي وتقدير رمزي.

هذه المرأة تشكل رمزا للقضية الفلسطينية في وجدانها، في اصالتها، في اخلاصها، في ايمانها المطلق ان الارض لا بد ان تعود…حتى ولو انتهت حياتها هذه وهي في شتات تخاف من يوم يأتي به موت لا تعرف بأي ارض جسدها سيكون.

في وقت نرى بلطيفة يوسف مثالا حيا للنضال الاصيل …كالقضية هذه التي ندعي جميعا الموت من اجلها … تذكرني لطيفة مرة تلو المرة انها كالنكبة، على امل يوم تنتهي النكبة فيه الى تحرر. الا ان كل المؤشرات تؤكد ان الفرج ليس بقريب. الا انها تبقى شاهداً يستمر بالتجسد لتذكيرنا ان هذه القضية لا تزال هي القضية الاولى.”

2 comments

  1. أرفع رأسى عاليا بك ياسيده نادية وأتمنى أن ألقاك يوما، لأفخر أمام ألعالم أننى رأيت وجلست مع إنسانه عظيمة، حملت راية العروبة عاليا، وطبعا راية فلسطين. كل ما ورد عنك بخصوص ألسيدة لطيفة كان رائعا. أدامك ألله سيفا على رقاب كل أعداء فلسطين.

اترك رداً على محمد غازىإلغاء الرد