صالون هدى: عرّى صورة الفن امامنا
الحديث من هذه اللحظة ليس بصدد العري والتعري، ولكنه سيتناول الأفكار الخبيثة التي تم زجها كالسم بالفيلم منذ اول لحظة في فيلم صالون هدى. ما حصل في هذا العمل هو تعرية الفن من الفن والباسه القضية الفلسطينية ثوبا.
ولكن قبل كل هذا سأتكلم عن التمثيل.
بالعادة أصفق وأشجع العمل الفني الفلسطيني على الرغم من عدم اعجابي به جملة وتفصيلا. فالفن الحقيقي بكل ملامحه ومكوناته اخر. فحتى هذهاللحظة لم تخرج الحركة الفنية التي نراها فنانا يرقى لان يكون حقيقيا. لم يصعد نجم أي منهم الا من خلال فيلم عنوانه القضية الفلسطينية. وما خلفذلك، أدوار بأحسن احوالها تقدم للسينما الغربية الإرهابي بشكله الفلسطيني الأصيل.
وان كان هناك فن حقيقي فهو لا يصلنا. لأنه وبكل اسف، لا أحد يستثمر بالمواهب الحقيقية. فهناك بالتأكيد مواهب تنتظر اكتشافها على خشبات المسارح المحلية تبقى تراوح مكانها الى الأبد. او حتى تموت ونترحم على إنجازات لم نعرها انتباها ولم نلتفت لها وامتنا قبل ان يميتها اجلها. لأن المواهب الحقيقية لا تفصل هويتها عن انتمائها عن ماهيتها. هذا ما يشكل الانسان من مباديء. والفنان الحقيقي لا يساوم. ومن اجل هذا لا يطفو امامنا الا ما نراه من تساوق وتسابق باسم الفن.
تبدو الديباجة التي ركضت وراءها منذ كنت صغيرة قديمة الآن، ولكنها بدأت من هناك. منذ تألق محمد بكري في دور الإرهابي بفيلم الصخرةلأنطونيو بانديراس، ومن ثم توالت عليه الأدوار التي كان صناعها بحاجة لشخصية الإرهابي بلا تكلفة وعناء العمل على الممثل الأوروبي الخالصمن هيئة الإرهاب الشرقي.
وكلما توحل هؤلاء بتلك الأدوار العالمية كلما صعد نجمهم المحلي وصاروا عالميين، لنراهم فجأة ايقونات العمل الوطني التحرري في دور جديد. فيحالة محمد بكري كانت جنين جنين.
يبدو ان “الرزقة” الجديدة صارت القضية. رزقة كبيرة ومليئة بالكواكب الأخرى والنجوم. جعلت من هؤلاء يسطعون في فلك كانوا يحلمون به، ونحنمن على الأرض نراهم من بعيد ونصفق لوميضهم بسماء قد يكون لنا فيها مكان.
برع محمد بكري في تقديم شخصية الفلسطيني الإرهابي، كما برع كامل باشا في فيلم القضية ٢٣ بتقديم شخصية الفلسطيني التائه عن نفسه ومنها ولاحول ولا قوة له الا انه يحاول ان يعيش. وبرع علي سليمان في دور على ب٢٠٠ متر (ربما يكون فيلم ٢٠٠ متر هو الفيلم الوحيد بهذه القائمة غيرالملوث بخبث ـ مؤقتا ربما-)
اما منال عوض، وهي الأكثر شعبية وتواجدا منذ ظهورها على مدار سنوات بوطن على وتر، يبدو وجودها هنا الأكثر التباسا. فبالعادة نفكر ان بعضالممثلين قد تخونهم بعض المعرفة بنسيج المجتمع الفلسطيني من داخله. وهنا أتكلم عن المجتمع الفلسطيني بالضفة الغربية، وهو موضوع هذه الأفلام. وهنا اعود لكلمة تتملكني منذ الامس: “الارتزاق”. هؤلاء وجدوا لأنفسهم رزقة كبيرة في هذه الساحة بكل اسف. منال لا اعرف ان كانت تمثل، كل مانعرفه ونشاهده من أدائها هو صياحها وتعبيرها عن كل المواقف بنفس الوتيرة والطريقة. فصوتها يخرج باتجاه واحد. ولم يكن مهما لنا كمشاهدين. فنحن نشاهد لقطات ساخرة تعبر عن الواقع المعاش.
والبطلة الصاعدة ميساء عبد الهادي، تبدو وكأنها مشروع فني فتي يتداوله مرتزقي الفن. تساوقها بالمسلسلات الإسرائيلية والأفلام من المشاهد التي تم تداولها يؤكد انها كانت تنتظر فرصتها بمن سيتركها تظهر مواهبها بالإغراء والتعري.
لم افهم هذا الخط غير المنفصل بين الفنون. فصارت الفنون البصرية متحركة بكل الاتجاهات. ظنت نفسها ربما موديلا يرسمه بيكاسو.
اسفة بيكاسو!!!
فلقد شوهت طريقتك الفن وجعلت كل معتوه يظن انه فنان.
وجعلت من المرتزقة التجار بزاودون باسم الأوطان.
التعري والعري وجسدي حقي…. ومن ثم نتساءل كيف يصير المجتمع أكثر تدينا وتطرفا وتتوه فيه القيم كلها لتنصب في قمع المرأة.
فما الذي اتوقعه من انسان عادي يخاف من كلمة سيداو ولقد رأى سمومها تنبث في كل مشاهد هذا الفيلم؟
الآن أستطيع ان اضع يدي على ما اردت التعبير عنه في هذا الصدد بالأمس عند انزعاجي الفيلم. مشهد التعري الاباحي كان صادما نعم، ولكن سبقهوتخلله وتبعه رسائل خطيرة تضع الفيلم وكل من شارك فيه على طائلة المساءلة.
المساءلة التي اعنيها هنا هي شعبية تبدأ وتنتهي بحقنا كمشاهدين بالمشاهدة وعدمها. بالحكم على العمل، وانتقاده، ونقده وتشريحه.
ومهما تملكني من مشاعر استياء او غضب، فإنني احفظ حقي في التعبير وعدمه من خلال الكتابة عنه. فلا مكان لمنع، او محاكمة، او رقابة او أي تدخل حكومي هنا. فما جرى يجب ان ينتهي كما بدأ عبر تعبيرنا عنه. فحق كل انسان منا على التعبير هو حق لا يمكن المساومة عليه او منعه. حقنا نأخذه من خلال نقدنا وتعبيرنا وعدم المشاهدة.
قوتنا تخرج في مثل هذه المواقف. لا نحتاج لقوانين رادعة او موجهة لما هو صالح ومناسب. نحن نستطيع ان نقتل هذه الاعمال بنقدها البناء وعدم مشاهدة صناعها والمشاركين فيها مستقبلا.
بداية تصوير الفيلم على انه “خدمة” للفلسطينيين، فيفتتح بتمرير تعابير “تاريخية” عن المكان: الاحتلال، الانتفاضة، الجدار….
ولكن هناك الجندي المحجوب خلف الجدار. استوقفتني العبارة واشعلت راياتي الحمراء مؤقتا، ولكني قلت في نفسي، ترجمة جوجل، تعريب الاعجميربما.
مشاهد البلدة، جدار، حاجز (ربما)، ازمة خانقة، تزمير سيارات، مارة بأشكال والوان، وحمار. كيف يأخذ الحمار عدسة الكاميرا ويصبح مركزهافجأة.
بلحظة خرج الزمان من المكان وصار للفيلم معنى زمانيا اخر. ليس الآن ربما.
بدأ المشهد الأول، نرى منال عوض (هدى) بمشهد جديد كليا. ليست منال وطن على وتر. تحاول ان تكون نفسها بشخصية هدى. فكرت ان الامر لايستدعي الكثير من الجهد التمثيلي. ولكن الجهد كان واضحا عليها. ولكن كان عليها ان تخرج من شخصية منال وطن على وتر. الفلسطيني دوما يمثلنفسه، قلت في نفسي.. حتى بدور مصفف الشعر.
شخصية ميساء عبد الهادي (ريم) كانت واهية. كومبارسية الوضع. لا تتوقع منها الكثير. تحفظ الكلمات وترددها كما أخبرها المخرج. ممثلة تقومبدورها امام ممثلة تمثل نفسها.
تمثيل ميساء عبد الهادي قام على الأداء الاحترافي منذ اول لحظة حتى النهاية. رافقتها الكاميرا بجدية وحرفية جعلتها تبدو أقرب الى الاحتراف. ولكنمقارنة صغيرة بتقليدها لمشهد مأخوذ من فيلم ثلاثة ألوان (١٩٩٣) لكريستوف كيسلوفسكي من خلال الممثلة جولييت بونيش يؤكد ان ما نراه بالفيلمليس الا تقليدا بالحركة والنفس لمشاهد عالمية أخرى. الجدار وصورة العذراء وابنها ومرورها امامها.. ديباجة مللنا رؤيتها.
طبعا مشهد التعري اخذ من مواقع الأفلام الإباحية بالتأكيد، مع بعد التأثر بمسرحية ريا وسكينة. فوجود منال عوض وصوتها وحركتها جعل المشهديبدو أقرب الى تصوير جثة ومحاولة دفنها أكثر.
بين المشاهد يمر برأسي السيناريو الهش من جديد. بعيدا عن محاولة التركيز على البطلة ريم ومرافقة الكاميرا غير المفهومة لها بالشوارع مع طفلتهامرة تلو الأخرى وإعطاء وقت لهذا، كما وقت تعرية الجثة الهامدة وتدلي أعضاء الذكر الغبي امام عيوننا وتحرشه بها. لحظة، تذكرت، هنا موقفانساني نبيل من العميلة هدى: لم تسمح له بالتحرش. ليس هذا فقط، صورتها فقط. وليس هذا فقط، لم تسمح له بأخذ صورة معه. الشغل يجري بأمانةشديدة.
المشاهد الذي ظهر فيها الزوج كانت مشاهد فقيرة فنيا بكل المضامين الا من محاولة ريم تثبيت ان زوجها غير متفهم. الحقيقة لا اعرف كيف يمكن انيتفهم أي انسان ما جرى لها في الصالون بسهولة. كيف نفهم ان هذا الرجل الغيور غير المتزن والذي يعايرها بعلاقة سابقة هو نفسه التي تريد منه انيدعمها في مصيبتها؟ كل محاولة وضع العاقة بين المرأة والرجل، الذكورية وسطوتها وضعف المرأة\ وخنوعها او تمردها لم يكن ناجحا.
في مشهد عن عدم تفهمه يسألها:”لهلأ مع صاحبك؟” وترد عليه بغضب واستياء. يا إلهي من اين تم استحضار هذا الحوار؟ تذكرني بمشاكساتي مع امي عندما كنت ابنة ١٣ او ١٤ سنة.
حتى عندما تعلق على حماتها كانت وقحة. لم افهم ما الذي يحاولون اقناعنا به؟ كيف تكون المرأة حرة أكثر ومستقلة؟
بتمردها على حماتها بالوقاحة؟ ام بفرض قواعد حركتها بلا سؤال او جواب من قبل الزوج؟ لماذا يبدو سؤال الزوج اين كنت وماذا جرى معك غريباومجحفا في حق الزوجة؟ الناس عندما تعيش مع بعضها، ازواجا، أقرباء، اهل، اخرة، أصدقاء، زملاء يقولون لبعض مواعيد دخولهم وخروجهم. هذهالصبيانية وعدم النضوج في شخصية الانثى التي تتجسد بالتمرد لا تخدم المرأة او الانثى الا في المجتمعات التي تترك مجالا للنضوج. في مجتمعاتناالتي تقتل فيه الانثى ويتم تبرير قتلها تحت أي حجة، لا يمكن إنضاج تحررها بهذه الصبيانية من التمرد.
المشهد الذي يجتمع فيه افراد عائلة زوج ريم على الغداء لا لون ولا طعم له. حوار غبي تافه يتم فيه زج المصطلحات. أهمها كلمة “كافر” و “ملحد”. ما الذي يجري في سياق هذه الكلمات لا نفهم. حديث نسوي عابر للذكورية لا نفهم اوله من اخره.
أداء ميساء لم يكن أداء يشبه أداء منال وطن على وتر. كان أداء شابا يشاهد الكثير من الأفلام ويتعلم كيف يمثل. كان أداء لا تمثيلا. كمن يدخل امتحان ويجيب على الأسئلة كما في المقرر بحذافيره. يغيب عن أدائها أي ابداع.
الابداع هو ما يجعل الممثل فنانا او يتركه مؤديا.
لا يوجد في قائمة الفنانين الذين يتم اقحامهم على الشاشات عندنا أكثر من مؤديين. يتم استخدامهم إذا ما تخطوا عتبة المكان هنا ليؤدوا دورهمالحقيقي في الحياة. لا حاجة لإبداع او موهبة. وضع الفنانون كوضع الافريقيين زمن العبودية الأوروبية عند جلبهم من قارتهم. الحاجة الى عبد يقدمخدمات يقوم بها ببلاده.
مشهد اخر مليء بالابتذال، ولكن معانيه مرعبة، وهو القبض على الموديل الذكر الذي شاهدناه عاريا بالمشهد “الإشكالي” وتقديمه اضحية بلا نقاش. حرقه بلحظات بلا سؤال او جواب. يقول المحقق له: إذا حكيت راح نقتلك وإذا ما حكيت راح نقتلك.” وتم قتله بلا تردد.
ما هي الرسالة التي يوجهها لنا هذا المشهد المبتذل؟ تصفيق حار من جمهور جسدي حقي. لنحرق المتحرشين جميعا! كيف نقيم العدالة وحقوق الانسان والديمقراطية هنا؟ هل ذكر المشهد أحد كما ذكرني بمشهد حرق الطيار الأردني الكساسبة من قبل داعش؟
المقاوم الفلسطيني الازعر القاسي الذي لا يرحم… داعشي التصرفات والهوية. هذا ما نراه.
في المقابل يشغل الفيلم في محوره الأهم والمركزي التحقيق مع هدى.
لماذا يشكل الشاب هنا مجرد موديلا بأعضاء تناسلية متدلية يقوم قبلها بجر الضحية الى المذبح على طريقة عبدالعال في ريا وسكينة؟ في حرب الدفاعفي هذه الأفلام عن تحطيم السلطة الذكورية، يبدو الذكر هو ضحية الانثى المدبرة. انها صاحبة الكيد العظيم التي يراها بعد مشهد الاقتحام والقبضعليها بتعدي على حرمة ليلها واستئمانها لنفسها مسيطرة على التحقيق لا العكس. فيتحول الحوار الى حوار معاكس هي تحقق فيه مع المحقق وتدخلمعه في نقاش نفسي بديباجة متصنعة أراد منها المخرج\كاتب السيناريو إيصال رسالة أساسية: ان هذا المحقق ” المقاوم” ليس بالأصل الا عميلا سابقايطهر فعله بالتخلص من العملاء الحاليين.
هنا نرجع الى الكلمات الواردة في بداية الفيلم: الجنود محتجبون وراء الجدار. جملة سابقة او لاحقة تعرضت لوضع المرأة والعنف في المجتمع. لم أردوقتها ان احمل العبارات بالأعلام الحمراء المتزاحمة في رأسي.
الجنود محجوبون خلف الجدار منذ ال ٢٠٠٢. يعني إسرائيل خرجت ولم يعد هناك الا الفلسطيني واسقاطاته على نفسه. كم يمكن ان تمرر عباراتتسقط فيها قضية كاملة في جملة تبدو عابرة لإسقاطات بشرية لن نتوقف عن مشاهدتها حتى نهاية الفيلم.
هدى تستقطب الزوجات اللاتي يعشن مع ازواج غير متفهمين كزوج ريم!!! يصبحن اقوى وأقدر على مواجهة تعاسة زواجهن بعد اسقاط هدى لهن واعطائهن بعض المال.
قصة اسقاط هدى بسبب التقاط صورا لها مخلة مع رجل غير زوجها. يسألها المحقق إذا ما كانت تعتبر نفسها ضحية فيه بالأصل زوجة خائنة. ترد عليه بشموخ: وهل تعرف زوجي؟ زوجها من النوع الذي يستحق الخيانة. كما الموديل من الوع الذي يستحق الحرق.
هؤلاء يقيمون الحقوق التي تقاس على حسب اهوائهم.
الاخلاق مقاسها بقدر ما يقررون طولها او عرضها. يجب ان نلبسها وندخل به ونجعلها جزء من لباسنا. زينا.
كل شيء بات أكثر تشوها في حياتنا.
وكأنه لا يكفي ما نعاني به من تشوهات يأتي هؤلاء ليرموا على تشوهاتنا مادة حارقة. لم نعد نستطيع ان ننظر الى أنفسنا حتى في المرأة من قباحة المشهد. صرنا نخجل من فلسطينيتنا.
الحقية انهم يجلبون الخجل الى أنفسهم ان كان هناك خجل.
في كل ما جرى هناك ما هو هام…
لقد سقط هؤلاء الى الابد.
أتمنى ان يكون موسم الارتزاق من هذه القضية باسم الفن قد انتهى.