فداء: كبش فداء مجتمع تهالكت اخلاقه
قبل سنوات في رمضان ماضٍ، قدمت الفنانة المصرية نيللي كريم مسلسلا مهما هز مكامن قلقنا كأهل، كأمهات يكبر ابناؤهن امام عيونهن ويرونهم بانزلاق نحو عالم سيكون مسيطر عليهم. مسلسل “تحت السيطرة” الذي كانت رسالته ان لا سيطرة على الانسان للمخدرات. المخدرات تسيطر على الشخص. تسيطر على محيطه. المخدرات تسيطر على المجتمع عندما يبتلى أبناؤه به.
مسلسل “تحت السيطرة” تناول قضية شباب ابتدأت المخدرات تنزلق في شرايينهم من لفة سيجارة حشيش الى حبوب في حفلات، الى مجون صار طريقة حياة، الى ابر وشم وادمان، فمتاجرة.
حكاية كنت أتمنى لو بقت في طي مبالغة الدراما وخيال كاتب سيناريو. ولكن بكل اسف، حكاية صارت تعكس واقع يعيشه الكثير منا وينتظر دوره في مواجهة ضحية ادمان اخر.
تسرق السكّينة الشباب، ينطلقون نحو فكرتهم عن الحرية والتحرر. ينطلقون نحو حريتهم ونفقد سيطرتنا كأهل بينما نراهم يحلقون نحو دروبهم. تركنا تقييمنا لتربيتنا بشهادة وعلامات، معاشات ومظهر اجتماعي يليق بتطلعاتنا، وانزلقنا واياهم نحو درب قلق وخوف ورعب يتربص بنا.
كنت على الطريق بينما كنت اقلب اخبار الفيسبوك عندما قرأت الخبر الصادم بالحكم بالإعدام على الشابة فداء كيوان بتهمة حيازتها لنصف كيلو من الكوكايين بالإمارات. أصدرت شهقة صادمة. فداء وجه واسم مألوف في دائرة قريبة بمحيطي.
تضاربت الأفكار والاحداث في رأسي. شريط كامل من الذكريات المتفرقة تنططت امامي. “تحت السيطرة” هي العبارة التي اسمعها منذ سنوات من كل شاب وشابة سرقتهم الحفلات والسهرات والشرب والدخان والله اعلم من بلاوي ما يحدث خلف نوافذ السهر، في بيوت تساءلت كثيرا اين أصحابها، لعائلات وشباب مللت التساؤل عن “اين هم”.
بسذاجة وغباء يستطيع الاهل العيش في ضبابية دخان السموم التي يتناولها ابناؤنا بينما يرجعون مترنحين الى فراشهم. نرمي قلقنا وراءنا مدعين ان هؤلاء الشباب يصحون باليوم التالي نحو جامعاتهم واعمالهم وحياتهم التي تبدو ناجحة و”تحت السيطرة”. في كل مرة نسمع فيها عن ضحية مخدرات جديدة نضع يدنا على قلبنا ونشكر الله انه عافانا من شر محدق.
الحرية في السهر، والانطلاق في التدخين والتحشيش وضرب الصواريخ واخذ التريبات. عالم يلف حول افراده مشانق ليلية ونعود الكرة يوميا او بعد كل سهرة لنحمد الله على ستره.
ولكن الله لا يستر دوما.
حتى ستر الله له حدود. له سيطرة محددة.
لا اريد ان الوم نفسي كأم على فقداني للسيطرة على ما يجري في ليالي ابنائي التي يسودها احمرار جهنم. عندما نفقد كأهل السيطرة ويصبح التدخين عاديا ولفة سيجارة الحشيش امرا اعتياديا، ويكون طموح ابنك ان تخرجي معه كأم ” في تريب” وامل ابنتك ان تلف لك صاروخا وان يأخذك اخاك واختك على حفلة “كعكة”.
اسأل نفسي ما الذي كنت أستطيع ان أقوم به؟ كيف لي ان امنع كارثة رأيت نموها امامي وتدحرجها ككرة ثلج مدمرة؟
محاولة تطبيع او اعتيادية الامر وكأن الطبيعي هو المخدرات.
امشي بالشارع مساء والشبان في سياراتهم يحششون بلا اكتراث. مقتنعون انهم مسيطرون على الوضع، وكأن المكان العام فقد خصوصيته، وصارت خصوصيته بحقه بالتدخين بسيارته هي شريعة المكان. اشم رائحة الحشيش وكأني في شوارع أمستردام. تداعب الأفكار رأسي بسخرية: ما ينقص هو جسر وماء.
المخدرات حولنا من كل اتجاه. الحشيش رائحته على مداخل العمارات والمكاتب وفي الشوارع. وعلينا التأقلم والاعتياد.
قبل سنوات وجد أحد الشبان ميتا على حافة شارع في رام الله. كان مشهد الإدمان مترقبا بنا محدقا بخطر قادم. شاب قبل عدة سنوات قتل امه بفعل حبة مخدر افقدته عقله. قبل شهور وضعت حبات سموم لطفل في علبة مشروب غازية. مشروبات الطاقة واللف والصواريخ والشرب والسهر… هذه هي الحرية التي حلمنا بها لأبنائنا؟
فداء الشابة اللطيفة المحبة الوطنية…. كالكثير من أبنائنا وبناتنا … الذين قرروا ان ويواجهوا مشاكلهم بالسهر والشرب والتدخين لتصبح أسيرة الإدمان. كيف تتحول الضحية الى مجرمة؟
في مسلسل “تحت السيطرة”، نجد كيف يصبح المدمن مروجا لكي يستطيع ان يسد نفقات احتياجاته.
الحكم بالإعدام يبدو امرا صادما وظالما، ولكن بالحقيقة ان هذا هو شكل الحياة التي يصنعها هذا النوع من الحياة. غرفة مظلمة موحشة برداء احمر وبمشانق معلقة.
الإدمان هو مشانق معلقة. مشنقة تلتف بالمدمن والمروج او التاجر. المدمن بالعادة تلتف حول عنقه جرعة تقضي على حياته، والتاجر تلتف حول عنقه حبل مشنقة عدالة تتأخر كثيرا بالعادة.
هل فداء ضحية ام مجرمة؟ كيف يمكن لشابة في مقتبل العمر ان تكون مقصلة المشنقة مصيرها؟ كيف تصدر الاحكام بهذه القسوة وبلا أي رجعة؟
ربما لم نع قبل هذه اللحظة بشاعة وقسوة الحكم بالاعدام. نسمع عنه من بعيد. نشجبه من بعيد. نرفضه عن بعد. نفصله بطريقة ما في وعينا عن حقيقة قسوته. مشهد يبقى في طي صور الماضي السحيق من التاريخ.
ماذا لو كانت فداء بريئة؟ الا تستحق فرصة الحياة لاثبات براءتها والدفاع عن نفسها؟
فكرت باحكام الإعدام التي مرت امامنا على مدار السنوات والاشهر الأخيرة ولم تؤرقنا كثيرا. لم تقد مضاجعنا بهذا القدر. هل استحق صدام حسين ان يعدم؟ هل استحق مرشد الاخوان في مصر حكم الإعدام؟
كيف نجى النظام السعودي في الإعدامات الذي نفذ بحق ٨١ انسان قبل أسابيع قليلة بذريعة “اعتناقهم الفكر الضال وجرائم مرتبطة بالإرهاب” ؟
اين نحن من الاعدامات التي نراها بالشوارع على خلفيات العنف المنتشر نحونا؟
اين نحن من الاعدامات التي ترتكب بحق النساء كل يوم بقصة جديدة وقاتل يأخذ شكل مدافع عن الشرف؟
اين نحن من الاعدامات التي رأيناها ترتكب بحق شبابنا من قبل الاحتلال بدم بارد على مدار الأيام الأخيرة؟
اين كان رعبنا من الإعدام؟
هل ترعب فكرة الإعدام؟ بالتأكيد نعم.
هل يستوعب من يستخدم المخدرات ويروج لها ان نهاية هذه الطريق هي الإعدام؟
الإعدام المتمثل في قلق كل قلب على محب يخشى عودة فلذة قلبه جثة خامدة او معطلة من عقلها وحياتها.
الإعدام المتمثل في اعدام المستقبل من أبنائه وخسارتهم الى هذا الطريق الجحيمي.
هل يجب ان تكون عقوبة التجارة بالمخدرات بهذه القسوة؟ ام انه يكفي ان تكون العقوبة قاسية بقدر يترك الفرصة للإصلاح والتأهيل؟
بينما يجب ان نستمر في رفع اصواتنا ضد القوانين الجائرة التي تأخذ حق الانسان في الحياة، علينا ان نتصدى للعدو الذي يفتك بالمجتمعات.
المخدرات هي العدو الأكبر والاشرس والابشع المتربص بحياتنا.
لأن المخدرات تقتل المجتمعات.
لأن المخدرات لا تقتل من يدمنها فقط، ولكنها تدمر عائلات ومجتمعات بأسرها.
إذا ما كانت فداء ضحية تلفيق ومؤامرة فأدعو ان يفك كربها وينتصر الحق لها.
وإذا ما كانت فداء ضحية ادمان حولها الى مروجة فتاجرة، فالقانون وحكمه هو سيد الموقف. قانون يكفل العقاب ولا يزهق الحياة.
وهنا، اذا ما كان الدفاع عن فداء لكونها بريئة، وذلك ليقين من ينادي ببراءتها، فعلينا ان نبتعد عن زج كونها امرأة او كونها فلسطينية او كونها وطنية او كونها مدافعة عن حقوق الانسان كحجة لبراءتها. فبراءتها مقترنة بقرائن يجب عرضها وتقديمها.
ليس من الحق ولا العدل استخدام قضايانا الحقيقية كذريعة نضع فيها انفسنا موضع الضحية، وعليه يجب على العالم ان يغض الطرف عن افعالنا.
كوني امرأة وفلسطينية ووطنية ومدافعة عن حقوق الانسان لا يعطيني صك الغفران لأفعالي.
اذا ما كنا نطالب العالم بالعدالة، فعلينا ان نكون منصفين بحق عدالة قضيتنا. قضيتنا ليست “منشرا” لغسيل كل من يريد ان يغسل خطاياه. هذه القضية ليست للمتاجرة. يكفينا ما يتم المتاجرة به باسمنا كشعب يفقدنا يوميا ارضنا وكياننا وهويتنا ويشتت مصائرنا.
القول ان هناك عنصرية وإدخال عنصر الوطنية في هذا الامر لن يساعد في العمل على تخفيف الحكم او المطالبة بمحاكمتها في “إسرائيل”. من السهل القول ان إسرائيل لا تهتم بمواطنتها. وهذا كذلك بديهي.
فهل يتوقع الفلسطيني من دولة احتلال الانصاف والعدل والمساواة؟ الا تتسم حياة الفلسطيني تحت الاحتلال بالعنصرية والتصفية العرقية؟
نتكلم عن الكيل بمكيالين دائما، ولكن، الا نكيل بمكيالين عندما نرفع شعار الوطنية ضد الاحتلال ومن ثم نطالب الاحتلال ان يتصرف كدولة لمواطنيه العرب وكأن هذه الدولة هي رمز الديمقراطية.
على كل فلسطيني ان يستوعب وان يضع نفسه امام مسؤولية انه “فلسطيني”، لأنه بالنهاية لا يهم أي جنسية يحملها الفلسطيني عند الوقوف امام أي نظام في العالم. فهناك قانون ونظام للعالم، وهناك قوانين توضع من اجل الفلسطينيين عند الحاجة.
هل يشفع كون فداء فلسطينية ووطنية وامرأة لها ويسقط عنها التهمة؟
علينا ان نتريث حتى في هجومنا للدفاع عن قضيتنا وحس الظلم الواقع علينا. فهناك العشرات من القضايا المحقة التي علينا ان نرفع صوتنا من اجلها.
وعلينا ان نتصدى للمخدرات المتغلغلة في مجتمعنا كالطاعون. المخدرات افقدتنا السيطرة. المخدرات هي الخطر المحدق بنا كوبال ينذر بنهاية كارثية لمجتمع كان العالم يتغنى بعدالة قضيته. قضية لا يمكن ان تتسم بالعدالة عندما يفقد مجتمعها قوام اخلاقه. ليتنا نتعظ ونحمل هذه القضية على اكتافنا. كفانا تحميل هذه القضية مغبات افعالنا.
“ انما الأمم الاخلاق ما بقيت…فإن هم ذهبت اخلاقهم ذهبوا
صلاح امرك للأخلاق مرجعه…فقوم النفس بالأخلاق تستقم
اذا أصيب القوم في اخلاقهم…فأقم عليهم مأتماً وعويلا “
والله لا أدرى ماذا أقول! لماذا يقدم بعض الشباب على ألإنتحار بتناول المخدرات؟ هل هو اليأس من الحياة، ألتى لا تبشر بأى خير ، أو مستقبل أحسن؟ هل هو إنشغال رب ألأسرة بتأمين حياة سعيدة لأبناءه، جعله يكد ويتعب، ونسى أولاده وبناته، أو لم يعد معه وقت للحديث معهم، ويستمع إليهم بكل صدر رحب. ألمهم ألأوضاع المعيشية، وخصوصا أولئك تحت ألإحتلال، وما يلاقونه من إضطهاد وعدم إحترام، ولا مستقبل واعد، يجعل الشباب وخصوصا إذا كان بعضهم غنيا وبدأ بتناول المخدرات، وربما يقوم بإهداءها لأصدقاءه، وسقط الجميع!!!