تعرّجات صوفية: ما بين النفري والحلاج


اعتدت قراءات رمضانية متعلقة بالصوفية على مدار السنوات.

 تدخلني هكذا قراءات الى عملية تطهير روحيّ يصعب وصفه، ولكنه بالتأكيد يُشعر ويلامس مكامن الروح. الروح تلك الساكنة فينا تنتظر ان نلامسها، لنوقظها، فتعيشنا.

قراءتي المعتادة تحددت في النفري (محمد بن عبد الجبار بن الحسن النفري المتوفي ٣٥٤ هجري)، وتحديدا عمله الوحيد “المواقف والخطابات” الذي أثرى اللغة العربية بالتأكيد، وزاد المتذوق فيها لوذا في عذوبتها، وفصاحتها، وقوتها، ورقتها. فأتفق مع الرأي الذي يقول انّ النفري “زاد لغة الصوفية ثروة واستطاع ان يجدد الطاقة الإبداعية العربية، ويجدد اللغة الشعرية في آن…وان يرفع الكتابة الشعرية الى مستوى لم تعرفه قبله، في أبهى واغرب ما تتيحه اللغة.” 

ولكن هذا العام، ابتدأت قراءاتي في الصوفية قبل رمضان، بعد ان أخبرني أحد الأصدقاء عن بن عربي (محي الدين بن عربي ٥٥٨-٦٣٨ هحري). وكعادتي اغار واركض للبحث والقراءة. لم يشدني بن عربي اليه، فكيف له ان يشدني ولقد شده الغزالي (أبو حامد الغزالي ٤٥٠-٥٠٥ هجري) اليه؟ فرحلتي والغزاليوعرة، صعبة، مليئة بالمشاحنات والتحديات. كان لي معه مرورا عند “لوازم الحب الإلهي”. وعند وصولي “لأيام الشأن السبع” قررت ان لا شأن لي وابن عربي. فكلامه صعب وتحليله ووصفه يصعب كذلك على فهمي، وليس الأقرب الى ذائقتي. فرجعت الى ملاذي بالنفري ووقفاته وخطاباته، واسترجعت شعوري بذاتي من جديد.

 في الطريق تعرفت على “حارس العشق الإلهي” التاريخ السري لمولانا جلال الدين الرومي للأديب المصري أدهم العبودي، الذي اثار فيّ الفضول في عالم الرومي وشمس الدين التبريزي من جديد، بعد رواية الكاتبة التركية اليف شافاك. قواعد العشق الاربعون تبقى مميزة بتجليات العشق الذي افناه التبريزي لوصوله للمعشوق. حالة من الانصهار بين العاشق والمعشوق، بين ربوبيته وعبوديته، بين الانصهار في “الأنا- الذات” التي تتجلى بالتخلي عن كل متاع الدنيا والتفرغ لعشق الذات الإلهية.

 كان من الصعب إيجاد اعمال متفردة للتبريزي وكذلك الرومي بدون الدخول شبه الدائم في قواعد العشق الأربعين. عند توقفي عند “المثنوي” للرومي رجعت ادراجي لمواقف النفري. 

قد يكون الفرق بين الصوفي بطريقة النفري والرومي هو ما اندرج عن كتاب المثنوي بالنسبة لي، فهناك شيء دنيوي في المثنوي مهما حاول رفعه الى مرتبة الزهد. يبدو لي الرومي في رحلته الأولى قبل لقائه مع التبريزي أقرب الى العالم الديني لا المتصوف المتفرغ للعشق الإلهي. 

عرجت بعدها الى الإشارات الإلهية والامتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي (٣١٠- ٤١٤هجري) وكانت كاسمها بها دلالات واشارات الهية مؤنسة، ولكن مرة أخرى لم تعجل في عملية عروجي للتجلي بهكذا قراءات. وقعت في طريقي “الحكم العطائية” لابن عطاء السكندري (٦٥٨ ه – ٧٠٩هجري) التي كانت أقرب لطريقة النفري في مواقفه وخطاباته، ولكنها كانت تخاطب العقل الدنيوي أكثر.

ربما تكمن المفارقة هنا بنوع الخطاب، فهناك من يحاول الوصول في خطابه لمرحلة ابعد مما نفهمه ونستطيع ان نلمسه بطريقة مباشرة. لما يجعلنا نترك المنطق ومحاولات الفهم، ويسلمنا للتسليم تماما لما هو اعلى من ادراكنا الحسي لما هو حولنا من كل شيء. 

أخيرا وصلت الى الحلاج وكنت مترددة. اعترف انني أحاول دوما الابتعاد عما يضعني في دائرة محددة المعالم. ولطالما قلت انني لا أحب الصوفية ولا اريد الاقتراب منها، الا انني لذت على مدار عقد من الزمان مع مواقف النفري وخطاباته كمن يتلصص الى درس وهو يرفض التعلم. 

في كتاب بديع ووافي اسمه “الاعمال الكاملة للحلاج“ (٢٠٠٢) لقاسم محمد عباس (١٩٦٢-٢٠١٨) الذي أبدع وأخلص في مجال الدراسات الصوفية، وقدم تحقيقات عميقة في حقل التصوف الإسلامي، وهذا العمل يمثل شهادة على العمق والتبحر بين علماء هذه الطريقة الذي يشكل الحلاج أحد اعمدتها بالتأكيد. وكتب كذلك “هكذا تكلم الحلاج” 

طبعاً، عندما أرى إشارات نيتشوية في عناوين أحدهم، لا بد لفضولي ان يزداد. ولكن الحقيقة ان الكتاب يرقى لأن يكون توثيقا للتاريخ الصوفي بالإضافة الى تجربة الحلاج وحياته واعماله. يحتوي الكتاب على تمهيد وثلاثة فصول يتناول فيها الكاتب اهتمام المستشرقين بالصوفية ومحاولة في سيرة حياة الحلاج ونطاق مادة الكتاب ونصوصه. الفصول السابقة لعرض مؤلفات الحلاج برأيي لا تقل أهمية عن النصوص ذاتها، فما قما به الكاتب من محاولة إعادة صياغة التاريخ بتجرد من مشوباته الاقصائية، سواء تلك المحكومة بالشريعة او تلك المقيدة بحدود الاستشراق، كان متعة حقيقية اثناء القراءة، وفتح امامي المجال للتفكر والتبحر طرح الأسئلة بمواضيع كثيرة ذات صلة.  واشتملت باقي الفصول على كتب الحلاج الست: التفسير، الطواسين، بستان المعرفة، نصوص الهية، المرويات، الديوان).

بقدر أهمية الكتاب باعتقادي، كانت أهمية قراءة الحلاج ومحاولة فهمه. 

السهل بالنسبة لي كان معرفتي السابقة بهذا النوع من العروج الإنساني نحو خالقه، وذلك من خلال قراءتي المتكررة للنفري على مدار السنوات. فبالرغم من ان من ذكرت سابقا اقترب منهم لهذه الطريقة من التعبير لخلجات النفس البشرية، الا انني فهمت لماذا يعتبر الحلاج بمثابة الرائد للفكر الصوفي. ربما تمثلت طريقة قتله لتكون الطريق لأمثاله. لا الصلب بحد ذاته، ولكن القتل العلني بأبشع صوره، فلقد رأينا بتاريخنا البشري الكثير من الأجساد التي تعذبت وقتلت بأيدي الجهل، ولكن تخلد أصحابها الى الابد. لنفهم ربما معنى ما قاله الحلاج بتمسكه بالأزلية كقدر. فكرة التوحيد التي اصطفى بها الرسول. عظمة الخالق التي لا يمكن للإنسان ادراكها مهما حاول. التسليم المطلق للخالق البارئ. شعور يجعلنا نرى هذا الكون كأنه انبعاث، انشطار، لحظة في كون الكون الذي خلقه الله جل جلاله. اكتب هذه الكلمات واشعر بعظمتها بوصف الله. كيف لإنسان يجعل الله أقرب الى وجداننا وروحنا وذاتنا ان يكون كافرا او زنديقا. 

كغيره من ضحايا الفكر الذي اعتقدته الأنظمة بعقيدة الكفر لمن قرر التسليم بأن الامر بهذه الدنيا لصاحب الامر – الله- لا السلطان ومن تسلطن معه على التسلط على العباد. 

وتبقى المعضلة في تلك الفترة من العصر الإسلامي هي الأهم، وقد يكون وصف وصف طه حسين في مقدمته لرسائل اخوان الصفا معبرا عما يراودني من تفكير في هذا الامر: 

“لم يعرف المسلمون عصراً كالقرن الرابع للهجرة، تناقضت فيه حياتهم العامة أشد التناقض، فكانت سيئة أشد السوء، مجدبة أقبح الإجداب من ناحية، وكانت حسنة قيمة خصبة منتجة من ناحية أخرى، فسدَت فيه حياتُهم السياسية فساداً ظاهراً، فانحل سلطان الخلافة في بغداد، وأصبح أمر الخلفاء إلى المسيطرين عليهم من رجال القصر ونسائه،… بحيث أصبح العالم الإسلامي في هذا العصر ميداناً للتنافس وازدحام الأهواء والشهوات والاستباق إلى مظاهر الفوضى والاضطراب، وصلحت فيه من ناحية أخرى حياتهم العقلية صلاحاً لم يعرفوا له مثيلاً من قبل، فأزهر الشعر والنثر، ونضج العلم والفلسفة، ونمت علوم اللغة وفنونها، ونهض التاريخ والجغرافيا بحيث إنك تنظر إلى هاتين الناحيتين من نواحي الحياة الإسلامية في هذا العصر فلا تكاد تستريح إلى أنهما تمثلان أمة واحدة هي الأمة الإسلامية، متأثرة بحضارة واحدة هي الحضارة الإسلامية، وخاضعة لسلطان واحد هو سلطان الإسلام.”

تذكرت سقراط ومحاكمته. تذكرت علي بن ابي طالب والتآمر عليه. تذكرت فرج فودة ونصر حامد أبو زيد. 

كيف نحيا في دنيا يصعب فيها حتى الزهد الحقيقي من اجل معرفة الحقيقة. الحقيقة التي تتمثل بوجود الله كالحقيقة العظمى. الله والانسان بلا وسيط اليه غيره. 

كم هي عظيمة تلك الرحل التي يفتح دروبها الله لعباده…. وكم هي صعبة، مأساوية عندما يتدخل فيها المرتزقة من البشر على الدين والدنيا… فيحولون العبادة الى عبودية، وتمسي الطريق الى الله استعباد لا عبادة. 

اضاء الله طريقنا الى الحق والحقيقة.

“أفهامُ الخلائقِ لا تتعلَّق بالحقيقة، والحقيقة لا تتعلَّق بالخليقة، الخواطرُ علائقُ، وعلائقُ الخلائقِ لا تصل إلى الحقائق، والإدراك إلى علم الحقيقة صعبٌ، فكيف إلى حَقِّ الحقيقة؟”

“تركتُ للناس دنياهم ودينهـم شغلا بحبك يا ديني ودنيائي

 حاضرٌ غائبٌ قريبٌ بعيدٌ وهوَ لم تَحوِهِ رسومُ الصفاتِ 

هوَ أدنى من الضميرِ إلى الوهــمِ   وأخفى من لائحِ الخطراتِ

 لبّيكَ لبّيكَ يا سرّي ونجوائي 

 لبّيك لبّيك يا قصدي ومعنائي

 أدعوك، بلْ أنت تدعوني إليك

 فهـلْ ناديتُ إيّاك أم ناجيتَ إيّائي.

 نَحَنُ بشَوَاهِدِكَ نلُوذُ وبِسَنَا عِزَّتِكَ نَسْتَضِئ.

 لِتُبْدِى لَنا مَا شِئْتَ مِنْ شَأْنِكَ 

 وأنْتَ الذِي فِى السَّماءِ عَرْشُكَ

 فيك معنى يدعو النفوسَ إليك 

 ودليل يدلّ منك عليك

 ليَ قلـبٌ له إليك 

عيـونٌ ناظراتٌ وكلُّهُ في يدَيْك.

 أهيمُ فى لقياه كيف وصاله؟

 هل يا ترى يرضى وكلي عيوبُ.

 وإنّي وإن أُهْجِرتُ فالهَجْرُ صاحبي

  وكيف يصحّ الهجر والحُبّ واجد

 لك الحمد في التوفيق في محض ِخالصٍ

 لعبدٍ زكيّ ما لغيرك ساجد. 

وأيّ أرض تخلو منك حتّى تعالوا يطلبونك في السمـاء

 تَراهُم يُنظُرونَ إِلَيكَ جَهرا وَهُم لا يُبصِرونَ مِنَ العَماءِ

 يا من به علقت روحي فقد تلفت وجدا فصرت رهينا تحت أهوائي

 إن كنت بالغيب عن عيني محتجبا فالقلب يرعاك في الإبعاد والنائي”

الحلاج

اترك رد