الفراغ الذي احتل التفاصيل: نجمة ارثنا التي صارت شعار وجودهم علينا
من السهل ركوب موجة الاحداث التي يبدو انها تتفاقم في المسجد الأقصى، والصراخ والدعوة الى النفير من اجل انقاذ ما تبقى لنا من حقيقة في هذا الوطن السليب. ولكني اعترف انني في كل مرة أرى فيها دعوة كهذه، يهوي قلبي كغريق كان متعلقاً بخشبة يتأمل منها نجاته. لأن هذه المرة ليست كسابقاتها. فنحن لسنا امام حدث شكّل ردة فعله خروج أبناء هذه المدينة والوطن عن بكرة ابيهم للدفاع عن درة هذا المكان. على الرغم من ان ما يحدث يمكن ان يكون مشابها. لن اذهب الى ماضي لا يتذكره الجميع، ولكني سأذكر هنا على سبيل المثال ما جرى عند هبة اهل المدينة عند محاولات وضع البوابات الالكترونية على مداخل الحرم المختلفة. سبق هذا الحدث الجلل برأيي دخول شارون الى الأقصى الذي أشعل بعدها انتفاضة الأقصى والتي صارت تعرف فيما بعد بالانتفاضة الثانية.
قد لا يكون ما جرى بمحاولات إسرائيل لوضع البوابات هو الأهم ولا الأخطر. فالحقيقة ان ما قامت به إسرائيل فيما بعد أكثر خطورة لأننا لا نعرف ما قامت به عندما أغلقت الحرم تماما الا من انفارها لبعض الأيام في نفس تلك الفترة. وما جرى منذ ذلك الوقت حتى اللحظة من انتهاكات يومية لا يقل خطورة عن البوابات إذا ما تنبهنا لها. ولكن ما جعل الناس تنتفض هو خوفها الحقيقي بأن وضع البوابات لن يكون الا حجر أساس لتقسيم المكان كما حصل في الخليل قبل ثلاثة عقود. فما يحدث من انتهاكات يومية قد يظنها المواطن عبثية، يكون أثرها أثر غبار، امام الخطر الذي يشكل خطرا حقيقيا يتم وضع حجر أساس فيه.
في كل مرة أفكر في هباتنا الكبيرة. هبات شعبية يمكن ان تدرس بلا أي مبالغة. لن ارجع الى هبة ال٢٩ من القرن الماضي ولا ٣٦ ولا الانتفاضة الأولى لأضع بعض الأمثلة على قوة هذا الشعب إذا ما هبت مشاعره الوطنية واستيقظت نخوته. لحظات يصبح الحق قوة لا تستطيع أي قوة الوقوف امامه. الحق هو ما يدمغ هذه الهوية الوطنية الجامعة. هوية حب الوطن بمكانه ومكانته. حق لا يطالب فيه ابن فصيل او دين. حق الفلسطيني فيما هو له. حق الهوية الفلسطينية التي شكلت ما نحن عليه من حب لهذا الوطن.
فالبوابات وحي الشيخ جراح وباب العامود وغيرها، امثلة حية لقدرة الحراك الشعبي الثابت الواحد الذي يستيقظ فيه الوعي الفلسطيني ويجعل دمنا يفيض حياة وحبا لهذه المدينة التي بلحظات كتلك تكون الوطن الجامع وكأن العالم كله يصبح القدس. الأقصى هنا تحديدا لما تشكله كدرة هذا المكان من حيث الموقع والمساحة والقيمة الروحية، والتراثية، والتاريخية، والدينية. فهي بصمة التاريخ الأخير لنا على عروبة واسلامية هذا الكيان الذي يشكل هويتنا الوطنية. وما أقوله هنا لا يقلل من قيمة واهمية معالم التاريخ الواضح والثابت كما في “القيامة”. ولكن التهديد الذي يحيط بالأقصى من اجل سلب التاريخ ضمن عملية سلب المكان تدار بإحكام من فوق الأرض وتحتها وفي كل اتجاه..
ما يجري هذه المرة ليس كما جرى أيام البوابات. والاختلاف على صعيدين: الصعيد الفلسطيني والصعيد الإسرائيلي. على الصعيد الفلسطيني، فإن ما يجري من دفاع وحمية تطاله التبعية الفصائلية السياسية والدينية. فما يجري ليس هبة شعبية، ولكن حراك مدروس على خلفيات فصائلية تتسابق على اثبات قوتها السياسية لحصد المصالح والإنجازات الخاصة بالفصيل باسم الأقصى، بينما ما يجري في الحقيقة أخطر وأكبر من ان يتم التسابق عليه من اجل إنجازات يعلو فيها علم واخفاق في إنزال علم. ما يجري من تخطيط يدار من قبل دول باسم المقدسات والديانات، قياداتنا جزء منه بالخفاء. بالخفاء يتفقون وبالعلن يرفعون الشعارات الرنانة.
فإسرائيل من جانبها تحاول ما تحاول دوما عمله. تريد اقتناص اللحظة التي تمكنها من فرض سطوتها على المكان وتقسيمه على غرار ما جرى بالحرم الابراهيمي. كل ما تحتاجه إسرائيل للحظة التي تمكنها من وضع حجرها في المكان لتنفذ مخططها الشامل للمكان والمدينة.
اذا ما راجعنا انفسنا قليلا وتذكرنا ما الذي جرى في الخليل لكي يصل الحال الى ما وصل اليه المسجد الابراهيمي، لعرفنا سريعا ان إسرائيل عندما انعدمت امامها الفرص بالسيطرة الاعتيادية، وقعت المجزرة التي راح ضحيتها العشرات، وبدلا من ان يختفي التواجد الإسرائيلي الى الابد من هناك على خلفية تلك الجريمة النكراء، تقسم الحرم الابراهيمي لنعيش ما نعيشه اليوم من واقع فرض وصار هو الواقع الوحيد.
إسرائيل تحتاج الى حادث كبير عظيم يجعل المساومة متاحة على المكان لتقسيمه. فخططتها دائمة التطوير. ان يتحول الحرم الى مكان للمواجهة اليومية مع قوات الجيش والشرطة، فهذا لا ينذر الا بتواجد دائم بحجة النظام والامن للزائرين منهم، الذين فتحت لهم الطريق من باب المغاربة منذ سنوات على عيون القائمين على الأوقاف والمقدسات والسياسة من كل فصيل وتيار.
العملية الفدائية التي حصلت بالأمس في مستوطنة العاد، على أنقاض قرية المزيرعة المهجرة، تعيد البوصلة الى مكانها في فكر المقاومة. فالمقاومة الحقيقية ليست علماً يرفع ولا شعارات فارغة تملأ بصداها الفراغ وتتلاشى. المقاومة أسلوب حياة يقررها اليوم هؤلاء الذين حملوا اكفانهم على اكتافهم وخرجوا مقاومين وحيدين، بعيدا عن المساومين بالوطن والمواطن.
يحرفون البوصلة ربما ومؤقتا عن خطر متلازم محوره الأقصى. لعلنا نفهم ونتعظ ان التحرر ليس شعارا يرفع بلا عمل يسانده. وعملية التقسيم والتهويد قيد التنفيذ القيام بها لا تتوقف. وجزء كبير من المقاومة لهذا يكمن عندنا. يكمن بعملية وعي وفهم حقيقي للمكان والزمان. فما نعيشه هو عملية إعادة صياغة للتاريخ. إذا لم ننتبه لها سنجد هذا التاريخ تاريخا اخر عما قريب.
نحن نعيش عملية الهاء ممنهجة. التهيت بتفاصيل ربما تكون مهمة، ولكن لا يمكن للتفاصيل ان تكون اهم من السياق الكبير لمحنتنا هذه. فنحن امام حملة ممنهجة لاستلاب تاريخنا ودرة مكانتنا المتمركزة في الأقصى في سياق المكان. فالأقصى يشكل بموقعه مكانة جغرافية وسياسية لا تقل عن المكانة الدينية والروحية له. وهذا ما تريد إسرائيل السيطرة عليه بالفعل.
هؤلاء يلعبون بالتاريخ ويصيغونه ويخرجون منه ما يريدونه ويدفعون بما يريدون ويدفنون ما يريدون.
لفت انتباهي بالأمس المنبر الذي تحطمت واجهته الزجاجية في داخل الأقصى. منبر صلاح الدين هو الاسم الشائع له. اول ما لفت انتباهي كان منشورا يشجب تدمير منبر صلاح الدين الايوبي، على الرغم من ان ما وقع هو الزجاج. ومن ثم تلت الدعوات الى النفير الى الأقصى من اجل حمايته. فكرت في كل أولئك الذين يدعون الى النفير خلف شاشاتهم. فكرت في الحجج لعدم وجود التصاريح للدخول. فكرت في كل من يصرخ في غزة للتدخل، وكأن صواريخ غزة لا تكلف حياة الالاف من البشر في غزة. ثم نظرت الى الصورة مرة أخرى ولمعت النجمة السداسية على دفة كل جهة من المنبر لتشكل ما يشبه مقبض باب. صورة نجمة داوود. خلفيتي “الاكاديمية” كانت تمنحني بعض الإجابات. ولكني اثرت ان اتصل بأستاذي لأسأله فقال لي على حسب عهده بي ربما ممازحا (لأنه يقرأ هذيان عقلي المتسارع نحو الخيال): ” هذا ليس منبر صلاح الدين، ولكنه صنع على غرار منبر صلاح الدين من قبل الملك حسين قبل عشرات السنين التي ليست بالبعيدة. والمنبر ليس منبر صلاح الدين، بل منبر نور الدين زنكي. والمنبر الأصلي بقي منه بعض الخشب ومحفوظ في المتحف الإسلامي في الأقصى. اما النجمة فهي ليست نجمة داوود، ولكنها النجمة السداسية التي كانت تشكل شعارات الفترة الايوبية وسابقاتها كذلك. فيمكن رؤيتها على العملات الايوبية وكافة الاثار العمرانية وراجت كثيرا في بلاد الشام.”
كانت المعلومة سهلة وواضحة. فكرت كيف سرقت إسرائيل حتى النجمة التي شكلت جزءاً من الفن المعماري الإسلامي لتصبح نجمة داوود. تخيلت وسط الفوضى الحاصلة في استماتة الإسرائيليين المتدينين لدخول الأقصى امرأة او رجلا وضعت قلادة نجمة داوود. او وشم رسم على كتف شاب. رأيت النجمة على علم إسرائيل الملوح في كل مكان تنظر اليه اعيننا. وسط هذا التشويه المنظم للفوضى التي تطال الحواس بأسرها ما الذي سيعتقده الإسرائيلي عندما يرى النجمة على المنبر؟ هل يمكن ان يخطر بباله او يبالي المعلومة التي عرفتها للتو من استاذي؟
في حمى الفوضى الضروس بحواسنا كفلسطينيين متمسكين بإرثنا الإسلامي فقدنا الكثير من المعلومات المهمة عن تاريخنا وارثنا. تمسكنا بالدين كأساس لحقنا وتركنا التفاصيل التي تعزز هذا الحق من خلال الإرث المعماري والحضاري الذي علم بالمكان وتركناه يخرج من الوجدان. نحاول دوما طمس المعالم التي تثبت التواجد اليهودي السابق للإسلام، وتركناهم ليتسربوا الى وجداننا من خلال علامات تختلط فيها الحقائق لتسود الرواية التي يتقن راويها روايتها وتسويقها. “سرقوا النجمة كما سرقوا الحمص والفلافل” علق لي احد الأصدقاء ممازحا ربما. ولكنها حقيقة فجة بالتأكيد. عبارة تختزل الحقيقة. فلقد عجزت ابتكاراتهم عن انتاج صحن حمص وفلافل وثوب وحتى اغنية وطنية، فسرقوا الموروث كما سرقوا الأرض.
هذه النجمة التي تعلمنا ان ندوس عليها وان نحرقها وان نرفض وجودها ومعانيها، ليست الا اثرا من تراثنا وارثنا في الحقيقة. استطاعوا بدهائهم صناعة تاريخ يفشون اسراره وسطنا تدريجيا ليصبحوا هم الحقيقة ونحن الأثر لظل خرج من التاريخ.
انظر حولي واتأمل عبارة حملت عنوان كتاب لحسين البرغوثي: الفراغ الذي رأي التفاصيل، وأفكر، كم تحتاج التفاصيل لملء الفراغ الذي يعكس وجودنا. صرنا الفراغ وسط تفاصيل استحوذوا عليها.
كم نحتاج من وعي وإدراك لنتدارك ما صرنا عليه من فراغ لا يشكل الا صدى مزعجا في أحسن احواله. صدى لا يؤثر الا فينا. صدى لا يصل الا الينا… نحن الفراغ الذي انعدمت تفاصيله.
والله سيدتى ، أحسدك على شجاعتك فى كتاباتك عن ألوضع ألمأساوى، خصوصا لأهلنا فى القدس وفيما تبقى من ألضفة. ألوضع عندكم خطير. هناك منافسه بين بينيت ونتنياهو، أيهما أسفل من الثانى فى التعدى على المقدسات فى القدس. بينيت يريد تحقيق شىء ما ليثبت للإسرائيليين، أنه ألأكفأ والأأقوى. لذلك بدأ فى الحديث عن ألوصاية ألهاشمية وتفسيرها، وعدم إعترافه بها بقوله، ألقدس، كل القدس لنا. كان ألله فى عونكم ياأهلنا فى الداخل.
والله الله يعيننا … نحن يتم النخر فينا من كل اتجاه