ارتقت شيرين…ولكن الطلقة اصابت شعباً بأكمله وأرقدته

ارتقت شيرين…ولكن الطلقة أصابت شعباً بأكمله وأرقدته

لا يزال وقع الخبر صعب التصديق. حالة ما بين الحقيقة والهذيان. واقع ما بين الصعوبة والاستحالة. 

تلك الطلقة التي غرزت حقد وبشاعة الاحتلال في رقبة شيرين، اصابتنا جميعا. 

بلحظة ما يتوقف الزمن فعليا، وتعود الذاكرة بأدراجها الى الوراء لتتزاحم الذكريات متسارعة فجأة، وترمينا من جديد امام الحقيقة المفجعة. 

شيرين أبو عاقلة اخذت زاوية في ذاكرة كل فلسطيني منذ ظهورها الأول على الشاشة مع نشأة قناة الجزيرة، وزملاؤها جيفارا البديري ووليد العمري. سطعت شمس الجزيرة وأفلت وبقي هذا الثلاثي ساطعا. 

اذكر اول ظهور لشيرين. عندها فكرت انه بإمكان الفلسطيني ان يمتهن الصحافة كما نراها على السي ان ان. يمكن لامرأة ان تكون مراسلة صحافية. استيقظ حلم تمارسه البنات في يقظتهن. حلم حمل الميكروفون وتقديم برامج. وكأن الحلم يقترب من التحقيق في مخيلتنا إذا ما رأيناه حقيقة قريبة منا. دخلت شيرين كل بيت فلسطيني على مدار ثلاثين سنة. عرفها الطفل، والمراهق، والراشد، والمسن. وتوالت الأجيال بمراحلها لتشكل هذه الانسانة وزملاؤها جزءا من المعتاد الذي يحمل معه دائما مع كل اطلالة املا اوتساؤلا، او تفكرا، او مساءلة، او تنهيدة، او تكبيرة، او دمعة، او ابتسامة حتى اطلالتها الأخيرة…. شاركنا الوجع والالم والحرقة والحسرة واليأس والعجز والكسر، الذي ربما رحمها الملاك الذي ارقد روحها للسكينة الأبدية من شعوره بعد تلك اللحظة الخاطفة الغادرة المدمرة للحياة. وكأن بين تلك الطلقة الجبانة الخبيثة تدخل فعل الرحمن ورفعها فورا الى برزخ الأبدية لعباده المستحقين. فحملنا فردا فردا وجع والم ومعاناة تلك اللحظة الغادرة، وتشاركنا فيها الما ودموعا وحرقة وحسرة. حزن خيّم على المكان واللحظة. حزن عاشته القدس عند رحيل فيصل الحسيني بهذه الطريقة فقط. وكأن السماء تسدل احزانها. 

وكأننا عشنا لحظة تيقن من معنى للبعث، كالسكارى كنا بالأمس هائمين على وجوهنا. لحظة ربما نستطيع ان نفرق فيها معنى القهر المصحوب بالعجز. وكأننا تيقنّا تماما وللمرة التالية ان لا فرق بين فلسطيني وفلسطيني الا بطريقة قتله او اغتياله. 

كلنا في هذا الدرب المؤلم من الام الفلسطيني نمشي نتعثر نقع نهرول نتوقف برهة حتى ننتهي الى درب آلامنا الأخير. 

أفكر في شيرين الذي لم يفارقني وجهها منذ الامس. صورة وحيدة طبعت يتخللها جميع الصور. صورة في بداية دربها الصحافي نحو الالام. وكأنها صوبت لنا الطريق بموتها المباغت. وكأن تلك الطلقة صوبت مسارنا نحو دربنا الحقيقي.. درب الام المسيح ومريم. صورة مريم التي تخيلتها هي الصورة التي طبعت امام عيني. شيرين كانت تشبه مريم. مريم تلك بالعينين الكبيرتين المدورتين. تلك الصورة التي نراها في ارث تتجسد فيه صورة مريم التي رسمها الاقباط قبل الفي سنة. تلك الصورة التي طالما تخيلت أني اشبهها لأحد. لطالما حاولت وضع هذا الوجه وتلك العينين في شكل مألوف ما. 

كيف تصبح مريم شهيدة الكلمة. كيف يتحول مشهد الصلب الى طلقة تغرز في الرأس. كيف يتبدل درب الالام من مريم تمشي الما ووجعا وحسرة وقهرا على المسيح، لتكون مريم متجسدة اليوم في جسد شيرين، فنزفها كالمسيح في درب خلاصها من جنين الى القدس، نمشي الما ووجعا وحسرة على درب آلامنا. 

وكأن في ارتقاء شيرين خلاص مريم ودرب الام لم يفارق الانسان الفلسطيني منذ ذلك الزمن. 

خلاص شيرين التي كانت تعي ان الواقع ليس من السهل تغييره، ولكنها رددت: ” على الأقل كنت قادرة على إيصال ذلك الصوت الى العالم”. 

تلك الايقونة، التي حفرت في رأسي في سياق لم أتوقع ان يتصل، مشهد اغتيال محمد الدرة ووالده العاجز عن التعبير قهرا وظلما وهوان العالم امام ناظريه.  عجز مريم من قبل على حماية ابنها في درب الآلام الشائك القاهر. تتحول فيها بلحظة عجز متكررة تكون فيها شيرين مكان محمد الدرة، وزميلتها شذىحنايشة تصارع عجز اللحظة القاهرة بينما يرتطم الجسد بطاغوت الظالم، لترتقي الروح بجبروت البارئ.  صورة ايقونية تتجسد فيها مريم دوما.

تلك الايقونة المحفوظة في رأسي لمريم، تتجسد مع كل لحظة في هيئة ترتديها شيرين وتحلق بابتسامتها الملائكية الهادئة. 

امنت مع كثرة الخسارات للصالحين من الناس، بيقين العارفين من السابقين (اخوان الصفا) ان للصالحين مكانا بعد صعود النفس والروح الى البارئ، مكانا في برزخ تسكن فيه النفوس حتى صعود الروح الأخير. أولئك الذي حملوا صفات الصلاح والإحسان والحسن في حياتهم، تحلق روحهم ما بين الحيوات كملائكة. 

شيرين ارتقت بخفة وكأنها صارت أكبر من الحياة. 

يكافئ الخالق عباده الصالحين ما بين الدنيا والآخرة بحسن ختام يرقى به صاحبه الى الأزل. ازلية باقية الى الأبد. 

وكأن شيرين ارتفعت بموتها لتحفر للأيقونة التي تشكلها، مكانة ترسخ في وجداننا الهائم. في محاولة استيعاب للألم والقهر الذي نعانيه كأمة فقدت أمها واباها وعزوتها نكون بلحظة أمّة، شيرين ابنتها واختها وامها وعائلتها وعشيرتها وصاحبتها وجارتها ورفيقتها.

لحظة اخترقت تلك الطلقة جسد شيرين الطاهر لتنطلق روحها الى بارئها، تستقر تلك الطلقة في جسد كل فرد فينا، تصيب مكامن روحنا المبعثرة المتعثرة الخائبة، فتقهرنا وتبكينا وتوجعنا. 

وتصير شيرين بالموت أكبر من الحياة…. ايقونة باقية نتلمس بها درب آلامنا.

لا يزال وقع الخبر صعب التصديق. حالة ما بين الحقيقة الهذيان. واقع ما بين الصعوبة والاستحالة.

تلك الطلقة التي غرزت حقد وبشاعة الاحتلال في رقبة شيرين، اصابتنا جميعا. 

بلحظة ما يتوقف الزمن فعليا، وتعود الذاكرة بأدراجها الى الوراء لتتزاحم الذكريات متسارعة فجأة وترمينا من جديد امام الحقيقة المفجعة. 

اترك رد