شيرين بين الحق والحقيقة: حقّها علينا وحقيقة بؤس واقعنا

شيرين بين الحق والحقيقة: حقّها علينا وحقيقة بؤس واقعنا

في خضم مشاعر الحزن العميق والمشحون بالغضب الساطع التي خيمت على رحلة شيرين الأخيرة على درب الام الشعب الفلسطينيّ، لا بل والإنسانية جمعاء، انتابني، ككل من شارك في التشييع او تابعه، شعور بأننا امام حدث فريد في لحظة فارقة، وزاخرة بكل معاني العظمة والقوة. كيف لا، وشيرين، بكل من وما مثّلته، تعبر في تلك اللحظة الى الخلاص الأبدي من واقع يكافح فيه الأمل بإصرار واستماتة للبقاء والتجدد في الصراع الأزليّ غير المتكافئ بين الخير والشر، بين العدل والجبروت والطغيان.  

لأول مرة يصبح المجاز حقيقة حقّة. فبجنازة شيرين عاشت القدس جمعتها العظيمة بالفعل. 

لا أظن اننا سنشهد هكذا لحظة مرة أخرى بهذه العظمة. كان التعبير المصاحب للكثيرين بأن لحظة كهذه عاصروها فقط بجنازة جمال عبد الناصر. لحظة يصبح الانسان المشيَّع أكبر من الحياة. كان النعش يتطاير بأعجوبة بالمسافة ما بين الكنيسة والمقبرة على جبل صهيون. وكأن درب الالام انتهى بدرب خلاص شيرين. من تلك المسافة على بعد أمتار من القيامة حيث انتهى درب آلام المسيح، بدأ درب خلاص شيرين الى مثواها الأخير. رقد الجثمان عند قمة تشهد قداسة القدس لترتقي مع من استحق الارتقاء من قبلها بدءا بمسيح هذه الأرض الذي بكته المدينة منذ تلك اللحظة البعيدة من التاريخ، المستمرة دوما في وجداننا. 

منذ اختراق تلك الرصاصة المباغتة لجسد شيرين وانفاسي مضطربة. أتنفّس ولا أستطيع اخراج النفس بسهولة. في لحظة بعد الدفن، بينما كنت واقفة عند التلة مع الجموع، شعرت بشراييني تنبض حياة، واستطعت أخذ النفس باعتيادية من جديد. في تلك اللحظة كنا قد انتصرنا ولو للحظة على هذا الواقع الأليم. للحظة كانت قوة الحق أكبر حتى من رصاصة غادرة اغتالت حياة انسان. للحظة شهدنا معنى أن يصبح الانسان أكبر من الحياة في موته. 

ما الذي فعلته هذه الانسانة مع ربها؟ تساؤلٌ كان لسان حال الناس كافة. بين دعواتنا لها بالرحمة، كانت الغبطة بارتقائها أكبر. كنا نقول بلا وعي “نيالها”.. والله يرحمنا. 

ولكن لم يكن بالإمكان تجاوز ما شاهدناه في تشييع الشهيدة شيرين أبو عاقلة منذ وصلت الجنازة الى المقاطعة. 

ما بين الجزيرة والسلطة يركب المرتزقة والقتلة على دم الشهيدة. 

لم تزد الجزيرة شيرين فخرا او إنجازا، ولكن العكس. 

منذ سنوات كثيرة وبعيدة وانا لا اشاهد الجزيرة. وما رأيته في تلك الساعات ذكرني بما تمثله الجزيرة كقناة تحمي السلطة أينما كانت، أيّة سلطة تدعم وجودها إسرائيل وامريكا. 

بينما تتجمد دموعنا وسط مشهد فظاعة القتل والظلم الواقع على هذا الشعب. لا يكف بث الجزيرة عن الاتّجار بهذا الظلم لمصلحته، وكأن الجزيرة هي شيرين. 

آسفة…. ولكن الجزيرة لم تمثل ابدا الا من يشغلها. ومن يشتغل بالجزيرة نادراً ما يمثل الجزيرة الا بالالتزام بمعايير العمل الصحفي الذي وفرته الجزيرة من حيث التدريب، والتأهيل، والأدوات، والمصادر. 

في المقابل، يبدو التشييع من المقاطعة خارجا عن المتوقع. فشتان بين من حملوا النعش في جنين ونابلس مرورا بمخيم قلنديا ووصولاً الى القدس وبواباتها، وبين العسكر، رافعا للنعش. شتان بين الأناشيد التي يرددها الشعب وبين جوقة لا تجيد حتى العزف. فما كان من النشاز الا ان يكون سيد المشهد وسط تكبيرات مواطنين يرفعون أصواتهم تكبيرا وتكريماً للشهداء. 

وفي هذه اللحظة بينما يركب المرتزقة المترزّقون على لحظة الموت الجلل، يركب النظام الفلسطيني الظالم والقاتل لأبنائه. في ازدواج اكيد للمعايير تقوم الجزيرة بتشبيه شيرين بغسان كنفاني من حيث الاغتيال، وتتجنب تماما ربط اغتيال الكلمة والرأي الذي حصل في اغتيال نزار بنات. 

هل يختلف كثيرا اغتيال الاحتلال لشيرين أبو عاقلة عن اغتيال السلطة لنزار بنات؟ 

لا يختلف اطلاقا. 

بعد الجنازة المهيبة في القدس. تحول العزاء ليصبح عزاءً قطرياً وسلطوياً، مما اثار حفيظة المتواجدين الذين حملوا معهم مشاعر انتصار ولو للحظات للحق على الطاغوت. فلم تستطع قوات الاحتلال وكل من حاول التنسيق للجم كبح الحشود من التواجد والمشاركة في الجنازة. 

كان المشهد الأكثر ايلاما عندما بدأ الشجار وتوالى في مشهد سريالي اخر، تحولت فيه العظمة الى بلطجة. وكأننا هوينا من ارتقاء السماء الذي كنا قد شهدناه للتو لمشهد حضيض الأرض الذي نعيشه. وكأننا امام “الكوميديا الإلهية” بطريق معاكس. فلقد رأينا الجنة في الجنازة، وهوينا في الجحيم بعدها. 

في اليوم التالي كنا لا نزال نتبادل الحديث عن الاستياء مما جرى. فمن كان قد خشي الا يضرب في التزاحم، ضرب في الشجار. كانت سيدة تقف بيننا حينما قالت: ما جرى عيب. هذه ليست اخلاقنا. وكنت اجيبها بسرعة: طبعا عيب. الى ان أكملت: نحن من شيمنا اكرام الضيف لا طرده. في إشارة الى القطري. وهنا عرفت ان الحديث سيأخذ منحى اخر، وقلت: نعم اكرام الضيف، لا ان يتحول الضيف الى صاحب البيت- العزاء-. وعندها توالت مشاعري تجاه ما حدث من رؤية أصحاب السلطة المتصدرين للعزاء بين خطابات واعلانات وترويج. كان أحدهم قد انتبه الى خطأ وضع صورة شيرين وسط إشارات “العاصفة” في اليوم السابق، فتم إنزال تلك الصورة عن الحائط. ولكن هؤلاء يظنون انه بإنزال الشيء وعدم التصوير فإن ما جرى ينتهي. يعني ليس هناك صورة الان، فهذا يعني ان الصورة لم تكن. وهكذا من المشاهد التي حصلت يجعل أصحابها منك متوهما إذا ما راجعتهم بها. 

في تلك اللحظة عرفت ان الحديث لن يأخذ المجرى المحمود. فسألتني بحدة عندما قلت ان هناك فرقاً بين الضيف وصاحب البيت. لا القطريون ولا أصحاب السلطة هم أصحاب هذا البيت. فالعزاء لأهل شيرين والشعب. نحن الشعب اهل شيرين. نحن المعرّضون للاغتيالات والقتل والسحل والاعتقالات لا هم. فأجابتني بحدة: لماذا تقولين هذا على السلطة؟ فقلت: لأن هؤلاء أيديهم ملطخة بدم نزار. فأجابتني بلا تردد: نزار قتل عن طريق الخطأ!!! 

اجابها الشاب الواقف معنا قائلا: اذن شيرين قتلت بالغلط كذلك؟ 

وتوالى الحديث في شد قطعت اوصاله بسرعة. في لحظة قالت تلك السيدة: نحن فتح لم نقتله. وفكرت حينها كيف تحولت فتح الى السلطة. فدفاع الفتحاوي عن السلطة يجعل كل شيء يصب في مكان يعزلهم أكثر عن الشعب. 

فالاغتيال هو اغتيال الفلسطيني الذي يحاول كشف الحقيقة. 

استغلال اغتيال الشهيدة شيرين أبو عاقلة لتبييض صفحة السلطة الملطخة بدماء الفلسطينيين بين قتل وقمع وترويع وانتهاك واعتقال على خلفية التعبير عن الرأي في عملية لجم وقمع واخراس وقتل لا يقل عن الاحتلال. الفرق الوحيد ان الاحتلال يقتلنا ويقمعنا بسبب مقاومتنا لوجوده، والسلطة تقمعنا من اجل التأكد من عدم قدرتنا ابدا على المقاومة.

كيف يتوقع محمد اشتية ان يأمن الانسان الفلسطيني للجنة تحقيق فلسطينية في جريمة اغتيال شيرين ولم يكن هناك أي نزاهة او شفافية او عدل في قضية نزار بنات التي تقف كالرصاصة التي أطلقت في جسد شيرين في نفوسنا وقلوبنا؟ حتى لو اردنا التسليم بنتائج تحقيق السلطة، فأين ه التقرير النهائي، علماً بأن ما صدر لتاريخه أشار فقط الى النتائج الأولية يبدو ان السلطة شعرت بضرورة التصريح بها على خلفية تسريبات إعلامية مفادها ان الإدارة الامريكية ضغطت لتأجيل اعلان السلطة عن تائج التحقيق؟ وماذا بشأن تباكي الامريكان ومكونات أخرى من المجتمع الدولي على شيرين ومطالبتهم بإجراء تحقيق نزيه وشفاف في هذه الجريمة كاملة الأركان؟ ما موقفهم الآن والسلطة إزاء الرفض الإسرائيلي لإجراء تحقيق؟

كيف لا يفكر محمود عباس بأن يكرم في هذه اللحظة السانحة لوهلة لشرعيته المعدومة ان يدعو عائلة الشهيد ثائر اليازوري في مدينة البيرة الذي استشهد بعد ساعات قليلة من اغتيال شيرين لتشييع ابنهم كذلك؟ منح وسام نجمة القدس للشهيدة، كان يستطيع ان يمنحه كذلك للصحفية شذى حنايشة التي رأت الموت امامها وشهدت الجريمة، وكذلك الشاب شريف العزب الذي غامر بحياته وسط النيران لينشل جسد شيرين. اين السلطة من عمليات قتل واغتيالات الشهداء التي أصبحت يومية.

قد تكون مغامرة “فتح السلطة” قد انتهت بنتائج انتخابات جامعة بيرزيت الأخيرة. فهذه الخسارة المدوية كانت يجب ان تكون مفهومة ضمنا، منذ تعادلت فتح في الانتخابات السابقة مع الكتلة الإسلامية وخرج محمد شتية الذي كان قد صار رئيسا للوزراء للتو معلنا قبل وقت قصير بوحدوية الشعب ليشارك في إطلاق نار الاحتفالات وسط مدينة رام الله ليصبح مشهد “الانتصار” مشهدا سلطويا فتحاويا. لو راجعنا كل ما جرى منذ ذلك اليوم لفهمت فتح ما جرى معها. ان يصبح رئيس الوزراء ممثلا لحركة على حساب شعب. ان يتولى الإقليم الامن في وقت الكورونا. ان تصبح حرية التعبير طلقة على جبين من يحاول التعبير. ان تصبح السلطة هي فتح. وتصبح فتح هي الشعب المختار ومن ليس منها فهو من الاغيار. ان يصبح الوطن مزرعة حقيقية لأرباب السلطة كالإقطاعيين امام العبيد. ان يصبح الفساد هو سمة الحكم. ان تتغير القوانين على حسب مصلحة وإرادة الرئيس. ان يتم الاستحواذ على القانون والقضاء لمصلحة زبانية السلطة. ان يخشى المواطن ان يفتح فمه. ان يتم ابتزاز المواطنين وتهديدهم وقطع أرزاقهم إذا ما تجرأوا على رفع الصوت. ان يتم قتل واعتقال وسحل وضرب وتعذيب من يجرؤ على الاستمرار بدق الخزان من اجل انقاذ ما تبقى لنا من انسان. ان يصبح الشعار الفارغ هو الإنجاز. ان يصبح التنسيق الأمني هو الصراط. ان يكون أكبر انجاز هو اخذ تصريح. ان يتحول ما تبقى من ارض لمشاريع استثمارية لأصحاب النفوذ والسلطة. ان يعيش المواطن لحظات متكررة صارت طريقة حياة يكون القول فيها “هذه البلد النا”. ان يصبح اعتقال إسرائيل لمن يعارض “فتح” امرا اعتياديا وسط كل انتخابات، ويتحول المعتقل لأداة تعذيب يمارسها المعتقل في سجون الاحتلال ضد الفلسطيني “المغاير”.

فلا غرابة من ان تكون النتيجة بهذه الخسارة الفادحة. 

خسارة…. بدأت تطال ارباب فتح نفسهم.

لم يبق كأس لنتمنى صحة فيها لوطن. 

 ان نظرية “الحكم والطاعة” في “الديمقراطيات” المستحدثة من مخلفات الحكم الاستعماري لا يمكن الا تنتج شعوبا تطبطب وتعطي الفرصة تلو الأخرى لمنظومات حكم استبدادية مزدانة بقشور ديمقراطية زائفة ومستوردة. 

لا حاجة لي لتفسير ماهية هذه النظريات ومخلفاتها من مجتمعات هائمة على وجوهها. لا هي تعرف من وجودها على الحياة إلا قضاء اللحظة وسط انعدام الأفق وانتظار النوم من اجل الحلم.

بينما هم يفكرون وينفذون… نحن نفكر ونتعقل.. نفكر وننتظر…  

“واخجلي من بيت مهزوم

وسيخجل من باعوا لغتي

فأنا مكتوب في الأرز وفي العسل الأخضر في التين

انا لا املك بيتا انزع فيه تعبي

لكني كالبرق ابشر بالأرض

وابشر ان الامطار ستأتي

وستغسل من لوحتنا كل وجوه المهزومين”

طوبى للراحل الباقي مظفر النواب

One comment

  1. كل ألإحترام والتقدير للسيدة نادية حرحش، سيدة الكلمة الحق، عن جنازة شيرين أبو عاقله، ألتى عاشت فيها القدس جمعتها العظيمة، وتشبيه هذه الجنازة،بجنازة ألزعيم الخالد جمال عبدالناصر. ياله من تشبيه رائع ياأستاذه نادية. فخرى بك ليس له حدود. وطنيتك وتشبيهك الرائع لجنازة شيرين ألتى حزنت جدا لفقدانها وكأنها إبنتى، بجنازة أشرف زعيم عربى، ألرئيس جمال عبدالناصر، أثلج صدرى، ألذى لم يدم طويلا، بعد تعليقك على ما حصل فى مقاطعة عباس وعصابته قتلة الشهيد نزار بنات. ألفلسطينيون سيدتى أينما وجدوا يعرفون من هو عباس وعصابته، ومن كان قبله عرفات، موقع أوسلو، ألذى كان بمثابة ألتنازل عن فلسطين، ليس 72% منها كما قيل، بل عن كلها على مراحل بتعاون كامل من سلطة ألبهائى القذر عباس.

اترك رد