الرئيس الحي الميت
مر الأسبوع والاشاعات التي تدحرجت على شكل كرة ثلج، وصلت الى هاويتها الأخيرة وارتطمت بحائط طيني وتناثرت لتبقى شائعة بلا يقين أخير.
هل مات الرئيس؟
هل الرئيس حي؟
تخيلت الكثير من السيناريوهات للحظة التالية لوفاة الرئيس، ولكني لم اتخيل ان هناك لحظة لن نعرف فيها ان الرئيس قد مات.
سواء كان ميتا او حيا، يبدو ان هذا الامر لم يعد مهما الا لمن يريدوه الآن حيا حتى يخرجوا من وهم اليقين الذي عاشوه بأبدية الظلم، والفساد، والاستحواذ، والفلتان. لم أكن اتخيل اننا امام نهاية تشبه تماما مشاهد مسرحية الزعيم بكامل فصولها. هل كان عادل امام بهذا القدر من التبصر؟
في الفصل الأول من المسرحية، يخرج الزعيم الظالم الذي تشغله حياته وتغرقه الملذات في خطاب يذكر فيه اعوانه ان يشجبوا اتفاق “غُزّه ورَيَّحُه” بين إسرائيل والفلسطينيين. لقد استفقنا من أثر تلك الغزّة منذ زمن بعيد، ولم نعد نذق للراحة أي طعم. حتى الزعيم الجبار المتكبر في تلك المسرحية التي عرضت سنة ١٩٩٣ لم يعجبه الاتفاق الذي قطع اوصالنا. لو خرج اليوم عادل امام بمشهد جديد، سيكون تفاهم “أوسلو” هو تقطيع اوصال الفلسطينيين بمنشار كهربائي بمجموعة من صبية الجزارين.
عندما شاهدت المسرحية في ذلك الوقت، كنت اظن ان عادل امام في أحسن الأحوال يتكلم عن زعيم بلاده والبلاد المجاورة. فكنا نشاهد دكتاتوريات الأنظمة العربية متأكدين ان ما اصابهم لن يصيبنا. فنحن شعب قاومنا الاحتلال خلال عقود كثيرة ونفهم قيمة الوطن والمواطن. لم يخطر في بالي ولو للحظة ان مصيرنا هو بالضبط مصير مسرحية الزعيم.
المخابرات وضربها وسحقها للمواطنين لإعلاء صورة الزعيم. أعوان الرئيس من سونيا الى زمباوي ورستم.
هل تتشابه الأنظمة القمعية بالفعل لدرجة التماهي؟
يبدو ان الامر كذلك.
اليوم ينسدل الستار عن “الزعيم” في بلادنا، وها نحن نعيش قمع النظام بأبشع صوره. سونيا ورستم والزمباوي ونعيم شخصيات نستطيع ان نبني عليها مشاهدنا الفلسطينية مع الكثير من الإضافات ربما. فلا يوجد “زينهم” البديل في مشهدنا.
مرة أخرى تتردد في رأسي كلمة مؤسف. مؤسف حالنا ومؤسف ما وصلنا اليه.
مؤسف ان تكون نهاية زعيم بهذا الشكل.
يقال أحيانا بأن الانسان وخاتمته. كيف يكرم الله او يذل الانسان في نهاية حياته بموت مستحق.
لم اهتم كمواطنة في البدايات كثيرا للرئيس محمود عباس. كنت كغيري الكثيرين اظن، ان سمته الأهم هي تلك التي تبدو لنا إصلاحية وهادئة.. براغماتية يمكن ان نضعها في قالب يسمى محمود عباس. جاء عباس في وقت ظننا ان غصن الزيتون الذي رفعها صاحب الثورة الفلسطينية سيتم غرسه في أراضينا. فلم نشهد الا اقتلاع زيتون غرس في بطن ارض اغتصبتها إسرائيل وصارت لها ونحن نشاهد تلاشي حلم الوطن ليصير كما الآن متمثلا في مقاطعة حدودها بعض الشوارع في رام الله.
كنت أخاف من لحظة يخرج فيها الأسوأ من مشاعرنا كشعب. لحظة سنقول فيها ارحموا عزيز قوم ذل… ولن نرحم فيها.
يذل الله عباده بالحياة ويجعل من وجودهم عدما رغم الحياة.
اتخيل مشهدا في مسرحية الزعيم لم يمثله عادل امام. مشهد الشارع عند سماعه خبر موت الزعيم. في متابعة انتظار الشعب خبر اعلان موت الرئيس يمكن كتابة القصص. بقدر السخرية الحاصلة والمحزنة بالتأكيد، فهناك قدر من الاحتقان يتمثل في هذه المشاعر المتأججة بانتظار الخبر اليقين. أخشى ان يخرج الشعب بتزمير للسيارات وإطلاق اعيرة نارية ومفرقعات عند سماع الخبر. صرت اتخيل مشهد التحلية على الطرقات وسط المدن الفلسطينية.
أي غضب من عزيز مقتدر هذا؟
كلنا وقفنا مبتهلين ممتنين مؤمنين أكثر امام مشهد جنازة شيرين أبو عاقلة. شهدنا كيف يرتقي الانسان بالموت. كيف يصبح الانسان بموته أكبر من الحياة.
وها نحن نشاهد بأم اعيننا كيف تصبح الحياة سوية بالعدم لا الموت بلحظة واحدة. بلحظات متكررة في حالتنا هذه.
لا بد ان الرئيس تخيل مشهد النهاية. ربما تمناه كما في مشهد جنازة أبو عمار. ربما تخيله في مشهد جنازة شيرين. كيف يرى المرء ان النهاية قادمة لا محالة ويرضى ان تكون نهايته بهذه الانهزامية…براجماتية نهايته كصفاته التي عودنا عليها.
ربما لم يمت الجسد بالفعل، ولكنه مات في قلوبنا منذ صار القمع والظلم والفساد عنوان نظام الحكم.
مات في قلوبنا منذ صارت القوانين تصاغ من اجل مصالح خاصة لثلة من الاعوان والمترزقين.
مات في قلوبنا منذ صار الوطن مزرعة اقطاعية يشكل فيها المواطن مجرد فلاح حقير في نظر أعوان العزبة ونظّارها.
مات في قلوبنا منذ ترك دماء الشعب تسيل بلا انقطاع لتملأ شرايين الظلم والبطش والاستحواذ.
مات في قلوبنا منذ تقطعت اوصال الوطن وصرنا شعبا مبعثرا.
مات في قلوبنا منذ تحول التعليم الى تكنة تجهيل شعاره “رئيسنا قدوتنا”
مات في قلوبنا عندما صارت التشريعات شريعة الرئيس والقانون يطبق من اجل مصالح من تم وضعهم فوق القانون.
مات الرئيس في قلوبنا منذ رأينا أبناء الشعب يسحقون امام أبناء السلطة وصارت “هذه البلد الهم مش النا”.
مات الرئيس في قلوبنا منذ صارت المستوطنات في قلب مدننا واحيائنا وترك الأرض تبلع بين مستوطنات واستثمارات المترزقين من اتباعه واعوانه.
مات الرئيس في قلوبنا منذ صار الرئيس ومن يملكون زمام الامر افرادا بحجم وطن… فانسحق المواطن وزهق الوطن صريعا بين انيابهم ومخالبهم.
بحياة الرئيس موت….
موت مشابه لحباة ملأها الموت لآخر…
عندما مات ياسر عرفات وجعل الله من موته حياة. ومات شارون وهو على قيد الحياة وصارت حياته موتا.
ينسدل المشهد الأخير عن واقع فرضه شارون من تقسيم وتشتيت وقطع اوصال وطن، فساد الفساد وفسد الوطن.
ولكن هل من متعظ؟
في مشهد مسرحية الزعيم وبعد ان ينسدل الستار، تستمر الاغنية بكلمات قوية : الشعب اللي مصيره بيده هو الفارس هو الحارس.