عندما تنسلخ الثقافة عن المجتمع: من سؤال غسان كنفاني عن دق الخزان الى إشارة إلى وعي تافه

عندما تنسلخ الثقافة عن المجتمع: من سؤال غسان كنفاني عن دق الخزان الى إشارة الى وعي تافه.

تصادف هذه الأيام ذكرى اغتيال غسان كنفاني، ويعود سؤالنا: لماذا لم يدقوا على الخزان  من وحي “مرثاته رجال في الشمس. أسئلة نرثي بها حالنا وسط اعمال خلدها صاحبها ورحل لتبقى تذكرة لنا وتدق على خزانات عقولنا التي عطبها الصدأ. 

كتب غسان كنفاني -باسم مستعار- فارس فارس- مقالا بعنوان “إشارة الى وعي تافه” (١٩٦٨)، منتقدا لكتاب حمل عنوان “كل ما سبق وكتب أعلاه ويمكن الاستغناء عنه إذا حقق إشارة واحدة بسيطة الى فعالية البداية من الصفر الواعي”(١٩٦٧). 

قد يختزل عنوان المقال ما نمر فيه اليوم من وعي تافه سيطر على حياتنا. وما حل علينا من نكسة حزيران في حينه، أحل علينا في استنساخ لما انتقده كنفاني حينها ليصبح هو الواقع المفروض علينا. 

ربما في ذلك الزمن الذي ظنناه أفضل من زمننا هذا، عندما كانت كارثة الفلسطينيين الأخيرة هي حرب ال ١٩٦٧، عرض ما يمكن ان نعرضه بتفاصيل كل كلمة، باستبدال كارثة حزيران بكارثة أوسلو التي اطيحت فوق رؤوسنا على مدار ٣٠ سنة لا سنة واحدة بين النكسة وكتابة ذلك المقال:

” إذا كان ٥ حزيران كارثة، فهو لأن الفنان المذكور لم يصب بقنبلة نابالم، كي يكتشف ان “العمل الفني” هو الوعي، وان الانسان هو الوعي، وان طق الحنك والهذيان طق حنك وهذيان!

فالنابالم وعي، وكارثة حزيران تحكم بالبطلان على اللاوعي واحلام اليقظة، ولكن ما العمل إذا كان الفنان يهددنا بان “يجهل فوق جهل الجاهلينا”. 

وكأن المثقف المبدع الذي وصفه غسان هو من منظّري قطاع الفن والثقافة اليوم في زمننا هذا: 

” ان المدرسة التي يريد ان يقلدها صارت روبابيكا، مثله مثل صانعي أزياء، هذا العصر التي غالبا ما يكون هدفها لفت النظر الى مصمم الأزياء وليس الى الزي، الذي لا يقبله أحد، ولا يلبسه أحد، ولكنه ينظر اليه ويضحك عليه ويسأل عن صاحب الصرعة! 

يريد ان يفهم العفوية على انها استثناء العقل عن عمد. ولكن إذا كان العقل سيئا وكريها ومرفوضا فإنه في الوقت نفسه شيء لا يمكن التحرر منه، والتحرر منه هو مثل ان يقطع الانسان رأسه كي يتخلص من الصراع!

وقد انتهى الذين حاولوا ان يقولوا ان الهذيان اللاواعي هو فن الى ان نطحوا رؤوسهم بالحائط وماتوا دون كلمة رثاء. 

والمسألة كلها مفتعلة، ومفتعلة بأقصى درجة من تدخل العقل…. فالإنسان العاقل يحتاج الى مجهود عقلي مضاعف كي يمثل دور الطفل، فاين يمكن وضع صفة اللاوعي في هذ اللعبة الطريفة القائمة على خداع الذات وخداع الاخرين؟ 

يتعلق أبو لبدة من نظرية شديدة التعقيد، يسميها “صفر-سهم” فهل هذه النظرية، وتلك التسمية الغليظة، لا وعي ام فلسفة؟ إذا كانت لا وعيا فلا يمكن اذن وصفها بنظرية، وإذا كانت فلسفة فهي وعي، والان، كيف يمكن ان تضع قاطرة اللاوعي على سكة الفلسفة؟ 

ان اللا وعي في الرسم أكثر سهولة منها في الكتابة، فالقضية هناك قضية ألوان، وتقليد للطفولة التي “ترسم ما تعرفه، لا ما تراه” ممكن في الرسم الى حد ما، وبيكاسو بالذات اثبت ذلك، ولكن كيف يستطيع الرجل العاقل ان “يكتب ما يعرفه، لا ما يراه” ويكون عفويا؟ 

هناك استحالة موضوعية: فاللغة في ذاتها وعي لأنها معني، وحين يلغى المعنى منها تلغى اللغة، وفي هذه الحالة فنحن لسنا مضطرين لاستبدال الموسيقى بالكلمات وإذا كانت الغاية هي التعبير عن اللاوعي عبر موسيقى الكلمات او ايحاءاتها غير المرتبطة بمعانيها المباشرة. 

يستطيع أبو لبدة ان يكون موسيقيا ويريح قرّاءه، او رساما ويتعب زوجته، او مقاتلا في ميدان العسكر باللاوعي فيموت شهيدا. 

وهكذا فان كتاب ” كل ما سبق وكتب أعلاه ويمكن الاستغناء عنه إذا حقق إشارة واحدة بسيطة الى فعالية البداية من الصفر الواعي” (اوف) يحمل الفشل في عنوانه، فهو إشارة كبيرة الى الصفر الواعي الكبير، لأنه مرسوم بدقة ليكون وعيا تافها. انه وعي تافه ومفتعل. 

وإذا شئنا الانضمام الى مظاهرة أبو لبدة، فكيف يمكن نقد اللاوعي بالوعي؟ هذا سؤال مهم، فاللاوعي هو إشارات يستخدمها المحلل النفسي لكشف المجانين والبهاليل والمصابين بعقد لا شفاء منها. 

وإذا كان اللاوعي فنا، فان نقده ينبغي ان يجري أيضا باللاوعي، وطالما ان مصطفى أبو لبدة يصر على ان يكون اللاوعي لغة تكتب بالكلمات والرسوم والفواصل، فلنحاول لفترة سواء بسواء بهذه الطريقة. 

“ان كتاب كل ما سبق وكتب أعلاه، أعلاه سبق ما ان، للمؤلف أبو مصطفى هو لبدة اسد، شرشف صنوبر على في لماذا تحت مائدة في سماء مكنمارا. 

رأينا ان المستوى الفني، فني، سينما، الراقصة كواكب، تم ترمتم طق لع بج، اسهال من اكل تفاحة ديمول. وزارة الزراعة، شياح، صندوق بريد لا يوجد، كاسك. 

طق. كعبه ابيض. استفرغ في المغسلة ودفع فاتورة. دائرة مكافحة المخدرات اسمها مؤسسة النقد الفني. المحاشش أستوديوهات بالباص. طع طع فقع الدولاب.” 

وهيك كتاب يحتاج لهيك نقد!

عندما انزلت عشتار عن المسرح قبل عدة سنوات، كان المشهد نذير شؤم قادم. أحيانا أفكر ان الأسماء والارقام في ربطها بالأحداث تتعدى الصدفة. وأحيانا تكون عابرة لا تعني الا صدفتها. 

ولكن أي صدفة جعلت من عشتار عنوان رقصة علت فيها عشتار مسرحا وانزلت عنه في مشهد سريالي الطابع، ذكرنا بأسطورة هذه البلاد التي علت منها الحضارات بعشتار قبل ان يهبطها تموز الى القاع؟ 

توالى الهبوط فيما بعد الى مشهد وجه المعلم النازف وسط فزع الشارع الذي انتصر على دمية ملونة وارداها صريعة. 

منذ تلك اللحظة كان علينا ان نتوقف أكثر من الهجوم او الدفاع، الانتقاد او التشجيع. كان علينا ان نتوقف ونراجع المشهد الثقافي وانفصامه عن المشهد المجتمعي في شكله المتكامل. 

عندما نقول ان المجتمع يشبه في تركيبه النسيج، لا نبالغ. فاذا ما كان المجتمع منسوجة مكونة من خيطان مختلفة، تحتاج هذه المنسوجة لعناية وتناغم يبقيها. في اللحظة التي يبدأ فيها أحد الخيوط في الاهتراء، نعرف اننا امام اما ترميم المنسوجة او انتظار هتكها واهترائها. فكيف لنا ان ننتج ثقافة منفصلة عن احتياجات المجتمع؟ كيف لنا ان نعتني بما لم يعد صالحا للاستخدام؟ 

الثقافة هي وليدة احتياجات المجتمع من انعكاسات لما ينتج عنه من تصرفات تساعده على نسج هوية خاصة به على مدار الازمان. تصبح الثقافة هوية المجتمع التي تعكس عاداته وتقاليده من افراح واتراح ومناسبات. تتطور مع تطور المجتمعات والازمان بالبشر والمكان. ولا يمكن للثقافة ان تنمو وتتشكل بمعزل عن المجتمع. فالفن والادب بمكنوناته وتشعباته يجب ان يخرج من بين ما ينسج المجتمع في منسوجتنا المشكلة لنا. وللثقافة لكي تنمو يمد التعليم يده، وكذلك المجتمع المحلي بكافة فئاته. فما الذي حدث للتعليم والمجتمع المحلي في مجتمعنا؟ 

ليس من قبيل الصدفة ان يتم إنزال عشتار عن المسرح وتخرج بعدها الأصوات العالية لتسقط سيداو. فمن انزل عشتار كان جزءاً من مؤسسة رسمية. ومن دعا لإسقاط سيداو كان جمهرة المؤسسات الرسمية حملت اللواء حينها بعض النقابات. استبدلنا “قانون حماية الاسرة” بمنسوجة كنا نحافظ عليها تشكلت منها هويتنا على مدار عقود من العيش تحت الاحتلال، وصار القانون غير الموجود هدفنا، فبدلا من العمل على حماية المجتمع عملنا على حماية القانون. ووصلنا الى ما وصلنا اليه اليوم من غياب القوانين كلها واحلالها في جب السلطة المتنفذة بإنفاذ ما تقرره من قوانين لمصلحة وجودها وتغييب صارخ للقوانين بشكل عام. لم يعد القانون هو المرجع للفصل بين الخصوم. فقانون البلطجة هو قانون القوة. قانون الظلم والاستبداد هو الميزان للفصل في كل القضايا، وللبت في إمكانية المحاولة لمن لا يزال يتمسك بالقانون للفصل في منازعاته، تم تغيير القانون بجعل الوصول الى المحكمة امرا تعجيزيا لا يتمكن منه الا من يملك المال. ومن يملك المال هو من يملك السلطة. 

كيف لنا ان نفسر الهتك الذي أصاب المجتمع في مقتل؟ هل كان فجأة؟ 

عشرات السنين من العمل المتواصل على قطاع المجتمع المحلي بين الثقافة والمرأة. قبل ان نلوم المجتمع على انحطاطه يجب ان نتوقف امام أنفسنا كمجتمع محلي حمل على عاتقه شعار حماية المجتمع من ظلم المنظومة بين سلطوية الذكورة والحكومة. صرفت الملايين من اجل مشاريع المرأة، وكانت المرأة في الصفوف الأولى ضد إقرار سيداو. ماذا حل بكل مشاريع التمكين، والتنمية، والثقافة، والانفتاح؟ 

ما جرى ان المجتمع المحلي انفتح على نفسه وانغلق عن المجتمع. وصار نخبويا يختار ما ن يريده من المجتمع في فئاته المرضي عنها والمناسبة لأجنداته المتوافقة مع التمويل الخارجي. فصار المجتمع بين فكرين اصوليين يريد أحدهما اسقاط الاخر: مجتمع حداثي واخر تقليدي. مجتمع الحداثة ظن ان بكلمة حداثة تجدد وحداثة، ومجتمع التقليد ظن ان التقاليد تقليد للماضي بعودة للجلباب والعباية لإحياء الماضي الجميل. 

اتسعت الهوة ورأيناها كيوم القيامة في احداث النبي موسى، عندما اندفع الشبان هرعين من اجل حماية ما هتك من تقاليد. اذكر صوت أحد الشبان يدعو لفزعة على الهاتف: “عاملين ديسكو بالنبي موسى”

كان وقع كلمة ديسكو على اذني نذير كارثة، ابتسمت للحظة لأن الكلمة اعادتني لزمن بعيد جميل، عندما كان الديسكو إشارة للسهر واللهو في السبعينات والثمانينيات من القرن الماضي. ليتنا بقينا في زمن الديسكو ظننا لوهلة. كيف توقف الزمن لدى ذلك الشاب الذي ولد بالتأكيد بعد تلك السنوات بعقود؟ اين نحن من المجتمع الذي لا يزال الديسكو هو عنوان الانفتاح السلبي لديه والمهدد لأمن ليله؟ 

كانت الهوة تزداد اتساعا، فبين الأستاذ الجامعي الذي انزل عشتار عن المسرح وبين ذلك الشاب في الهبة من اجل الحفاظ على التقاليد بان الشرخ الحقيقي.  

وصرنا منذ تلك اللحظات بين من يحمل فوكو نصيرا لحداثته ومن يحمل ابن تيمية حافظا لتقاليده. فصار جنون فوكو وتجسيدات جسده فرضا لواقع وحيد، كما صار غضب ابن تيمية من الاغيار قاعدة عامة للحماية من الاخر الغريب. 

وختاماً يقول كنفاني: 

“إذا كان الفن هو التحرر من الوعي والعقل فينبغي ان يكون تجار المخدرات هم الناشرين. 

وإذا كان الفنان هو الأكثر هروبا من مسؤولية الوعي، فان بطحة عرق أبو سعدى هي أكبر وحي. 

وإذا كان العمل الفني هو الهذيان الأكثر تحللا، فان المحششين، والشمامين والسكرانين، الذين تراهم اخر الليل منشورين على ارصفة الزيتونة، هم ادباء العصر. “

اترك رد