رسائل اخوان الصفا: عندما كان العرب رواد العلوم والمعرفة

“ما لله سر إلا وهو ظاهرٌ على ألسنة خلقه، ولا له ستر أثخن من جهلهم به؛ لأنه لا يعلم ما هو إلا هو وإلى ربك المُنتهى، منه بدأ وإليه يعود، ثم إليه تُرجعون، فوجد الله عنده فوقاه حسابه الباري، وحده قبل كثرة كل إنسان، وحده بعد كل كثرة، وكل كثرة فعن الواحد بدأت وإليه تعود، وكل الموجودات فمن الباري بدأت وإليه تعود، يا ابن آدم أنا الله حي لا يموت، إن أطعتني وقبلت وصيتي جعلتك حيًّا لا تموت، يا ابن آدم أنا الله أقول للشيء: كن فيكون، أطعني أجعلك تقول للشيء: كن فيكون”

رسائل اخوان الصفا 

استوقفتني صورة ناسا الأخيرة للأرض والكون.  رجعت الى رسائل اخوان الصفا وتفكرت في الكلمات: 

“إن النظر في هذا العالم يكون سببًا لترقي هِمم نفوسنا إلى عالم الأفلاك، مسكن العليين، ويكثر جولان أفكارنا في محل الروحانيين، وكثرة أفكارنا في عالم الأفلاك تكون سببًا لانتباه نفوسنا من نوم الغفلة ورقدة الجهالة، ويدعوها ذلك إلى الانبعاث من عالم الكون والفساد إلى عالم البقاء والدوام، ويرغبها في الرحلة من عالم الأجساد وجوار الشياطين إلى عالم الأرواح وجوار الملائكة المقربين، وقد ذكرنا في هذه الرسالة طرفًا من كيفية صورة الأرض وصفة الربع المسكون منها، وما فيه من الأقاليم السبعة، ومن البحار والجبال والبراري والأنهار والمدن؛ ليكون طريقًا للمبتدئين بالنظر في علم الهيئة وتركيب الأفلاك وطوالع البروج ودوران الكواكب، ويقرب تصورها في أفكار المتعلمين، ويسهل تأملها للمتفكرين في ملكوت السماوات والأرض الذين يقولون: رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، وقال الله تعالى: وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِين: وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ.”

عكفت منذ بضعة شهور على قراءة رسائل اخوان الصفا وخلان الوفا. في شهر رمضان أحاول عادة ان اقرأ ما يلامس الروح ويناجيها، فأجد نفسي اتراوح بين قراءات في اعلام الصوفية تباعا. وصلت الي رسائل اخوان الصفا كما هي العادة في الصدف الجميلة التي ترميها لك الاقدار. ووجدت نفسي منغمسة تماما بهذه القراءة الاستثنائية على كل المستويات. 

رسائل اخوان الصفا أكبر بكثير من تسمية رسالة، الا إذا ما كانت الرسالة تحمل معنى بحثا علميا بدرجة ماجستير على اقل تقدير. الرسائل تقع في أربع أجزاء، تتشكل من ٥٢ رسالة. الجزء الأول أربع عشرة رسالة في الرياضة على اختلافها في العدد والهندسة والفلك؛ ثم في الفنون العملية، ثم في المنطق. نرى تأثير فيثاغورس وأفلاطون ومن ثم ارسطو بالمنطق. الجزء الثاني يتناول الطبيعيات متأثرا بأرسطو، فيبدأ بالهيوليّ والصورة والزمان والمكان والحركة، وينتقل إلى الآثار العلوية، ومن ثم يتدرج حتى يصل إلى المعادن، ثم إلى النبات، ثم إلى الحيوان، ثم إلى الإنسان، ويختم بعلم النفس. الجزء الثالث عشر رسائل فيما بعد الطبيعة، ويدمج التأثر بالفلاسفة اليونانيين الثلاثة فيثاغورس-افلطون-ارسطو. اما الجزء الرابع فيتناول الإلهيات وما يتصل بالديانات والشرائع والتصوف، وهناك تلتئم العناصر المؤثرة في الفلسفة الإسلامية جميعه: الشرقي والغربي والفلسفي والعلمي والديني، والأدبي، والفني، والاسطوري. 

كتبت الرسائل بين القرنين التاسع والعاشر ميلاديا (الرابع هجري)، ولم يعرف ابدا من هم اخوان الصفا. 

كثرت التخمينات والتفسيرات، ولكن المؤكد كان زمن الكتابة، خصوصا ان رسائل أخرى ذاعت في القرن الخامس عشر ونسبت إليهم حتى فصل الامر. 

يقدم الرسائل طه حسين، في تقدمة تكاد تشكل بحثا ادبيا رائعا. تناول فيه الأجواء التي عمت الكتابة وحاول كغيره وضع بعض التفسيرات لإصحاب الرسائل. 

في كل مرة غصت أكثر في عالم الرسائل، تأكدت انه لا يمكن ان يكون من كتبها اقل من الرازي وابن سينا وابن الهيثم والفارابي والجاحظ وابن المقفع والاصفهاني والتوحيدي بأنفسهم. لا يمكن ان يكون هذا العمل عمل ” طلاب” او “مريدي” علماء ذلك العصر. فلم يمر علي ابدا عمل بهذا القدر من الكمالية والاسهاب والاتقان. 

لم أفكر ابدا انني سأفهم حاجتنا للرياضيات او الهندسة، ولم اصدق علم النجوم والفلك، وكنت اظن ان الموسيقى عمل هواة، وان العروض نخبوية تصعب اللغة. وأجمل ما يمكن ان يقدمه هذا العمل هو اتاحة الفرصة لأمثالي بفهم ما يقدمه العلماء بلا حاجة لدراسة تلك العلوم.  

أتساءل لماذا لا يدرسونا في المدارس العلوم بطريقة اخوان الصفا. او بالأحرى لماذا لا يربطون ما يعلمونا إياه من رياضيات وعلوم مختلفة بما قدمه اخوان الصفا. لأول مرة افهم المنطق من تعليمنا ما تعلمناه في الصغر، ولكنه ذهب هباء في تركيزنا على حاجتنا للحفظ من اجل النجاح والالتحاق بالمرحلة التالية من الحياة من اجل الدراسة العمل. 

يقول طه حسين في مقدمته : “أن هذه الرسائل لم تقصد بها الفلسفة من حيث هي، ولا العلم من حيث هو، وإنما أُريد بها تكوين ثقافة معينة تهيئ لنحو من السياسة معين، ففيها من التأويل والدوران، وفيها من الحيل والخيال ما يحسن الالتفات إليه والاحتياط منه، وقد كان إخوان الصفاء أنفسهم مخلصين فقدَّروا ذلك، ولفتوا إليه، ودعوا وألحوا في الدعاء إلى ألا تُعطى هذه الرسائل للناس إلا بمقدار، وقد كان ذلك ميسورًا في العصر القديم حين كان العلم لا يُؤخذ إلا في المدارس وعن العلماء، وحين كان تحصيل الكتب واقتناؤها لا يتأتيان إلا بعد مشقة وجهد.”

في الرسالة الرابعة (الجغرافيا) من الجزء الأول، يتم تفسير النهج الذي قام عليه بحثهم، “وهو النظر في جميع الموجودات والبحث عن مبادئها وعن علة وجدانها وعن مراتب نظامها والكشف عن كيفية ارتباط معلولاتها بعللها بإذن باريها جل ثناؤه؛ احتجنا إلى أن نذكر حال الأرض وكيفية صورتها وسبب وقوفها في مركز العالم؛ وذلك أن المعرفة بحالها وبكيفية وقوفها في الهواء من العُلُوم الشريفة؛ لأن عليها وقوف أجسامنا ومنها بدأ كَوْن أجسادنا ونشوئها ومادة بقائها، وإليها عودها عند مفارقتها نفوسها”.

تبدأ رحلة الصفا بفهم ابجديات الوجود من الرقم والشكل فالفضاء في معارجه والجغرافيا لتحدد لنا مكاننا من هذا العالم لتحتضن الكون الموسيقى فتجمع الأرض بالسماء بمقطوعة اعجازية تجعل الروح تعرج على السلم الموسيقي صعودا نحو سمو الوجود الذي لا تدركه الأجساد. 

رحلة تنتهي في وجدان النفس التي تسكن في نهاية مطاف هذا البحث الكوني امام بارئها. 

في كل مرة كنت انتهي من كتاب اعجبني، كنت أقول ان هذا هو الكتاب الأفضل على الاطلاق. منذ بداية قراءة رسائل اخوان الصفا وانا أقول انه ان كان لي وصية في كتاب فهي رسائل اخوان الصفا. 

فمن يبحث عن المعنى وعن الأسئلة وعن الأجوبة لوجوده. لأسباب الخلق، لمعانيه، لحاجاته واحتياجاته، لأهميته واضافاته، ففي رسائل اخوان الصفا الملاذ واليهم الوصول وعندهم الوصال. 

فهذه الرسائل لم تقصد بها الفلسفة من حيث هي ولا العلم من حيث هو، كما يشير طه حسين، “

ما رافقني في جمع كل هذه العلوم من رياضة ومنطق وفلسفة وروحانيات بالإضافة الى تدبيرها وتفصيلها وعمق البحث والتحليل هو زمن كتابتها. قبل أكثر من ألف عام كتبت هذه الرسائل بلسان عربي مبين. تم تنقيح وتقليم وتهذيب العلوم لتقدم الى القارئ العربي بما يتلاءم مع مكانه ومكانته في ذلك الزمن الذي بدت المنافسة في العلوم على أشدها. 

لم أستطع الا ان اتخيل المكتبات بالكتب والترجمات لأرسطو وفيثاغورس وأفلاطون وغيرهم من فلاسفة وعلماء وادباء وحكماء من اليونان الى الهند وفارس. وهي تنقح وتفند وتناقش وتحلل وتبحث فتكتب في تلك الرسائل الجامعة. 

ولأن العلوم المعرفية تبدأ بعدد ١ والدائرة \ او الصفر هي مركز الاشكال الهندسية، فإن الرسائل تدور بالمعارف بعلوم ومعارف فلسفية جمعت كل ما يجب تحصيله للإنسان المثقف. تخيلت لو أني في يوم من الأيام شاركت في مسابقة من سيربح المليون، ستكون رسائل اخوان الصفا هي الموسوعة التي سترافقني لتحضير نفسي لما يمكن ان يأتيني من أسئلة. 

ربما أكثر ما استوقفني خلال هذه القراءة هو حالنا اليوم. تمسك الكثيرين منا بالماضي بعتمته لا بضيائه. فهذه الرسائل تؤكد ان العصر الذهبي في الإسلام لم يكن طفرة، ولم يكن وليد صدفة. وان الخلافات السياسية على الرغم من قساوتها وشرها الا ان المجتمع العربي الإسلامي كان ينتج فكرا وثقافة لم يتم الكشف عن كنوزها الحقيقية بعد. وإذا ما كان هناك كنز حقيقي… فرسائل اخوان الصفا هي كنز الثقافة العربية الإسلامية الذي يحتاج للكثير من الكشف والبحث والتنقيب عنه للذود بقيمته وغناه. 

نرى اليوم صورة وننبهر، كم سننبهر لو رجعنا الى موروثنا الفكري والعلمي وعرفنا ان ما قدمه اخوان الصفا في ساعات خلوتهم السرية لا يزال يبنى عليه علوم المعرفة التي نتناولها اليوم.

اختم باتفاق تام مع قول طه حسين:

“الذين ينصرون القديم ويتعصبون له، والذين يريدون أن يكوِّنوا لأنفسهم ثقافة قديمة صالحة، والذين يريدون أن يعرفوا القديم على وجهه ليستطيعوا أن يعرفوا الحديث حق معرفته، كل هؤلاء خليقون أن يقرؤوا الفلسفة القديمة كما يقرءون الأدب القديم، وليس كل الناس، بل ليس كل المثقفين، يستطيع أن يتصرف في فلسفة الفارابي وابن سينا، وإنما هذه الفلسفة وقف على الإخصائيين؛ لأنها كُتبت للإخصائيين، في حين كُتبت رسائل إخوان الصفاء لعامة المثقفين، وقُصد بها إلى إيجاد الثقافة الفلسفية الصالحة، فهي أدنى إلى العقول، وأيسر على النفوس، وهي مقدمة صالحة لدرس الفلاسفة الإخصائيين

وجملة القول إن هذه الرسائل كنز لم يُقدَّر بعد؛ لأنه لم يُعرف بعد، وهو إذا عُرف فقد يجلو قطعة من حياة الأمة الإسلامية في عصر من أهم عصورها وأجلها خطرًا، وعسى أن يكون في نشر هذه الرسائل وتيسير الحصول عليها ما يُدني من هذه الغاية، ويقرِّب من هذا المثل الأعلى.”.

اترك رد