الشبان الفلسطينيون في الضفة الغربية (٢٠١١-٢١٧): انعكاس الأمور الاجتماعية والسياسية على المحتوى الإعلامي الرقمي- ماذا حل بهؤلاء الشبان؟
في بحث دكتوراه جديد بالجامعة العبرية في القدس، وتحت اشراف المؤرخ هيليل كوهين، قدم روعي امسلم (مستشار الشؤون الفلسطينية في الإدارة المدنية لجيش الاحتلال الإسرائيلي) أطروحة بعنوان: الشبان الفلسطينيون في الضفة الغربية (٢٠١١-٢١٧): انعكاس الأمور الاجتماعية والسياسية على المحتوى الإعلامي الرقمي.
اعتمد البحث على مجموعة من ١٧٤ منتج اعلامي رقمي من أغاني الى كوميديا هجائية وغيرها، وركز على سبعة فنانين هم قاسم النجار وشادي البوريني وكريم طروة وعلاء دويري وعلي قراقع وفريق ليث نفال وعلاء المصري.
قبل ان ابدأ القراءة سرحت بمخيلتي الى دراسة أخرى لم تكتب بعد. نفس العنوان، ولكن من السنوات (٢٠١٧-٢٠٢٢). فكرت على من سيقع الاختيار؟ سما عبد الهادي، بشار مراد، جودي أبو عيشة وايمن السبعاوي وسماح أبو كف ملوك الدحية ومحمد المغربي الجبيد. وربما كان اوبريت حارس السلام واغنية مدينتنا جميلة على أنغام بيلا تشاو والحرب على الكورونا واغنية ازرع ليمون ازرع تفاح واغنيات رامي الحمدلله من أبو الوليد سندنا الى بيرقنا العالي، وربما العروج الى غزة وعادل المشوخي منذ ان ضاع بنطلونه، هي اغاني الجيل الفلسطيني الأخير.
يتابع الباحث الإسرائيلي الحراك الفني وتأثره بالنضال الوطني الفلسطيني، القيادة الفلسطينية، والقضايا الاجتماعية والسياسية، ويطرح التأثيرات المختلفة على الشباب بين الجيل (١٥-٣٠) في ثلاثة فصول. في الفصل الأول: تمثيل النضال الوطني الفلسطيني يتناول كل من مسألة العودة، توجهات الوضع السياسي الداخلي، العدو الإسرائيلي- المستوطنين والجنود، الجدار والحواجز، الاسرى، والمسجد الأقصى.
في الفصل الثاني: التمثيل القيادي الفلسطيني والسلطة السياسية، فيتناول حرية التعبير وتصرفات المسؤولين في السلطة، النقد الموجه ضد كل من فتح وحماس، المؤسسات القيادية الرسمية، التنسيق الأمني والتطبيع، المناصب في السلطة.
الفصل الثالث: يناقش الجوانب الاجتماعية والاقتصادية ويتناول هنا التعليم ونظام التعليم العالي، التوجيهي، سوق العمل والتعليم والتفاوتات الاقتصادية المدنية، المهر، الزواج، شركة الاتصالات، أخطار الطرق، التدهور الأخلاقي في المجتمع الفلسطيني، النساء، المظهر، العنف ضد المرأة، ودور النضال الوطني.
في النهاية يلخص مسائل التأثيرات والاستنتاجات والمواقف من وضع المرأة، المحافظة، السلطة الفلسطينية، البيئة الثقافية، تحديات الخروج من المراهقة، الشخصانية، النضوج.
لم اكف عن السؤال لماذا يهتم الإسرائيلي بهكذا بحث؟
الحقيقة انهم دائما يهتمون، ودائما ما نأخذ ما يبحثون فيه كردة فعل او فعل ارتدادي نبدأ بترديده.
يطرح الباحث العوامل التي تعيق التغيير بالنسبة للشباب مشيرا الى انه “لم يشهد الشبان في الضفة مواجهة عنيفة مطولة مع إسرائيل، او حدثا رائدا مثل النكبة. الظروف السياسية والسياسات الفريدة التي ميزت مراهقتهم كانت مختلفة وتضمنت الجمود السياسي وعدم تقدم احراز سياسي نحو التسوية الدائمة.”
يشير الباحث الى ان الثقافة الشعبية في القرن الواحد والعشرين يمكن ان تكون عرضا واقعيا على شاشة التلفزيون، التسوق وشائعات المشاهير، وحتى العاب الحاسوب التي تعكس الثقافة الجماهيرية. ويمكن لهذه الثقافة ان تكون جزءا من الثقافة الشعبية للمبدعين الذين يمثلون اشخاصا عاديين ليسوا جزءا من مؤسسة او من منظمة مهنية في المجال الثقافي.
وهنا، هذه الاعمال الشعبية ممكن ان توفر رؤى ومعلومات مهمة، لا تقل عن الأفكار والمعلومات التي يتم نقلها من السلطة. وهنا قد تبدأ الإجابة الأولى على سؤالي: لماذا يهتم الإسرائيليون بهكذا دراسات. الجواب بسيط: مبدأ اعرف عدوك.. او بالأحرى ، ادرس عدوك.
يستمد الباحث فكرته من محاولة فهم الشباب الفلسطيني من خلال الباحث جميل هلال و”فردانية” المجتمع “نتيجة تبني نهج اقتصادي ليبرالي جديد مع انشاء السلطة الفلسطينية. وانشاء قطاع جمهور واسع يميل الى السلطة، وزيادة كبيرة في عدد الموظفين في المنظمات الدولية وتشكيل طبقة وسطى تعتمد على القطاع الخاص. التكوين السريع نسبيا لطبقة وسطى فلسطينية عمق الفجوات الاقتصادية في المجتمع، وخاصة بين الطبقة الوسطى والضعيفة من المجتمع- اقتصاديات ومجموعات مستبعدة من مؤسسات السلطة الفلسطينية لأسباب سياسية واجتماعية. لقد طور الوسيط الفلسطيني ثقافة استهلاكية جديدة نسبيا في المجتمع الفلسطيني يتم تمويلها جزئيا عن طريق اخذ القروض. هذا خلق اعتمادا كبيرا على الطبقة الوسطى وعشرات الاف من العائلات التي كانت تعتمد على العمل في إسرائيل والمستوطنات … العلاقة التي تشكلت فيا لسلطة والطبقة الوسطى ومثلث القوى الإسرائيلي عمقت الفجوات في المجتمع ودعمت الثقافة الفردانية.”
اتسم الفنانون الشباب الذين تم اختيارهم من قبل الباحث بتقديم رؤيا مستقبلية لدولة فلسطينية من البحر الى النهر. موقفهم على حسب الباحث متماسك نسبيا فيما يتعلق بالهدف السياسي الذي يجب السعي لتحقيقه، على عكس ما يتسم به الشعب الفلسطيني بالعموم حيث “يركز على الاحتجاج في مواجهة الوضع السياسي دون معالجة واضحة او معالجة على الاطلاق.”
يعرض الفنانون كذلك عروضا تمثل المواجهة والنضال الشعبي بكافة مستوياته من خلال الفيديوهات المصورة.
يربط الباحث في مقارباته بين الاعمال المختلفة بموضوع النضال الشعبي بأساليب الفنانين المختلفة وينتقل الى ليث نفال وعلاء المصري اللذين يربطان النضال بالحجر والتعليم لكي تحرر فلسطين. وموضوع حق العودة يتم تناوله في الاعمال الفنية من حيث التمسك به وعدم التنازل عنه، والانصياع لأمريكا وإسرائيل، والشتات الذي فرض على الناس.
تناقش الاعمال كذلك العلاقة\ التصدي والمواجهة مع الجيش الإسرائيلي بين وصف لقوته وبين جبن الجنود وعنفهم المفرط واجرامهم.
يعرج كذلك الباحث الى تناول الفنانين في عينته لمسلسل باب الحارة وشخصية سارة اليهودية ومحاولة صناع المسلسل بتطبيع الموقف العربي.
يستعرض البحث كذلك مسألة الحواجز والنقاط العسكرية والجدار ومدى تسببه للأذى النفسي والحقيقي على الانسان الفلسطيني بأعمال الفنانين الشباب، وكذلك تمجيد الاسرى وبطولاتهم وشجاعتهم وتحملهم.
الحقيقة ان هناك العشرات من الاعمال المثيرة جدا للاهتمام تم معالجتها في هذا الفصل، تشيد بأعمال كل من قاسم النجار وشادي البوريني بطريقة ملفتة للنظر. وكأن الباحث وجد كنزا مخبأ في هذين المبدعين. هذا ما يمكن ان نسميه “المشروع الوطني”. من لبنة شباب كهؤلاء، استخدموا ابداعهم ليقاوموا ويناضلوا ويسمعوا صوتهم وينقلوا وجعهم ويعبروا عنا وعنهم.
الفصل الثاني يتناول موقف المبدعين من القيادة الفلسطينية. يبدأ الفصل بمسألة حرية التعبير ومساحاتها. يتناول هذا الفصل كذلك مسألة التنسيق الأمني والانقسام.
يشير الباحث هنا ان الفجوة بين القانون الفلسطيني وتنفيذه على ارض الواقع تنعكس في عمل (بابا فين) قاسم النجار الذي يتأسف فيه على انتهاك حرية التعبير، واغنية (بهمش). يتعرض الفصل هنا الى الاعتقالات التي كانت قد بدأت بالاتساع على خلفية التعبير عن الرأي منها اعتقال ايمان القواسمة وعيسى عمرو.
ثم يتابع الفصل بعنوان تصرفات أعضاء القيادة الفلسطينية واغنية قاسم النجار بتعرف شو يعني انتفاضة؟ واغنية دبرها يا حمدالله.
في القسم الثالث من الفصل يتناول الانقسام ويعرض فيها العديد من الاعمال، ومرة أخرى مع قاسم النجار والبوريني واغنية يلعن أبو الانقسام وغيرها، وعلاء الدويري وكذلك قراقع. في المقابل كانت أغاني ليث نفال وعلاء المصري تدعو لتدخل حماس واخذ دور فعال.
اما القسم الرابع من هذا الفصل فتناول المؤسسات الرسمية واضراب المعلمين، والمجلس التشريعي المعطل والقضاء كمثال لأغنيات الشباب.
يبدو انه مع عام ٢٠١٧، بدأ شراء الولاءات، فيتم تناول اغنية كريم تروعي تشيد الامن الوطني\الوقائي والشرطة في الخليل من قبل أحد الفنانين. ويرجئ الباحث هنا ان هذا العمل ” لا يعبر عن صوته الفني الأصلي، ولكن يتم تكليفه به لمستفيد معين، ربما مقابل رسوم، وتضمنت رسالة مدح لقائد شرطة الخليل، ويحتمل التخمين هنا تأثر الفنان بمصلحة الاسرة، حيث ان والد كريم يعمل في الامن الوقائي الفلسطيني.
يتناول هذا المبحث علي قراقع أكثر من غيره في انتقاده وسكيتشاته ضد التنسيق.
اما القسم المتعلق بالشخصيات، فيذهب الباحث الى ان البوريني والنجار وقراقع ذهبوا الى ذكر المسؤولين بالاسم: محمود عباس، سلام فياض، رامي الحمدلله، الهباش، صائب عريقات، احمد قريع، المالكي، جمال نزال وغيرهم.
هنا يتوقف عند النجار واغنيته دبر حالك يا سلام والتي تلتها اغنية دبرها يا حمدالله فيقول: ” بعد شهور من تولي رامي الحمدلله منصبه كرئيس للوزراء، امتنع النجار عن اتقاد الحمدلله والاشارة الى سياسته في عمله بشكل أساسي الى الوضع الكئيب والصعب وجهود الحمدلله على تمرير التعبيرات في السلطة. موقف النجار المتردد وتجنب النقد تجاه الحمدلله برأيي نابع من معرفة وتقدير للنجار كطالب في جامعة النجاح التي كان الحمدلله رئيسها. اختار النجار تأليف اعمال عن رئيسي وزراء، ولكن وجه انتقاداته القاسية لفياض فقط. في تقديري السبب الرئيس هو ضعف فياض السياسي بكونه مستقلا وليس عضوا في فتح، والذي تحدى حصانة قيادة فتح المخضرمة. قرب نهاية ولاية فياض اشتدت أصوات الانتقادات ضده وأصبح هدفا سهلا لمنتقديه من داخل فتح وخارجها، ومنهم قاسم النجار.”
انتهى المطاف بعلي قراقع للعيش بتركيا بعد تهديده.
الفصل الثالث يحمل عنوان تأملات في القضايا الاجتماعية والاقتصادية. تعرض هذه القضايا من خلال اغنية شادي البوريني “الوضع ماكل هوا”. تتناول الاعمال الأولويات الاجتماعية والاقتصادية للشباب. يقسم الباحث القضايا قي أربع اقسام وهي نظام التعليم والتعليم العالي، عدم الاستقرار في النظام واشكالية التوجيهي وسوق العمل، شركة الاتصالات، الخطر على الطرقات، التدهور الأخلاقي في المجتمع.
يشير الباحث الى بيانتا منظمة العمل الدولية التي تم جمعها سنة ٢٠١٩ وتفيد ان ٥٩٪ من العاملين في الضفة الغربية يعملون في اعمال غير منظمة وغير مستقرة. جزء من هؤلاء العمال يعملون فقط لعدد محدود من الساعات في الشهر، ومدرجون في بينات جهاز الإحصاء المركزي الفلسطيني كعاملين ولا يتم احتسابهم كعاطلين عن العمل… ان البطالة الفعلية في الضفة الغربية اعلى من بيانتا البطالة المنشورة.”
يضيف الباحث كذلك ان: عمالة الشباب تتعلق بالصلة السلبية بين مستوى التعليم والبطالة. أي انه كلما زاد مستوى التعليم زادت احتمالية البطالة. هذا الارتباط ينبع من ارتفاع حاد في عدد الطلاب وخريجي مؤسسات التعليم العالي، بشكل لا يتوافق مع متطلبات السوق الوظيفية والشواغر.”
القضايا الاقتصادية والمهور شغلت الشباب كذلك بالإضافة الى التكاليف المرتفعة التي يدفعها السكان مقابل الاتصالات الخلوية والانترنت.
الحقيقة ان التحليلات لأعمال شادي البوريني وقاسم النجار وعلي قراقع مهمة وممتعة للقراءة، خصوصا انني كنت متابعة لهم، واستطعت ان اربط الأغاني بالتحليل. وعلاء دويري يبدو مثيرا جدا للاهتمام ولفت بشكل معمق الى أهمية هذه الاعمال.
ولكن تساؤل اخر استوقفني: اين هؤلاء الآن؟
لا زلت اذكر قاسم النجار وشادي البوريني وايقاع اضرب تل ابيب. وربما تكون اخر مرة شاهدتهما عند انتصار منيب المصري في قضية وعد بلفور، عندما تم احتفال الشبان مع المصري، على الرغم من ان الاغنية كانت قبل القضية.
مرة أخرى اعود الى حيث بدأت؟ لو كتبنا البحث بالسنوات التالية (٢٠١٧-٢٠٢٢)، ربما نسأل او نتابع اعمال نفس الفئة التي تم البحث في اعمالها في هذا البحث.
خطر ببالي وطن على وتر كذلك، كيف كان أداء وتأثير هذا الفريق في تلك الفترة وقبلها وما جرى بعدها. ولكن بالتأكيد، ان تجربة كل من قاسم النجار وشادي البوريني والأخرين في هذا البحث مهمة جدا، وتركت حينها ولا تزال اثرا مهما في فكرة النضال الشعبي الفلسطيني. لماذا لم نعد نرى هكذا اعمال؟ قد يكون سؤالي سخيفا بقدر سذاجته. ولكن بالتأكيد وبعيدا عن السذاجة المدعاة هنا، ان كان هناك مجالا للقول في شيء فهو القول في شأن حرية التعبير التي تم تجفيفها منذ ٢٠١٧ لنشهد جفافها ويبسها وحرقها تماما في وصولنا الى هذا العام.
لماذا كانت مساحة التعبير أكبر حينها؟
هل ازدياد الفساد وانعدام الامن وانهيار منظومة القضاء والعدالة والاقتصاص من الناس في ارزاقهم وحياتهم أدى الى اخراس هذه الأصوات؟ ام ان الجيل تغير بالفعل ولم يعد هناك امل بالتغيير فعكف الشباب على ما يلهي العقول ويبعدها عن السجن وقطع الارزاق والقتل؟
القضايا والمعالجات التي كان يتم طرحها من قبل المبدعين كانت تبدو لوهلة اننا بخير. او بالأحرى يمكن ان نكون بخير. عندما يكون هناك وعيا بهذا القدر من الشباب في كافة القضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ومقدرتهم عن التعبير عنها بهذا الابداع. ما الذي حل بوعينا؟
نحن امام قضية الاحتلال فيها استعماريّ احلاليّ. حلّ علينا من كل اتجاه وتم إحلال الحلول علينا وها نحن نشهد تحللنا.