رواية اولاد الناس: إغراق فغوص فنجاة

رواية أولاد الناس 

ثلاثية المماليك 

ريم بسيوني

لا اعرف من أين أبدأ ولقد انتهيت من هذه الرواية العظيمة. ربما عظيمة بحجمها هو اول ما يخطر ببالي ولقد تضخمت الصفحات التي اقتربت من الثمانمئة بعد تغلغل ماء بركة السباحة على أطرافها خلال الأيام الأخيرة. 

خلال أسبوع من القراءة الورقية التي ابتعد عنها مؤخرا آثرة القراءة المسموعة للحفاظ على ما تبقى من نظر، واستغلال وقت المشي في طرب الاذن بقراءة ما يمتع العقل ويستفز التفكير، رافقتني شخصيات الرواية بزينب وضيفة وهند، بينما كنت لا أزال اقرأ في كتب المتصوفين السابقين، والذي كان اخرهم ابن حيان التوحيدي ووقوفي الأخير عن ابن طفيل برسالة حي بن يقظان. 

بين شخصيات ريم بسيوني النسائية وبين شخصياتها من الرجال بدا التبحر في الصوفية متعة تعلو امواجه تارة وتنهزم في هدوء تارة، وتعود ادراجه نحو التفكر فيما كان لنا من حياة شعوب وحكام في هذه البلدان. هزائم وانتصارات. حروب وسلم. تقهقر وغزوات. عمارة وانهيار بنيان. نساء ورجال تغلبوا على أنفسهم وعلى ظروفهم بين تحرر وعبودية، تفوق وانكسار، انتصار واستسلام. وحياة يملأها الظلم ويسودها الفساد والطغيان ليخترقها العدل للحظات. 

ربما قيل الكثير في هذه الرواية، ولا اعرف ان كان ما سأكتبه يزيد من أهميتها او لا. فبعد جهد القراءة الطويل شعرت باستسلام الصوفي لعزلته وانتصاره لها. فلا كثرة الصفحات ولا امتلاء العقل بالمعلومات والشخصيات ولا الاحداث التاريخية ولا ربطها او فكها او محاولة فهمها يهم…. تنزوي في احدى زوايا مسجد السلطان حسن بساحاته الشاسعة وتنظر في تأمل لجمال الصنيع وتستمع للآذان بصوت شاب شذي وتترك مخيلتك تخوض التجربة التي عشتها على مدار عشرة عقود من الزمن في ثلاث فترات متقطعة حينا وممتدة حينا لتلتقي ب “بجوزفين” ربما او بريم او بنفسك بينما تتأمل خبايا ما تركه المماليك من انبهار للعمارة تشد اليها الناظرين. 

“ما أسهل فناء البشر بعد الوباء شعرت بضآلة الإنسان وتفاهته، تعرف، لابد أنك تعرف أن الحروب تذهب هباء لو لم نسجلها ونخلدها بالعمائر، لا وباء يقتل العمائر ولا غدر يغتالها.”

في الجزء الأول من الرواية، كدت اتركها فور الانتهاء منها للمرة الثانية، فتجربتي مع الرواية لم تكن الأولى، فلقد بدأت قراءتها قبل عام وتركتها لانشغالات ولربما لأني شعرت التكرار في قصص ذكرتني بطريقة جرجي زيدان في الروايات التاريخية. ولكن اعترف انني ظلمت الرواية وتركت ما وقع على مسامعي من نقد ليؤثر علي. وكدت أقع في نفس الشرك في قراءتي الثانية، ولكن الانبهار الحقيقي بدأ عندما بدأت بالجزء الثاني من الرواية. 

تقع الرواية في ثلاثة أجزاء لثلاثة حكايات عن الفترة المملوكية، في إطار تاريخي عكس الوضع الاجتماعي والسياسي لمصر وأهلها في الوقت الذي سيطر فيها المماليك على مصر بعد انتهاء حكم الدولة الايوبية. 

 الحكاية الأولى لعصر السلطان الناصر محمد بن قلاون. الحكاية الثانية بعصر السلطان برقوق، والحكاية الثالثة – وهي فترة هزيمة المماليك على يد القوات العثمانية بقيادة سليم الأول ، وقتلهم وتعليقهم على أبواب القاهرة، من تعليق السلطان طومان باي على باب زويلة الى تعليق رؤوس المماليك على مداخل البيوت.

مدار الرواية هو مسجد السلطان حسن وبناؤه. الظروف التي أدت الى بنائه وما كان وما صار من مساجد وعمائر في ذلك الوقت. وكأن الرداء الصوفي يلتف على الرواية فيصيب القارئ بالصبر والتحمل على طول الاحداث وكثرتها وتكرارها أحيانا كثيرة، ومشاهدة مملوكية مصبوغة بأولاد الناس او العكس تحمل الرواية أفكارا أكثر من تلك الأدبية والصوفية فتجعلنا نتفكر في امر السياسة والحكام والشعوب. 

كأن في الرواية انصافا للمماليك من جهة، ولفت الانتباه الى أولاد الناس الذين كانوا من المصريين الذين تزوجت نساؤهم المماليك وكان الأبناء من أبناء الناس لا من المماليك. 

النظرة الى المملوك وكأنه مهما علا وصار اميرا يبقى مملوكا- أصله عبد، حتى لو تربى في قصور السلاطين. والمصري يفضل بساطته وفقره وعوزه على ان يختلط دمه بدم المماليك مجهولي الانساب والأصول.

في نفس الوقت كانت هناك مراجعة دائمة للأحداث وطريقة تأريخها من وجهات نظر مختلفة: المماليك كمحتلين لا يمثلون اكثر من مجموعة من العبيد تم جلبهم عندما كانوا أطفالا ليصيروا جنود وتابعين للسلاطين والامراء الذين تسلطوا على المصريين. ومن جهة، انتصارات المصريين على التتار والصليبيين وحمايتهم لمصر من الغزاة على مدار قرون. ومن جهة أخيرة، اثرهم المعماري والخيري والتعليمي في بناء المساجد والعمائر والأسواق والخانقات وغيرها.  وعليه يتم طرح التساؤلات: 

هل قدر الشعب المصري كان العيش وسط من يحكمه من اغراب صاروا ملوك البلاد؟ هل كانت فترة المماليك بهذه الأهمية، فكانوا غزاة مستوطنين مستملكين لمصر، حموها من الغزاة الاخرين؟ هل كان العصر المملوكي اهم وأصلح من العصر العثماني؟ هل. الفرق بين الحكمين ان للملوكي لم يكن وطنا غير مصر، بينما للعثماني بقيت الاستانة هي وجهته الأهم؟ 

توقفت لبرهة للتفكير في هذا الشأن، وتذكرت المؤرخ المصري خالد فهمي وكتابه كل رجال الباشا، الذي كتب عن فترة محمد علي التي يمكن ان تكون هي فترة اعتلاء العثمانيين الأكثر هيمنة على مصر والحكم الفعلي فيها منذ بداية حكمهم او غزوهم في أواسط القرن السادس عشر منذ الخليفة سليم الاول. 

مسألتان استوقفتاني وبحزم: الأولى متعلقة بالبعد السياسي، كان ذلك جليا في الجزء الأول: هل العسكري واجب الولاء والطاعة لأنه الحامي للبلاد وعليه كل ما يقوم به يمكن غفرانه ويجب قبوله وتمجيده؟ 

والثانية هي المرأة في الرواية. 

بين المرأة والرجل في الرواية نرى قوة ومكانة وقرارا هاما في سير الأمور في الأجزاء الثلاثة. فكل امير مملوكي او شيخ جليل او مقاتل جسور تقف وراءه زوجة مصرية تغير طبائعه وتروض غروره وتجعل منه خادما امينا للمصريين… ينتهي العمل الصالح بتجسده في فكرة جامع السلطان حسن. 

وهنا مأخذي الأساسي، للم تعجبني النساء في الرواية، على الرغم من هيمنتهن وسط ضعف مغلف لقوة تنقض عنوة بعد عشق كبير. ولكن هناك متلازمة للشخصيات النسائية وللرجال على حد سواء، فتخيلت نفسي اقرأ “خمسون لونا من الرمادي”، متلازمة ستوكهولم رافقت الشخصيات. على الرغم من التعاطف والاعجاب الذي قد يرافق القارئ لوهلة خصوصا بمشاهد القوة المنبثقة عنوة من تلك الشخصيات المغلفة بمسحة “رومية” من العشق تذكرنا بشمس الدين التبريزي والرومي. ربما لو كانت هذه الصيغة في شخصية واحدة فقط لكان أسهل تقبلها على القارئ، ولكن توالي هذا التلازم في بناء الشخصيات النسائية لبطلات الرواية كان هو الأضعف برأيي. ولكن دقة الوصف وبراعته وسلاسة اللغة والعشق السرمدي الصوفي جعل من القراءة مقبولة ومستمرة، الا انه كان يمكن الاستغناء عنها خصوصا مع كثرة الصفحات. 

ككاتبة، اعرف ان أصعب ما يمكن ان يوجهه قارئ لكاتب هو هذه الكلمات: “الكتاب كثير طويل”. واعرف معنى الكلمات وقيمتها للكاتب، فالاختصار كعملية القتل الجماعي قاتل للكاتب قبل قتله للفقرات والصفحات والتخلص منها. الا انه هنا كان يمكن الاستغناء عن الكثير من الصفحات التي استطال فيها الوصف والاعادة والتكرار الذي كان ممكن الاستغناء عنه، خصوصا ان بالرواية الكثير من الاحداث التي تطلبت التفكر والاندماج والانصهار بها. 

ولكن مرة أخرى، اخذنا للخلجات الصوفية من تأملات جميلة الوصف والمعاني جعل من هذا العبء مقبولا. 

ربما تكون شخصية ضيفة هي الأقرب الى قلبي، فلم يكن هناك اغتصاب او اخذ عنوة من قبل الأمير او الجندي المملوكي، ولكنها تعرضت لتنكيل من الاب، ولكن مرة أخرى خرجنا من متلازمة ستوكهولم ووقعنا في متلازمة النايت نجيل او متلازمة لوليتا. 

تقسيم الجزء الثالث الى شهادات من شخصيات ثلاث (سيدار-هند-الترجمان مصطفى باشا العثماني) كانت في رأي ذكية جدا وبها إجابات ربما لما أصاب القارئ من حيرة في الأجزاء السابقة في كيفية تركيب الروايات التاريخية. كيف ينظر الانسان منا الى الرواية من وجهة نظر كاتبها او محدثها. وهنا وضعتنا الكاتبة امام ثلاث روايات على لسان الابطال الثلاث: المرأة المصرية- الأمير المملوكي- الغازي العثماني. كيف يروي كل القصة ذاتها من خلاله هو. كيف يمكن لنفس الحدث ان يروى بثلاث طرق وثلاث حكايات مختلفة. كل قصة هي قصة حقيقية وحقة من وجهة نظر راويها. 

وكأن الراوية هنا انتهت بنا الى ان يقول كل قصته بلسانه، لا كما تقوم هي به بالأجزاء السابقة من نقل وجهات النظر المتباينة دوما. كيف يرى المصريون ما حل بهم من حكم. كيف ينظر الحكام الى اهل مصر. وكيف يتعامل من انغمس وسط هذه العلاقات بين مصريين ومماليك بهذا الواقع. 

وللرواية الكثير من التوقفات والكثير من الاقتباسات التي يجب التوقف عندها كثيرا. مليئة بالمتعة والتشويق وحبس الانفاس. 

مليئة بالتاريخ الذي حاولت الكاتبة ببراعة وخفة والكثير من الحب والتفاني نقله بصورة أدبية درامية اخاذة بالتأكيد. وحملتنا بين دفتي العشق وجعلتنا نصدق ربما، او نتمنى صدق العشق عندما يتبدى لنا ونتمسك به ونلوج في اعماقه ونحلق في خلجاته.

اختم بعبارة اعجبتني وسط الكثير من العبارات التي استوقفتني بإعجاب واغراق بسلاسة اللغة ومفرداتها: 

“في هذا الزمن تختلط الحقائق وتضيع الحقوق، وتنتشر الريبة، ويفقد الفقير السند والثقة، ووجود رجل مثلك كظهور نجمة الشمال في صحراء القاهرة يرشد ويهدي النفس التائهة.”

اترك رد