تخطى إلى المحتوى

إذا استقر الرأي على المشاركة في الانتخابات البلدية في القدس فما السبيل الأقل ضرراً لذلك؟

لا أعرف لم اشتعلت حمى الانتخابات البلدية في القدس فجأة وقبل موعد الانتخابات بأكثر من سنة. بالعادة تحضر الناس نفسها للانتخابات بالتأكيد قبل سنة وسنتين، بل أكثر، في بلاد العالم الطبيعي، لا ينتهي التحضير لمن يريد الخوض في غمار عالم الانتخابات. ولكن في بلادنا هذه التي لا انتخابات فيها الا ما يقررها صاحب السلطة متأكدا من فوز فصيله، وعليه لا يبدو اننا سنحيا لهذا اليوم. او ننظر لانتخابات سلطات الاحتلال التي على عكس العالم الطبيعي كذلك، تجري كل سنتين في أحسن الأحوال. اما انتخابات البلديات فهي خارج هذا الغمار عندما نتحدث عن مجريات الأمور لدى الاحتلال، فهي تجري كما هو مطلوب لها وفق اللوائح المعتمدة. وبالعادة لا شأن لها الا التمني بالتخلص من حاكم عنصري يخلص عليه من هو أكثر عنصرية منه. وفي شأن الانتخابات المتعلقة ببلدية القدس، ندور كل مرة كمن يدور وطاحونة هواء يديرها بغل او جاموس. تدور الطاحونة وينهك البغل فينام حتى يوقظه صاحبه للدورة الجديدة. 

وفي كل مرة تخرج أصوات تقرر الخوض في الانتخابات البلدية تحت شعار حاجة سكان المدينة من الفلسطينيين للخدمات وبالتالي واجب تمثيلهم. ويخرج مقابل هذا الصوت أصواتا تشجب حتى التفكير في الامر وتصرخ بصوت واحد: لن نقبل بالانصياع وتوحيد المدينة والاعتراف بسلطة الاحتلال. 

بين الموقفين هناك الكثير مما يمكن ان يقال ويجب ان يقال. 

من ناحية، سكان مدينة القدس يشكلون أكثر من ثلث تعداد السكان (٣٤٩،٦٠٠ عرب مقابل ٥٦٩،٩٠٠ إسرائيليون) ومنهم حوالي ٤٠٠٠ من حملة الجنسية الإسرائيلية من الداخل، وهم قوة انتخابية مهمة إذا ما قرروا استخدام حقهم بالتصويت. يجب التنويه هنا ان سكان القدس من الفلسطينيين لا يحق لهم التصويت في الانتخابات البرلمانية والعامة في إسرائيل، لأنهم لا يحملون الجنسية الإسرائيلية في معظمهم. وعدد اهل المدينة الحاصلين على جنسية إسرائيلية منذ ١٩٦٧ هو  ١٨،٩٨٢ (الرقم الصادر من وزارة الداخلية حتى تاريخ ١٨-٤-٢٠٢٢) أي ما لا يتجاوز ال  ال٥٪ من عدد السكان الفلسطينيين في المدينة على حسب تقرير صدر في حزيران السابق لصحيفة هآرتس العبرية. من الجدير الإشارة الى ان عدد المتقدمين للجنسية الإسرائيلية على حسب رسالة وزيرة الداخلية لعضو الكنيست موسي راز لتاريخ ٣١.٣.٢٠٢٢ من سنة ٢٠٠٢ حتى تاريخه بلغ ١٦٥٧٣ طلب تم الموافقة على ٦٣١٤.

من ناحية العدد-الصوت الانتخابي والتمثيل، هناك حجة مهمة يحملها أصحاب فكرة ضرورة المشاركة بالانتخابات تقول ان الفلسطيني يدفع الضرائب ويتلقى الخدمات وهناك ميزانيات تصرف في البلدية للسكان الفلسطينيين لا يعرف عنها الفلسطيني شيء. فمن يمثلنا بداخل البلدية قد يكون ارييه كينغ (أحدالمستوطنين المتشددين الذي ذاع صيته في تسريب الأراضي والاستيلاء عليها في شعفاط، عناتا، الشيخ جراح وسلوان وارتباطه الوثيق بالجمعيات الاستيطانية وحارس أملاك الغائبين). هناك الكثير من الازمات التي يعاني منها المواطن المقدسي ولا يوجد من يلجأ اليه، وهو في نهاية المطاف مضطر للجوء للبلدية: الارنونا، تراخيص البناء، أوامر الهدم، المياه والصرف الصحي، الصحة، المواصلات، الطرقات، النظافة، التعليم، العمل، وكل ما يرتبط بكافة نواحي الحياة. قد تكون ابسط الأمثلة تلك التي اعاني منها يوميا عندما لا أستطيع المشي في الشارع بين تزاحم النفايات والسيارات. الفوضى العارمة التي تجتاح الحي، لا أستطيع التذمر او الشكوى او التفكير بطرح حل، فلمن سأطرح شكواي او حلي؟ لجنة الحي التي لا اعرف عنها شيء ولا اريد ان اعرف لأنها مكلفة من البلدية التي لا اعترف بشرعيتها علي. ومع هذا، لا يمكنني الا ادفع ضريبة الارنونا والتي تعني بخدمات السكن والشارع بالحي. واجد نفسي مرغمة على الاتصال بالشرطة عند وقوع الخطر، ولا اعرف ان كانت الشرطة حامية ام متواطئة. المخدرات التي يتم بيعها علنا بالشوارع ورائحة الحشيش التي تفوح المكان. التعليم، مثال اخر يبدو انه أقرب الى الحسم، حيث صار توجه الطلاب والأهالي الى امتحانات البجروت الإسرائيلية اكثر اختيارية وطوعية منه الزاميا. فلم يعد هناك حاجة لكي تفرض إسرائيل منهاجها التعليمي – الذي فرض أصلا- لأن الناس ملوا وتعبوا من مأساوية التوجيهي الذي لا يزال تعجيزيا امام تدني متلاحق للتعليم. فلا الطالب يريد الذهاب الى مدرسة لا تتبع الى المعارف الإسرائيلية ولا المعلم. فلماذا يعلم المعلم في مدرسة تابعة للتربية والتعليم الفلسطيني تعطي معاشا اقل بكثير وبمزايا شحيحة وبتعيينات واقالات لا يفهمها صاحبها ولا من قررها. ولماذا يذهب الاهل الى مدارس تفتقر الى أساسيات المدارس والتعليم من حيث الاعداد والوسائل والمزايا، وبأسعار عالية جدا، بينما تقدم المدارس الإسرائيلية التعليم مجانا تقريبا ومدارس ووسائل ومزايا وبرامج وفيرة ومتقدمة تراعي فيها الأنظمة العالمية للجودة. والاهم، هو مسألة إمكانية المساءلة، فالمدارس التابعة للمعارف الإسرائيلية تخضع لنظام مساءلة حاسم، حق الطالب فوق حق الجميع. المعلم ملتزم ومتابع ومحاسب. ظروف العمل تبدو عظيمة بالمقارنة بظروف عمل المعلم الفلسطيني في الضفة. بينما يبتعد الفلسطيني عن مهنة التعليم بعد تخرجه، تشكل مهنة التعليم طلبا واسعا من قبل الخريجين الفلسطينيين، ولعله يبدو من المضحك ان تكون مفتشة التعليم او مسؤولة البلدية او المعارف العربية هي بمثابة رئيس البلدية او أكثر، رئيس الدولة للمعلمين والأهالي في المدينة. 

التأمين الصحي والوطني ولم الشمل والهويات، قضايا يتفرد صاحبها بمشاكلها المستعصية، يعيش المرء في رعب دائم من تهجير قصري قادم، ينتظر منّة موظف درجة خامسة ليقدم له خدمة، ومحامي ينقض عليه انقضاض الذئب على فريسته. 

البناء، والتراخيص واوامر الهدم والهدم، رعب آخر يطال الالاف من المقدسيين، لا حول لهم ولا سبيل الا الانتظار، بفرج من الله او تغيير حكومي إسرائيلي او ضغط دولي ربما يؤجل كارثتهم المحدقة.

الساحة فارغة تماما من أي تمثيل او دفاع عن الحقوق الفلسطينية في البلدية المتحكمة تماما بشؤون السكان. فلا نعرف كيف تصرف الأموال او توزع. 

من ناحية، نريد ما نستحقه من امتيازات مقابل الكم الهائل من الضرائب المفروضة علينا من ارنونا، ضريبة دخل، ضريبة مضافة، تأمين صحي، صرف صحي وغيرها، والتي لا يمكن لنا ان عيش في هذه المدينة بدون دفعها. فالفاتورة المستحقة التي لا يتم دفعها بموعدها تتضاعف مع كل نفس بعد انتهاء موعدها الأخير. في المقابل تجد السكان الفلسطينيين من رافضين بالمطلق لفكرة البلدية ودخولها والفريق الاخر من مؤيدين للفكرة في الصفوف الأولى لتلقي الخدمات الفردية من مزايا تأمين وطني: مستحقات بطالة، مستحقات إعاقة، مستحقات شيخوخة، مستحقات إصابات وغيرها الكثير من الخدمات التي لا يتوانى أحد عن تلقيها تحت عنوان الاستحقاق، فنحن ندفع لهذه البلدية التي تنهبنا يوميا، فلماذا لا نأخذ منها ما تقدمه من خدمات؟ 

الأماكن العامة على سبيل المثال، أماكن يتم توفيرها من أراضينا التي تم مصادرتها، الضرائب التي دفعناها، تحولت الى مراكز للحشاشين وتجار المخدرات، اوساخ وقاذورات، نسبة نظافة محدودة مقابل ما نراه ونشهده في شوارع الاحياء اليهودية من المدينة. 

العنصرية بالتأكيد مفهومة، فما الذي نتوقعه من بلدية احتلال؟ لماذا أتوقع ان يتم تنظيف الشارع الذي اسكن به، والرصيف الذي امشي عليه وان امن السلام اثناء القيادة ومن يوفر احتياجاتي هو عدوي؟ والاهم، تجري مقارنة مجحفة أخرى، فمع كل ما تقدمه بلدية الاحتلال من خدمات شحيحة مبنية على العنصرية، يفضل المواطن البقاء في القدس علي ان تؤول مسؤولياته الى السلطة. فحياة المواطن في القدس تبدو في فروقاتها كالفرق بين سكان تكساس وسكان المكسيك.

في المقابل هناك جنوح حقيقي عند الحديث عن المشاركة في الانتخابات البلدية، حتى ولو قدم المدافعون عن الفكرة مرافعتهم بالقول ان المشاركة لا يجب ان تحمل أي مفهوم سياسي، فبدءا، ان الانسان المقدسي لا يستطيع المشاركة بالانتخابات البرلمانية الإسرائيلية، فهذا يؤكد ان الانتخابات البلدية لا تتعدى كونها خدماتية. فلو جلس عربي واحد على طاولة البلدية لتحسنت الخدمات ١٨٠ درجة وفهمنا ما لنا وسط هذه البلدية بدلا من ان نستمر بمراكمة ما علينا. وإذا ما جلس على الطاولة ثلاثة او أربعة او خمسة وهذا ممكن، فنحن نمثل ثلث الأصوات بالحقيقة، أي اننا نستطيع ان نشكل البلدية إذا ما قررنا المشاركة. ولكن مجرد ان يجلس أحد منا على تلك الطاولة ويعالج قضايا البلدية الخاصة بنا، فنحن في وضع افضل من ان يمثلنا عضوا من الليكود او إسرائيل بيتنا او احد المستوطنين اليمينيين المتشددين. 

لماذا نتركهم ليتفردوا بإدارة شؤوننا واستخدام الأموال والموارد المستحقة لنا لأغراضهم هم؟ 

لماذا نمنع من التمثيل في البلدية في حين نشجع ابناءنا على العمل في إسرائيل، بل على العكس، يتعلم الأبناء التخصصات التي توفر لهم فرصا في سوق العمل الإسرائيلي. 

لماذا تصبح المشاركة في البلدية عمالة وخيانة في حين تضع السلطة التنسيق الأمني على رأس أولوياتها واهتماماتها؟ 

في المقابل، يقول الصوت الاخر، ان الخضوع للبلدية والمشاركة في انتخاباتها سيجر سكان المدينة الى مآل سكان القرى والمدن الفلسطينية في الداخل. ستشوه الهوية ويصبح الاستغناء عن سلطات الاحتلال مستحيلة. سيكون الاحتلال سلطة حاكمة تمثل شرعية وجودنا الفلسطيني! 

ولا اناقش حقيقة هذه الوجهة من النظر. على مدار العقود الأخيرة كنت اصرخ خوفا من هذه اللحظة. كنت اعتقد دوما ان الاحتلال في هيمنته علينا في القدس نعمة مقابل التسوية الذي اخترق الهوية الوطنية الفلسطينية في الداخل منذ بدء الاحتلال. ولكن بكل اسف، ما حصل في الداخل حصل بالقدس على مدار العشرين سنة الأخيرة بلحظة قبول المدارس مساعدات البلدية والمعارف تحت حجة “حقوقنا”. منذ ان صار الطالب رقما ماليا يدفع مقابل وجوده على المقعد الدراسي شهريا للمدرسة، بدأت أعمدة المدارس بالانهيار وبالتالي وقعنا في فخ تشويه الهوية الذي نعيشه اليوم. فبعد ان رضخت معظم المدارس الى المعارف والبلدية لن يبقى ما ندافع عنه من هوية الا بداخل بيوتنا، ان بقيت هنالك بيوت. فنحن لم نعد نأمن حياتنا وبالكاد نسد احتياجاتنا. صارت أعمدة البيوت أموالا يجب توفيرها وجمعها من اجل شراء سيارة اجدد او امتلاك بيت أفخم او السفر وقت التمني او الخروج من هذه البلاد بلا عودة ان أمكن. اول كلمة يقولها امامك الشاب الذي تخرج من المدرسة للتو عند سؤاله ما الذي ستدرسه يكون: ما يجعلني اجني أموالا أكثر. 

وبما ان المدارس سقطت في فخ البلدية بنسبة بدأ حسمها وسنرى نتيجتها بفرض المناهج الإسرائيلية ورفع العلم الإسرائيلي على المدارس قريبا، وهنا لم اعد الوم او اسائل، فلقد وقعت الطامة ولم يعد هناك حاجة للعويل والبكاء على ما كان. ما يحصل الان وما سيحصل، ان المدارس تحتاج الى تمثيل أكثر من أي وقت لأكثر من مندوبة البلدية التي تنتمي بالغالب الى حزب رئيس البلدية اليمين حتى ولو كان لسانها في بعضه عربيا. 

ولأن موضوع الانتخابات وخوضها لأهل القدس يبقى اشكاليا من حيث الاعتراف بإسرائيل ككيان مغتصب، ولكن بهذا يصبح الاغتصاب شرعيا بوجودنا داخل البلدية، وافهم هذا تماما. فعلي مدار السنوات وانا أفكر في هذا الامر، كان من السهل اقناعي بالشيء وضده. فمن جهة امامنا تجربة فلسطينيي الداخل في البرلمان وفي الحكومة، فما الذي قدموه وما الذي اثروا فيه؟ فمنذ تزايد عددهم كممثلين تحت قبة الكنيست مرر أكثر القوانين عنصرية في هذه الدولة. ولكن هل الكنيست مثل البلدية؟ 

قد تكون تجارب البلدية مشابهة، فنحن نرى البلدات العربية مقابل البلدات الاسرائيلية في نواحيها. نرى العنصرية والتفرقة. نرى الجريمة والعنف، نرى انهيارالهوية والثقافة وتهاوي الانسان. ولكن يبدو ان ما تشهده البلدات العربية في الداخل الفلسطيني مشابه تماما لما يشهده الفلسطينيون بين الضفاف المحتلة أكثر واقل، أقرب كذلك لما يحدث بالبلاد العربية القريبة والابعد. فهناك ثقافة تم اجتياحها من خلال الاعلام وحدت فيها الحال واخترقت المعايير وشلت الاخلاق منذ تحول باب الحارة الى حارة تعيش تفاصيلها وصار محمد رمضان اسطورة الشباب وتيم حسن رمز الهيبة. السلاح، والمخدرات، والعنف، والجريمة. من يملك المال يملك السطوة ويفرض القانون. 

ربما تكون بلديات المجالس المحلية او البلدات العربية مخترقة، ولكن في المدن المشتركة مثل حيفا الوضع أفضل، لأن البلدية ليست حكرا على العائلات. وفي القدس، لن تكون البلدية ابدا عنوانا لسيطرة عائلة او فصيل، فهي خدماتية محددة بوقت زمني، لا معاش شهري ولا كرسي أبدى. وإذا ما أمكن الادعاء لمن يحاول ترجيح كفة الخوض في الانتخابات من اجل الخدمات فقط، لا تغيير الوضع القائم لترجيحه لشرعية الاحتلال، وبالتالي خسارتنا للمعركة، فمن الممكن ان نتفق على ان من سيترشح للبلدية يكون من حملة الجنسية الإسرائيلية “الأصليين”، أي من مواليد فلسطين الداخل ولم يختر الجنسية الإسرائيلية. أي من يستطيع المشاركة بالانتخابات هو من سكان القدس من مواليد الناصرة او حيفا او غيرها… وصارت القدس مركز حياته. هكذا، لا نعرض ” الوضع القائم” الذي تريده السلطة، والذي لم نعد نعرف لماذا، للتغيير والتهديد إذا ما قدر الله وفرجها وصار هناك حل سياسي– مفاوضات- في وقت ما.  

فلو اشترطنا الخوض في الانتخابات لشخصيات وازنة في القدس من المحامين والمحاسبين والأطباء وغيرهم من حملة الجنسية الاسرائيلية الذين يريدون او يرغبون بالمساهمة في تحسين الخدمات والحياة لسكان المدينة الفلسطينيين، نستطيع ان نخرج من مصيدة الاعتراف بإسرائيل وسيطرتها على المدينة. 

مثل هؤلاء قاموا منذ سكنوا القدس بدور الوسيط بين اهل القدس وسلطات الاحتلال، ويمكن تقدير التجربة بأنها جيدة. من جهة قدموا المساعدات- العمل- من حيث الاستشارة والخدمة المدفوعة لما لا يعرفه او يستطيعه ابن المدينة بسبب عدم معرفة اللغة العبرية وعدم الرغبة بالتعامل مع السلطات الإسرائيلية الذي يبدو وكأنه جزء من تركيب الهوية المقدسية. ومن جهة أخرى، انخرطوا وعائلاتهم بالمدارس والحياة الاجتماعية في المدينة فصارت مشاكلهم ومصالحهم المجتمعية مشتركة. 

فلماذا لا نفكر في هذا الاتجاه؟ 

يقلقني بالحقيقة فكرة الرفض والعزوف المطلق لموضوع الانتخابات. كنت ولا أزال مع الفكرة المضادة لو تمكن الاجماع الوطني الرافض برفض سلطات الاحتلال بالمطلق والقيام الفعلي بخلق جسم بديل لتقديم الخدمات والاستغناء عن بلدية الاحتلال. ولكن هذا لم يحصل، وما يحصل من محاولات ليست مفيدة ولا تستطيع ان تقدم الا ما تتمكن منه من موارد شحيحة، فمن جهة وزارة القدس التي تقوم بدور الوسيط من خلال المحامين والخبراء “الإسرائيليين” في بعض الأمور مثل  الشكاوي وتراخيص البناء، والاعتقال، والهدم، وغيرها. والمحافظة لا نعرف ما هو دورها، ولكن مهما حاولت هذه الاجسام من مساعدة حقيقية بين تعليم وصحة وخدمات متفرقة، فيبقى دورها محدودا بما تقرره السلطات الإسرائيلية التي تمنع أي مظهر سلطوي فلسطيني العنوان. 

ربما حان الوقت بالتفكير بهذا الامر جديا وعلى كل المستويات. 

ففي كل مرة تقترب الانتخابات البلدية، يتزايد عدد الأصوات المنادية له والمحاولات في خوضها، في كل مرة تفشل وتخمد الفكرة لأنها غير مدروسة ولا تحمل أكثر من مطامع صاحبها. فلا نتكلم هنا عن مرشح يحمله فريق إسرائيلي يختفي وراءه او يظهر، ولا نتكلم عن مرشح مقاول يريد ان يمرر ما يستطيع تمريره من اجل مخططات بناء لشركته، ولا نتكلم عن ابن المدينة الذي يفكر ان الانتخابات صيت وسمعة ورتبة يتشرف بها. 

نتكلم هنا عن مئات الالاف من السكان الذين يعيشون في مدينة يتحكم بهم فيها الأحزاب اليمينية المتدينة الأكثر تطرفا في هذه السلطات، يحتاجون لتمثيل ولو كان بمقعد واحد ليحاكي احتياجاتهم وتحسين حياتهم وتمكينهم من الصمود في هذه المدينة التي يشكل تهجيرهم طوعا او قصرا جزءا لا يتجزأ من منظومة الاحتلال منذ احلالها علينا. 

نتكلم هنا عن مئات الالاف من السكان الذين يلجؤون لهذه السلطات من اجل شتى الخدمات بين مطالبة واستحقاق وسبيل حياة، ولا يتلقون الخدمة الا بعد الذل، والاذلال، والقهر، والتحقير. فنحن نتذوق الذل في كل لحظة نقف فيها منتظرين دورا بالداخلية او التأمين الوطني وكأننا حشرات، هذا إذا ما تمكننا من الحصول على دور. ترمى مشاكلنا ومطالبنا بعرض الحائط لا نعرف مع من نتكلم او نتواصل، لمن نشكي او من نواجه. نستنزف في مصاريف لا حدود لها، ونظن اننا كسبنا الذيب إذا ما حصلنا على فتات المستحقات. نعيش بين فكي ظلم واستبداد ونمضغ للخنوع والخضوع.

نتكلم هنا عن مئات الالاف من الشبان الذين يبحثون عن فرص تعليم وعمل في القدس. عن مئات الالاف الذين يعيشونا تحت خط الفقر في دولة تحتلهم وتستنفد مواردهم وتبني المستوطنات وتعزز العنصرية في فصل دائم وبناء شوارع وسكك حديدية ومخططات بناء لحدائق عامة ووطنية على أراضيهم المصادرة وارثهم الديني وتراثهم  المنهوب ومقابرهم ورفات امواتهم وبلهاث انفاس أبنائهم من اجل لقمة عيش بالكاد يستطيع الانسان العادي تأمينها. 

نتكلم هنا عن مئات الالاف الذين لا تمثيل لهم… يجولون ويحومون في محاولة للعيش بإصرار وصمود عجيب في محاولات تبدو بائسة يائسة كثيرا من اجل الحفاظ على ما تبقى لهم من هوية وطنية يصونونها بشجاعة أعجب في كل مرة. 

اظن انه حان الوقت للمراجعة الحقيقية والتفكير بشأن الخوض في الانتخابات بالقدس، وذلك بتدخل على مستوى القيادتين في الداخل والسلطة الفلسطينية قبل فقدانهم السيطرة تماما.   

اترك رد

اكتشاف المزيد من نادية حرحش

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading