آيات شيطانية تحارب بأفعال شيطانية 

“إني لأدرك أنه إذا كان سلمان انحرف في خياله، فإن المسلمين أساءوا التصرف بالمظاهرات وحرق الكتاب وإهدار الدم، مما قلب الوضع فجعل من المجرم ضحية ومن الضحية متهما.” (نجيب محفوظ)

بينما ننجرف جميعا نحو القعر، نعيش ما يمكن تجسيده في قعرات جحيم دانتي. لعله من الأفضل تسميته بجحيم المعري. فمن قرأ رسائل الغفران يدرك ان دانتي لم يقم الا بكتابة رسائل الغفران ليصدر صك الكوميديا الإلهية بالإيطالية. 

لطالما فكرت كيف كتب أبو العلاء المعري رسائل الغفران ولم يقتله أحد. لم يطارده خليفة ولم يصدر في شأنه فتوى تكفير. ومهما كان الاختلاف معه كان يعبر عن نفسه وكان يرد على فكرة بالفكر. 

عندما كتب أبو حامد الغزالي تهافت الفلاسفة رد عليه أبو الوليد بن رشد بتهافت التهافت. في تلك العصور كان الفكر يرد عليه بالفكر. في كل مرة قتل انسان من اجل فكره عاش أكثر وبقي أكثر وصار ابديا. 

من الحلاج الى عبد الرحمن الكواكبي الى فرج فودة الى ناهض الحتر. كوكبة من الأسماء علّمت بالتاريخ ورفرفت اعمالها كالأعلام، شامخة باقية محلقة. 

عندما أصدر الخميني فتوى القتل ضد كاتب آيات شيطانية الهندي ببريطانيا، بدا الامر سياسيا أكثر من أي شيء. كان اسم آيات شيطانية كفيلا بأن يهيج مشاعر المسلمين ويصرخوا مطالبين بإقامة الحد على الكافر المرتد، ولكن بالتأكيد كانت هذه الفتوى صك الشهرة والنجومية للكاتب. 

صار سلمان رشدي كاتبا ومفكرا ومهما، بلا أي عناء. حاولت قراءة آيات شيطانية قبل سنوات، وكذلك كتبا أخرى لرشدي لأني كنت ارصد خطوات ادوارد سعيد في فكره. فكان شديد الاعجاب بالرجل. ففكرت انه لا يمكن ان يكون اعجاب سعيد برشدي مجرد اعجاب بجرأته ودفاعا عن مبدئية حرية الانسان بالتعبير. ولكني بعد قراءة الرواية وكتب أخرى لم أجد ما يثير نهم القارئ بي. آيات شيطانية نفسها عبارة عن رواية ساذجة بسيطة لا ترقى للتحليل او النقد الادبي. اخذتني للحظات الى فقاعة هلامية على شكل سحابة تمر فوق صحراء يمشي عليها مراهق بلباس عربي فقير. وكأنها اخذت من الكيميائي والأمير 

ومن ثم أنتج عليها شبه الفيلم المسيء للرسول قبل سنوات. لا تستحق عناء القراءة ولا تستفز أي مشاعر لقارئ حقيقي. 

منذ ذلك الحين اظن انه صار هناك سوق لترويج الادب المهترئ تحت حجة المنع. فان كنت تريد ان تزيد من شهرة عمل فامنعه. وإذا ما رأيت حربا شرسة تخاض من اجل حرية التعبير وشهرة غير مفهومة وتلميع منقطع النظير، بينما يتم منع كتب أخرى تزيد قيمة فكرية وادبية وتكميم افواه تتفوه بالصدق والحقيقة لا يعيرها أحد اهتمام، فاعلم أنك امام مشروع سلمان رشدي الدولي.

عندما سمعت بخبر الاعتداء على سلمان رشدي بالأمس، أكثر من ثلاثين سنة منذ اصدار تلك الفتوى شهقت لوهلة ثم استدركت قائلة في نفسي: ما الغريب؟ فنحن وسط جحيم العنف المتفشي من كل مكان. لا مكان آمن لأحد. سواء كان دمك مهدورا بفتوى إيرانية شيعية او من أي دار فتوى سنية. سواء كنت مطلوبا او مغضوباً عليك من قبل نظام استبداد لا يعجبه اعتراضك او كنت مناضلا مقاوما تؤرق الاحتلال. احتلالاً مباشراً كالذي نعيشه في بلادنا المحتلة، او احتلالاً غير مباشر تسيطر فيه قوة على قوة لمصلحة كبرى ضد مصلحة كبرى مناهضة وهكذا. سواء كنت تمشي بالشارع واعترضك حشاش او مدمن مخدرات او مجرد انسان عابر قرر أنك تؤرقه. سواء كنت في بيتك امنا او كنت وسط الشارع تأتيك رصاصة او طعنة طائشة او مقصودة … كلنا في هذا العالم عرضة لقتل عابر او اغتيال مدبر. 

ولكني تذكرت ان الحدث كبير بالفعل. ما الذي يجري في هذا العالم؟ في وسط نيو يورك، في قاعة تتسع لأربعة الاف شخص، لرجل لا يعرف عنه وعن آياته الشيطانية الا اسم لم يقرأ له الا حفنة محدودة. وما كدت اذكر اسمه وما جرى امام جمع عائلي حتى كانت الكلمة الأولى بصوت واحد متواصل تقول: بيستاهل كافر. 

وسط الندم على اغتيال فرج فودة من قبل والتأثر قدر تأثر الشيعة بمقتل الحسين، لم يتوقف الندم والتروي حتى لردة الفعل المباشرة: بيستاهل كافر. 

هل قرأتم ما كتب؟ 

-لا 

لماذا هو كافر اذن؟ 

-كتب كلمات مسيئة عن القرآن او عن الرسول. إذا ما فعل هذا فهو يستحق ذلك. لا يجب علينا التهاون مع من يتعرض لله ورسوله. 

وكأن شيئا لم يتغير منذ مقتل الحلاج. تغيرت الدنيا وتبدلت الأحوال ظنا منا ان الوعي صار في مكان أفضل. فلقد تعلمنا وقرأنا وأدركنا وعرفنا الفرق بين الحقيقة والادعاء. لم تعد الكتب حكرا على زمرة من الناس ولم يعد من الصعب الحصول على الكتاب إذا ما أردنا قراءته، فالعالم كله في متناول اليد على بعد كبسة زر امامنا. ولكن مع هذا لا أحد يريد الحقيقة. الكل يركض لهاثا وراء ما يقال. مرعب حالنا الذي يتأجج فيه العنف وكأننا كمصاصي الدماء لم يعد يحيينا الا الدم… دم الاخر المسفوك. 

الفكر لا يحارب الا بالفكر. 

مؤسف ان نحيا أياما كهذه بعد كل هذا الزمن. 

اظن أفضل ما كتب عن هذ الامر في حينه الى الآن هو ما كتبه نجيب محفوظ. واعتقد ان موقف نجيب محفوظ كان اهم من موقف ادوارد سعيد بشأن سلمان رشدي، ولعل هذا يعود لكون نجيب محفوظ اديبا كاتبا، فشتان ما بين أولاد حارتنا وبين آيات شيطانية. فلقد تعرض نجيب محفوظ للتكفير بسبب بعض الالفاظ في ثلاثيته التي نال بسببها جائزة نوبل للآداب، ونال من بعدها رشدي جائزة البوكر لما كتب، ومحزن كيف يمكن ان يوضع الاثنان في نفس المكان من الامكانية والموهبة. فلقد نال رشدي شهرة أدبية لم يرق عمله الادبي ولا الفكري لها ابدا، بينما كان نجيب محفوظ يكتب كلاما توزن قيمته وموهبته بالذهب. 

وما كتبه حينها نجيب محفوظ واقترحه لا يزال صحيحا ويجب العمل به، فلا يرد على الفكر الا بالفكر. واقصى ما يمكن عمله هو مقاطعة هكذا كتب ودور النشر التي تتولى نشرها، لا الإرهاب ولا هدر الدماء باسم الإسلام، وان تطالب الدول باحترام الديانات والمقدسات لدى الشعوب مع عدم التعرض لحرية البحث العلمي القابل للمناقشة. فالخميني اساء للإسلام والمسلمين إساءة لا تقل ان لم تزد عما قصده المؤلف. 

وما جرى بالأمس من اعتداء عليه هل يقف وراءه خامنئي جديد، ام ان قتل الأيمن الظواهري لم يحرز ردة فعل مطلوبة وسط محاولات لإبقاء إيران وسط ظلامية ارهابها لا يمكن التفكير حتى بالحديث معها؟ جزء من خلط أوراق لمنطقة بعيدة عن أمريكا تتحكم فيها أمريكا، وتُضرب من خلالها أمريكا في عقر دارها. هل هناك من يريد ردة فعل أمريكية شعبية تهيج المشاعر والحنق كما حصل في هجمات أيلول؟ 

لم تستطع أمريكا ان تدافع عن الخاشقجي، ولكنها ستستطيع بالفعل الدفاع عن رشدي. ستنتقم أمريكا للحق!!! وتحارب الإرهاب بمحاربتها إيران كما حاربت من قبل أفغانستان!!!!! ربما….

واختم بقول نجيب محفوظ قولا واحدا

“أنادي بأن تكون حرية الرأي مقدسة ولا يصحح الفكر إلا الفكر، ولكن لا تتساوى المجتمعات في تحمل الحرية إذا تجاوزت الحدود، وعلى المفكر أن يتحمل مسئولية فكره في حدود إيمانه وشجاعته وظروف مجتمعه، ولذلك أيدت مصادرة الكتاب حفظا للسلم الاجتماعي، على شرط ألا يتخذ ذلك ذريعة لقهر الفكر بل أيدت مطالبة الأزهر بمنع طبع أولاد حارتنا طالما أن رأيه فيها لم يتغير، وأكدت أن كتابي ليس فيه ما يمس الأديان أو الرسل، …إن صح ذلك فالكتاب يكون تحت مستوى المناقشة وإنه كأي فعل خارج عن حد القانون والأدب فمخاصمته تكون في المحاكم.”



اترك رد