نصف قرن وعام من الحياة
عندما دخلت العقد الرابع من عمري، اصابني هلع. شعرت وأن العمر اقترب على نهايته. لم يكن أصعب على اذني من كلمة أربعين. عندما صرت ٤٤ كدت أفقد صوابي. الحقيقة صعبة.. الكبر عبر…
ولكن لأن العمر يعبر بنا عنوة، كان لا بد لي ان أصل الى صفقة مع نفسي، ولكيلا يتكرر المصاب عند الخمسين قررت ان احضر نفسي للخمسين.
بدأت الفكرة بالكثير من الصبيانية. سأكون مثل اوبرا وينفري ومادونا عندما اتجاوز الخمسين. لم يكن البوتكس والفيلر والشد وتغيير الوجه والفلتر قد اجتاحت عالمنا بعد. ليس بهذا القدر بالأحرى.
ربما لم يكن هناك ما أتطلع اليه. فالحياة كانت كأم الأربعة والأربعين أو افعى تضغط عليّ بخناق لم اعد اتحمله. كدت أسلّم ان الحياة تشد على المرء حتى تخنقه فأستسلم.
منذ قراءتي لإخوان الصفا صرت أحب الأرقام وألعب وإيّاها بعقلي. ربما الرقم ٥ كان رقم حظي. فمع ال٤٥ بدأت أمور حياتي تأخذ طابعاً أسهل. لا أعرف كم كان للمرء ان يتحمل أعباء الدنيا فوقه بلا هوادة. ولكن الأمور بدأت بالتفكك نوعا ما.
٥ ما يشكل أحرف اسمي. دائرة تغلق بإحكام وتبدأ بالدوران حول فلكها بلا اكتراث. وكأن السلم الذي يتشكل منه الرقم ٤ حمل ال٥ فوقه حتى تلاشى في فضاء الكون ليعود ويشكل نفسه في ركنه المركزي (٠).
وكأنفي الخمسين دوران نصف كامل لدورة جديدة من حياتنا. بداية جديدة تتغير فيها المفاهيم والأفكار والاعتقادات.
ما كان مهما قبل لحظة لا يعود بنفس الأهمية ولا القيمة. طريقة رؤيتنا للناس وتعاملنا معهم. ما نأكله وما نشربه. ما نلبسه وما نشتريه. تنصهر السّنوات الخمسين السّابقة كالذهب ليخرج منها قالب جديد كلياً من الحياة.
أحيانا اشعر ان حياتي الحقيقية بدأت عندما قطعت ذلك القرن من نصفه لأمشي نصفه الاخر أكثر استعدادا.
صرت أكثر تحكماً بحياتي ولم تعد الحياة بمجرياتها الكثيرة تتحكم بي. صرت انتقي الناس كما انتقي الطعام والشراب.
لم يعد هناك قيمة الا لما هو ابريزيّ الأصل مهما شابهه من صدأ او غبار او رُميت عليه احمال الحياة.
نضوج حقيقي جعلني أقرب الى ذاتي من أي وقت مضى.
لا اعرف ان كنت قد اقتربت مني من قبل أصلا، فلم يكن هناك متسع للانا الا باستخدامها للتّذكير بأنّي موجودة.
امشي قدُماً نحو حياتي بعد الخمسين وكأنني اتوسّط مداراً فلكيّاً. فلكاً بدأ نقطة الصفر فيه بفرجار يرسم النّصف السفلي للمدار، لأرى نفسي اليوم هنا ولقد صعد بيَ درجة أخرى منذ استوى قبل عام.
لم أعد ار الأمور كما كنت اراها من قبل. لم أعد بنفس الجنون ولا نفس القلق ولا نفس التهور ولا نفس الحذر. اشعر بنفسي في خطى أكثر ثباتاً وثقة وايماناً بأن ما كان لم يعد بالإمكان إرجاعه وما سيكون لن يكون جزءا من قعرات المجهول، ولكن نحو صعود يقترب أكثر الى القمّة حيث الشّمس نورها لا يمكن تغطيته، والامطار لا يمكن الاختباء منها، والثّلوج تمر كنفحات من قطن تتناثر ولا تستقر.
بعد الخمسين لا تقاس الأعوام بحسرة من كبر، ولكن بشوق من بالكبر نضوجه واكتماله. اوج قادم قبل افول الحياة المقدر لها الانتهاء. يصبح الموت أكثر من فكرة قاتمة نخشاها، يصبح جزءا من تفكيرنا بحتمية حدوثه لنا. قبل الخمسين تغرينا الحياة ببعدنا عن موتنا وتشغلنا بموت الاخرين. نحزن، نثكل، نبكي، نفجع، نقلق، نخاف من موت الآخرين. نصبح أقرب لحتمية الحياة بانتهاء لحظتنا المقدرة فيها لأجسادنا على هذه الأرض، لنرتقي تدريجيا على سلم الفلك الدائر بكوننا لآخرة تكون فيها راحة نفوسنا. نسلّم تدريجيا أعباء الحياة التي ارهقتنا وشغلتنا، وننشغل فيما يملأ قلوبنا وعقولنا بما يخلص لنفوسنا.
مجنونة انا بطريقة أخرى!!!!
انظر الي نفسي من خلال مساحتي الخاصة.
استمتع بوحدتي واتسابق مع الساعات بين تغذية لروحي في قراءة وكتابة، وامشي فأطرب بفلسفة حكيم وتعاليم مفكّر وروايات أديب. تصبح الموسيقى في أصوات مختلفة من حفيف أشجار وزقزقة عصافير وهدير مياه وتلألؤات نجوم تتوسط القمر في السماء.
….. هذا العام لم اعد أستطيع اللحاق بما أقرأ…. أحاول الا أكتب أحياناً لأحافظ على فرصة لعمر قد أرى فيه ألقاً ورفعة وهدوءً وسلاماً يتمم فيها ما تبقى لي من حياة.
رميت ورائي من يتعب قلبي، ولم يعد بمقدوري الجدال مع الجاهل.
صرت أرى الجهل والجهلة بوضوح وامّيزهم وانأى قدر المستطاع عنهم.
اشرب الماء وكأنه اكسير الحياة … أقوم بما أحب القيام به. أرى من أحب. افتح بابي او اغلقه متى شئت
(لم يكن باب بيتي يغلق من قبل).
امشي لأرمي ي كل ما يجهد جسدي ونفسي من أحمال زائدة من بشر واشياء.
فبعد الخمسين بعام…. يصبح جسدك حساسا لما يوهن القلب ويؤرق العقل، والنفس لارتقائها الأزلي تحتاج الى الوصول من اجل الوصال، قلباً سليم.
بعد الخمسين بعام، فهمت ارسطو وافلاطون واسترقت السمع جالسة على أطراف جلسات اخوان الصفا والحلاج وابن عربي والسكندري. نفثت من عقلي ما تكدس من أفكار مثقلة بالعصبية والأيديولوجية والثورات. وبدأت بإعداد العدة لأفكاري لتستقرّ في دارها. فبالعقل دارنا وفي القلوب سكنانا، وسلام دائم بينهما يتدفق في ثنايا شراييننا.
لأني بعد الخمسين بعام تيقنت إني سيّدة قدري.
بعد الخمسين بعام…. بتصير تكتب حكي مش مفهوم وتضحك لحالك وتبكي لحالك.
بترمي كتاب ما اعجبك وما بتعطيه فرصة.
بتبطل تخاف عالكلمة وبتكتب عبارة وجملة وفقرة ويمكن موضوع انشاء وما بفرق معك إنك تمسحه إذا ما اعجبك
بتحكي بس مع اللي عقلك وقلبك برتاح له
وبتستثمر بأكلك وبصحتك وبتصير تتطلع عالميزان كل يوم وبتحتفل لما تشوفه ما تحرك من محله وما بتروح تعمل ريجيم قاسي إذا طلع وسبق عداد الزمن وكسر الأرقام واخترق خطوطك الحمراء والصفراء والوان قوس قزح.
بعد الخمسين بعام… بتصير مقاييس الجمال مختلفة. بصير جمالك ببريق عيونك، والجسم بصير حلاته بصحته، والعقل بكون هو الزينة الحقيقية.