تخطى إلى المحتوى

بين زيارة أوباما وبايدن: ربيع فتطبيع عربيّ وتتبيع فلسطينيّ

بين زيارة أوباما وبايدن: ربيع فتطبيع عربيّ وتتبيع فلسطينيّ

لم يمرسوى عام وبضعة أشهر لزيارة أوباما التاريخية لجامعة القاهرة في صيف ٢٠٠٩، حتى تفجرت براعم الربيع العربي وسط شتاء سنة ٢٠١٠ وما تلاها من سنوات. فاختلطت علينا الفصول وما ظنناه ربيعا يستمر زخات شتائه بالانهمار على رؤوسنا بوابل من الودق، ظنناه غدقا فاذا هو سحيف سحيت زمهرير، ليعود بايدن الكرة في زيارة تبدو وكأنها تتمة لما بدأ قبل أكثر من عقد من الزمن، تعقدت فيه حياتنا كعرب بين تشتت وتهجير وقتل واستباحة. وما بدا لنا كأنه تخلص من حكم طغاة، تبين ان تأكيد وتثبيت لحكم استبدادي. شمولي. وكأن الشرق يعيش من جديد تقسيمات فرضت عليه قبل ما يزيد عن مئة عام في اتفاقيّة سايكس – بيكو، بإيعاز من بلفور، يعاد التشكيل بعلنية هذه المرة ولقد ولدت الصهيونية إسرائيل واستبدلت عرابيها بممثلين عنها رسميا. 

بينما تقسم الشرق وبدأت الجزية تفرض والغنائم توزع بين أمريكا وإسرائيل، تفتتت القضية الفلسطينية لتصير مشروعا استثماريا تقوده سلطة مقسمة غير تقسيمها الجغرافي بين غزة والضفة، الى سلطة حكومة تتشغل بالناس وحكومة تصفي القضية وترتب مع رجال اعمال صفقات مشروع الوطن. 

كان لا بد لنا التأكد منذ اللحظة التي أصدر فيها الرئيس الفلسطيني قرار حلّ المجلس التشريعي اننا متجهون الى هاوية. فما جرى حينها يبدو وكأنّ هذه الحافلة الفلسطينية كانت قد بدأت بالسير بلا فرامل، لنجد أنفسنا الان بلا عجلات حتى نحو هاوية بحافلة لا سائق فيها، ولقد هرول المتنفذون الى حواف امانهم تدريجيا يقينا بهاوية حتمية قادمة. فما نراه من وجود ما يبدو انه حكومتان في داخل سلطة رام الله ليس حتى متخيلا، او تحصيلاً حاصلاَ، ولكنه حقيقة بموجب قرار بقانون في نهاية شباط ٢٠٢٠. فديوان الرئاسة يتصرف وكأنه حكومة مستقلة عن الحكومة الا من وزارة المالية التي تخضعها لمآربها.  عند معرفة الشعب بالقرار هاجت الدنيا وماجت وتدخل رئيس الوزراء حينها وسط انشغال الحكومة والشعب في ازمة الكورونا وإعلان حالة الطوارىء وأعلن ان الرئيس سيجمد هذا القرار. اليوم بينما لم تعد الكورونا ازمة استمر حكم الطوارئ وديوان الرئاسة يشغل أهمية أكبر من أهمية الحكومة. 

يشبه حال السلطة من رأس هرمها حتى قاعها السلطوي الغول الذي بدأ يأكل بأبنائه، بينما الوحوش المتربصة من كل اتجاه تتزاحم على التخلص مما تبقى من كيان يمكن ان يبقي للفلسطيني هوية. 

من جانب، تتسع إسرائيل بعلاقاتها العربية والدولية، فعملية التطبيع ليست مرتبطة فقط بانفتاح واتفاقات اقتصادية واجتماعية وعسكرية وغيرها، ليست مجرد توقيع اتفاقية او تفاهم او عقد صفقة، ولكنها عمل دؤوب من التأكد من إزالة الفلسطيني من الحساب ليس فقط من الناحية السياسية، ولكن من الناحية الاجتماعية والوجودية. فبينما نجحت إسرائيل في استقطاب العرب وسط ميوعة الوضع العام وانهيار الرؤى السياسية الفلسطينية التي انحسرت فغرقت في فساد لا قعر له، تحاول إسرائيل بلا هوادة ان تجعل الانسان الفلسطيني امام الرأي العام العربي والعالمي وكأنه لا يختلف عن سلطته. فتحاول إسرائيل الترويج الى كونها مدافعة عن امنها ووجودها امام الهمجية والإرهاب الفلسطيني المغلف والمختوم بالداعشية والتطرف الديني متى أمكن، فيكون تارة حمساوي الطابع وجهادي كما هو الحال الآن. وتتغاضى بالتأكيد عن أي وصف اخر إذا ما كانت العملية النضالية نتيجة فصيل فتح الذي لا تزال تراهن إسرائيل على استخدامه- ولو مؤقتا- كورقة التوت التي تغطي به استعمارها الاحتلالي الاحلالي.

ما الذي جرى منذ زيارة بايدن الى المنطقة وبدأ يؤثر علينا؟ 

تخفيف الذل والاهانة على المعبر الوحيد للفلسطينيين بالضفة عبر جسر الملك حسين واقتراح مطار رمون كبديل او لتسهيل عملية الاذلال وتخفيفها شكلا. 

فرض استحواذ حسين الشيخ على موقع خليفة الرئيس الحالي بكل الوسائل وعلى كل المستويات: تعيينه امينا للسر في اللجنة التنفيذيّة لمنظمة التحرير بقرار من الرّئيس، فلا داعي أصلا وسط منظّمة يتم تحريك افرادها كالدمى ويبدو ان محرك الدمى مل حتى من اللعب فكان الامر لزاما وفرضا. وكما قد رأينا حسين الشيخ على صفحات نيو يورك تايمز معلنا نفسه باستحقاق وقدرة على الخلافة. ثم يتصدر حسين المشهد ونتابع على صفحاته المختلفة استقبالات من كل الأنواع وبكل الصفات: مسؤولا للمفاوضات، امين سر المنظمة، على يمين أبو مازن في كل جلسة، وزير التنسيق والشؤون المدنية، عضو مركزية فتح، واخر صورة له كانت معزيا من الجلزون في اغتيالات نابلس وسط قادة التنظيم. 

اسقاط الطيراوي وخلعه من مناصبه: في لحظة واحدة يخلع من جامعة الاستقلال التي تعتبر عرين الطيراوي ومركز قوته، وتنفذ عملية اغتيال في نابلس لأفراد من التنظيم- كتائب شهداء الأقصى- في عملية سمتها إسرائيل مشتركة. 

كل هذا وسط عمليات دمار طالت غزة وكان ضحيتها أطفالا وعوائل بريئة والكثير من الدمار والاصابات واغتيال شخصيات قيادية في الجهاد. 

بين شجب واستنكار وبعض الرد، بدا الامر وكأن حماس هي الخاسر في هذه المعركة، فالأصوات التي كانت تنادي غزة للدفاع عن القدس وجدت اصواتها مفرغة الا من الهواء عندما ضربت غزة ولم ترد حماس. ولم تمر أيام حتى رجع الحديث عن اتفاقية تحرير أسرى متوقعة بين إسرائيل وحماس. وهكذا ترجع حماس شعبيتها على الأرض. 

ولكن بالتأكيد اغتيال شخصيات قيادية بالجهاد لم تكن موجهة لحركة الجهاد ولا لإضعاف حماس ولا لتقوية الرئيس او خليفته فقط، ولكنها كانت جزءا من محاولة اخراج القضية من “محليتها” من جانب إسرائيل (إسرائيل -فلسطين) الى “الإقليم” الذي يُعمل على تأكيد ان عدوه الأخطر والوحيد هو إيران ومن يتعامل معها. وبهذا يتحول الجهاد في غزة الى معقل إيران كما حزب الله في لبنان. 

فليس من قبيل الصدفة ان الاعلام الإسرائيلي ومنذ أشهر يتحول تركيزه نحو الجهاد. كل جريمة اغتيال وكل اجتياح وكل رصاصة واصابة ومواجهة بالضفة يخرج المحللون الإسرائيليون ليصفوا بدقة عن الجهاد وتوجهاته ومخاطره، وكأن العدو الجديد لإسرائيل لم يعد حماس ولا الجبهة (مؤقتا) ولكن الجهاد. وقد تكون العملية الأخيرة في القدس، كان يراد إضفاء طابع الجهاد لها، ولكن لم تفلح المحاولات، خصوصا ان أحدا لم يتبن العملية. 

تأتي العملية في اليوم الثاني لمحاولة اغتيال سلمان رشدي على المنصة في مدينة نيويورك. محاولة اغتيال فاشلة – ربما مخطط لها – اريد منها بالتأكيد تذكير الشعب الأمريكي والعالم بأن إيران هي الخطر الحقيقي. كيف لفتوى أصدرها الخميني ان تعيش وتتأصل ليتم تنفيذها ولو بعد ثلاثين سنة. انه الفكر -الجهادي- الإيراني- المتأصل. انه الخطر الحقيقي للغرب. 

فلم يعد يجدي إبقاء داعش كخطر مرعب. الحقيقة ان داعش استنفذت ما هو مخطط لها واستباحت وتعدت المخططات على ما يبدو بكم الاجرام الذي حصل. او لربما لم يعد العالم “الغربي المتحضر” يستطيع تحمل المزيد من اللاجئين القادمين على مراكب الموت فارين من اجرام وإرهاب داعشي الشّكل والمضمون، جاهلي الطابع، متعصب، اعمى البصيرة، متخلف، يلبس عباءة الدين ويلتحي بالفتاوي خليفة للحق والحقيقة. 

انتهى عصر القاعدة وداعش. فما شهدته أفغانستان من اقتلاع طالبان لنظام الحكم الفاسد الذي استثمرت به أمريكا على مدار عقود، جعل الحقيقة امام الرأي العام أخرى: حقيقة فشل أمريكا والغرب بالتخلص من طالبان تحت حجة إرساء الديمقراطية المغمسة بالفساد ونهب الشعوب. ومن جانب اخر، لا يمكن الإبقاء على داعش، حيث انتشرت بهمجيتها وارهابها الى معاقل الغرب وانقلبت عليهم كما انقلبت طالبان من قبلهم. هناك حاجة لعدو حقيقي اخر اليوم. 

ولأن كل العوامل والظروف تعمل لمصلحة إسرائيل، يتعثر الرئيس الفلسطيني في كلمات كارثية في برلين ليعطي إسرائيل الحجة والبرهان، ان الإرهاب الفلسطيني متأصل بالقيادة والشعب، فالأمر ليس فقط جهاد او جبهة، او حماس. فإذا ما كان “رجل السلام” الوحيد الذي تغنت به الدول منذ أوسلو مهندسا للوضع الراهن الآن، فها هو حوّل القضية الى مشروع وحوّل الشعب ليعيش عبدا لمن يدفع له لقمته وأجره، إذ قال ما قاله في عقر دار من اعتاشت إسرائيل منذ قيامها على تدفيعها (المانيا) ثمن الهولوكوست. 

كيف تزلّ الكلمات من فم رئيس يقدّس التنسيق الأمني ويبكي الضحايا من الإسرائيليين ويهرول لتقديم التعازي فيهم ويتكلم عن الهولوكوست وكأنّه في غرفة مغلقة مع انفار قيادته؟ كيف وصل الى ان لا يميز بين ما يقال في العلن وما يقال في الغرف المغلقة وما لا يقال؟ 

وكأننا امام مسرحية في مشهد اخر، قبل أسابيع وقف الرئيس الى جانب الرئيس الأمريكي ومحذرا الأخير إياه بكلمات لا اظن انه سبق قولها على العلن هكذا. مر تحذير بايدن العلني لابي مازن مطالبته بمكافحة الفساد وإرساء القانون وكأنه لم يكن، ولكن ستحفر هذه الكلمات للتاريخ شاهدا على بؤس ما انحدرت إليه امورنا عندما يقف زائر إلى جانب رئيس مضيف موبّخاً إيّاه على سوء إدارته لبلده، وسط مقاطعته بمؤتمر صحفي امام العالم اجمع. ولكن أبو مازن الذي ربما لم يفهم ما قيل او قرر انه لم يسمع لم يهتم وواصل زياراته المكوكية لتطال المانيا معلنا إعادة حياته السيادية من دول العالم هذه المرة لا مجرد استقبالات لممثلين تركها لخليفته، ووقف امام الرئيس الألماني الذي لم يخفِ تعبيره بالاشمئزاز بالكلمات لما قاله الرئيس الفلسطيني على الملأ كذلك. 

ما قام به أبو مازن أنهى اللعبة بالكامل لمصلحة إسرائيل. فبينما كانت إسرائيل تشحذ جنودها من اجل الاعلام المضاد ضد الإرهاب الفلسطيني وتبرير قتلها واجتياحاتها وتدميرها في غزة والضفة، قدم أبو مازن لكل مدافع ومحارب ومتعاطف مع إسرائيل البرهان على طبق من الماس. فما كان من وزير الحرب الإسرائيلي الا استخدام هذه الفرصة التي خرجت ككرت الجوكر واغلاق المؤسسات الستة بالإضافة الى واحدة -فوق البيعة- في استعراض عسكري في عقر دار سيادة السلطة وسط رام الله. 

ولكن على الرغم من اقتراف أبو مازن هذه الزلة الكارثية، والتي ستستخدمها إسرائيل الآن بدفاعها وترويجها على الساحة الدولية حتى يأتي امر الله بغير ذلك، تستمرّ إسرائيل في تنفيذ إجراءات ما بعد زيارة بايدن تحت عنوان “تسهيلات” لتحسين ظروف الفلسطينيّين المعيشيّة. إذ على غير عادة إسرائيل بعد الاجتياحات والدمار من أسلوب العقاب الجماعي، أعطت إسرائيل هذه المرة التصاريح لأهل غزة وزادت الاعداد ببضع الاف. 

مطار رمون بدأ تشغيله بتسهيلات ومزايا تجعله واحة أحلام لا سراب صحراء قاحلة. فبدأ تشغيل المطار وتوافد الناس رغما عن شجب السلطة وتهديد وزير المواصلات بفرض العقوبة على من يستخدم المطار ورفض رئيس الحكومة للمطار والمطالبة بمطار أقرب وغيرها من تلويحات وتهديدات وغيرها. 

العمال – خاصرة الوطن الرخوة على حسب تعبير متحدث الحكومة اثناء تحديثات الكورونا، يعلنون رفضهم لنية الحكومة بإرغامهم على فتح حسابات بنكية من اجل الأجور. 

مدارس القدس تنتصر او تنهزم للبجروت لم يعد مهما.. فلم يعد بالتعليم ما يمكن ان نبني عليه اجيالا يعوّل عليها. فالانهيار الحاصل في المجتمع لم يعد التّعليم ركنا من اركان تأثيراته. فينتصر البغروت ربما امام هزلية التوجيهي وانهيار منظومة التعليم التي رأينا دويها في الامتحانات الأخيرة، وربما الاحتفالات التي نشاهدها يوميا خير دليل ان التعليم صار عبارة عن حفلة صاخبة فارغة الا من تفاهة محشوة في عقولنا وتعكس نفسها على الأجساد بين عري واستعراض. 

الفن، بعد ان قامت القيامة ولم تقعد من اجل شكوك بعلَم المثليّين، صدحت الأجواء بكلمات أغاني شبابيّة يحضرها المئات بتصفيق وتهليل وترتيل تعدّت ما يقلق البلد المحافظ من ترويج لمثلية، لنسمع ممارسة للمثلية بكلمات أغاني شعبية. 

الصّحّة، قصص رعب لما يجري بالمستشفيات. خدمات صحية سيئة. كوارث تحدث في المستشفيات. لا يأمن المرء على صحته لدى القطاع الصحي. فالرئيس وسلطته يتعالجون اما في ألمانيا او في الأردن. والشعب ممن يحالفه الحظ يستطيع ان يحصل على تحويلة للعلاج في المستشفيات الإسرائيليّة، والمعظم ينفق بين أروقة المستشفيات بين اهمال وشح وانعدام إمكانيات.

ما الذي تبقى لنا كشعب؟ 

ما الذي يمكننا أن نفعله كأفراد؟ 

ما يكوّن الشعب هو مجموعة من العوامل التي تربطه ببعض وتقوي قوامه. لا اعرف ان كان يمكن ان نسمي أنفسنا شعبا في هذا الوقت. وان كنا شعبا فلا يجمعنا الا ما ينقصنا، ولا يشكلنا الا ما يفرقنا، وقوامنا توقفها القبلية، والعشائرية، والحزبية، والفصائلية. 

كل فرد منا يحاول الفرار بنفسه لعله يحظى بنجاة. شبّان وعوائل طفشوا وهاجروا ولطشت بهم امواج البحر العاتية فبلعت من بلعت ولطشت من بقي. 

صارت الفتحات من الجدار في كافة اماكنه نوافذ فرج ورزق. أكبر امال الانسان ان يقطع الجدار عبر حاجز او فتحة او إذا ما رضي عنه ودفع جزية التنسيق ان يعمل عاملاً في إسرائيل. متعلّمون رموا شهاداتهم خلفهم ومضوا عبر الحواجز من اجل لقمة عيش تسترهم وتشبع جوعهم. 

وصلنا الى مرحلة لم يعد امامنا الا التتبيع لما صار من تطبيع محلي إقليمي دولي مع إسرائيل. 

لم يعد من الحل السياسي الا ما حصلنا عليه. لم يعد للحدود حد الا ذلك الذي تضعه إسرائيل. ولا سيادة الا تلك التي تقرر توقيتها وحدودها وامكانياتها إسرائيل. فكل المناطق الفلسطينية بكل حروف السيادة عليها (ا ب ج) اخترقت وصارت في مرمى الاليات العسكرية الإسرائيلية. اغلاق مكاتب، اجتياحات، اغتيالات، اعتقالات، مصادرات، وقائمة من الاختراقات لا نعرف ان كان التنسيق محكما فيها بين الطرفين ام انها أحادية الجانب أحيانا. 

ربما نصل الى وضع يصبح فيه حسين الشيخ رئيسا. هذه المرة بلا انتخابات نخدع أنفسنا بها. رئيساً بحكم موظّف، يدير شؤون الناس بوزارات ومؤسسات تدفع بها إسرائيل والعالم من اجل إبقاء وإبقاء إسرائيل سالمة غانمة. 

فالناس لم تعد بإمكانها رفع رأسها، بالكاد تتلقى صدمات وتتلقى ضربات. 

وما انتهى اليه الربيع العربي من تطبيع يتكامل كل يوم مع إسرائيل، يرافقه تتبيع فلسطينيّ سياسيّ لكل ما يتم الترتيب له واقراره، وتتبيع للشعب يهز الرأس متى طلب منه وبأي اتجاه، فلم يعد للشعب كلمة او رأي او تأثير. 

شعب يريد ان يعيش يومه بأقل ذلّ واذلال ممكن…. تبدو له إسرائيل يوميا وجهة امنة أكثر: مطارها، مستشفياتها، مصانعها، مدارسها…. 

والمعتقلات تساوت في قبحها، كما القتل… لم نعد نميز من يعتقل الانسان منا ومن يقتله. 

نكاد نرى ونقرأ عبارة محمود درويش “على هذه الأرض ما يستحقّ الحياة” في كل مكان. نرددها، نزين بها الجدران، ونشدد عليها في كل مناسبة. 

عندما تحولنا الى “ما” وصلنا الى هذه الدرجة من العدميّة. فالأرض باستحقاق الحياة عليها لا تحتاج لما يستحقها، ولكنها تحتاج لمن يستحقها. 

نمشي في هذه الشوارع بين مدن واحياء وطرق ومستوطنات، لم نعد نميز ما كان من هذه الطرقات أراض او قرى، ولا نعرف ما يقطع هذا الشارع عنا من حي او مستوطنة. نفرق بين شوارعنا وشوارعهم بنظافتهم وقاذوراتنا على الشوارع من كل صوب. فوضى عارمة من طرفنا، زحام وصياح وشجارات وطقيع وطخ وحفلات وسيارات فارهة ومتسولين على قارعات الطرق وبين المطاعم وحشيش ومخدرات وناس لا يشبهون ما كنا نعرفه من شعب. وشوارع نظيفة ونظام وانتظام وهدوء واحترام لآداب الشارع والانسان وعالم يشبه عالما تمنيناه في شوارعهم. 

كانوا مجرد “ما” لا تتقبله الحياة وصاروا بناة لما يصنع من العدم حياة. وصرنا “ما” تمر عنه الحياة وكأنه عدميّ. 

اترك رد

اكتشاف المزيد من نادية حرحش

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading