عبقرية رواية خبز عل طاولة الخال ميلاد

خبز عل طاولة الخال ميلاد

محمد النعاس

منذ أسابيع وانا اقرأ رواية خبز على طاولة الخال ميلاد التي حصدت جائزة البوكر ٢٠٢٢، على “فضاوتي”، اقرأ بعض الصفحات وارجع لها. فشخصية بطل الرواية ميلاد غير متطلبة. تركتني كقارئة على راحتي. تمسكني الصفحات بينما اجلس في صالون الشعر او اتناولها بكسل من ناصية السرير او بينما انتظر موعدا عند طبيب او بينما أقف امام طابور. لم أستطع ان احدد موقفا من الرواية في حبكتها المبنية على شخصية ميلاد. يوميات ميلاد المتناثرة من ذاكرة رجل هزيل البنية والشخصية، تلطشه الدنيا بينما يحاول ان يكون رجلا مثاليا وفق ما تحدده له الظروف: الأخ الوحيد بين البنات، الزوج الصالح، الجندي المطيع، صاحب الصنعة الذي صار عاملا لدى عمه الذي اكل حقه. بينما يكون اخا محبا، ينظر اليه المجتمع على انه خانعا تهزأ منه الاناث من اخواته وبناتهن، بينما يترك زوجته تعمل، يراه المجتمع ديوثا، بينما ينصاع لأوامر قائد الجيش يصير دمية الجنود، وبينما أبقى صفة اسطى لحرفته التي ورثها عن والده، صار عمه الامر الناهي والمعيل. 

بينما تحملنا الصفحات في أجزاء الكتاب التي تحمل عنوانا لمثل شعبي لبيبي مع كل بداية، يحملنا الكاتب بخفة نحو التفاصيل الدقيقة لحياة انسان خارج جسده تارة وداخله تارة أخرى بخفة، لدرجة ان الابتسامة لا تفارق وجه القارئ بينما ينقلنا مما هو فكاهي الى ما هو مأساوي لاذع. 

استوقفني المشهد الذي يضرب فيه ميلاد زوجته زينب كثيرا. كيف تتشابه العلاقات الإنسانية والمشاعر تكون ذاتها. وكأنها وصفة محكمة. هل تكرار هكذا معاملات تجعل من المشاعر متوارثة ومتشابهة ومتطابقة مهما اختلف المكان والزمان والظرف؟

“تخيلت سيناريوهات أقدم فيها على ضرب زينب وتعذيبها، اغلاق باب البيت عليها، وحبسها، وهي تنتظر خائفة مني، ولا تجرؤ على معاندة الواقع المفروض عليها، تتركني لله، وعندما أرضى عليها تعود العلاقة طبيعية بيننا، ماذا يسمون هذا الشيء؟ اقصد حالة الرضى التي تمر بها المرأة بعدما يضربها زوجها، او وليّ امرها، ويعد ذلك تعود حياتهما طبيعية كما كانت، يتركها تطبخ له دون ان يشعر بخشية من محاولتها تسميمه. ثمة شيء يفعله مربو الكلاب وهو تأديب كلابهم بالضرب والتعنيف ثم اطعامها، لكنهم لا يستخدمون اليد نفسها لفعل ذلك، يضربونها باليسرى ويطعمونها باليمنى. مع الوقت ينصاع الكلب، وعندما يرفع المدب يده اليسرى تجد الكلب قد تأدب. هل هذا ما يفعله الأزواج لزوجاته؟”

وقد تكون هذه الفقرة وسط الكثير من الفقرات المشابهة بحملنا نحو مشاعر لا نعرف تحديدها تجاه “ميلاد” منذ الصفحة الأولى. فمن يحب الشخصية الهشة الهزيلة الضعيفة؟ ومن يحب الشخصية المؤذية التي تضرب المرأة وتستقوي عليها؟ 

ميلاد هو هذه الشخصية مجتمعة لنحبها.

ما يجري في هذه الرواية اهم بكثير من تفاصيلها واحداثها الممتعة جدا. ما يجري كذلك لا يقلل من أهمية رصانة اللغة والتعابير وخفتها. ما يجري هو سبر في اغوار الانسان ذاته. الانسان على حقيقته: ضعيف قوي. هش صلب. مسكين جبار. مظلوم ظالم. مهما امتلأ من شرور يستطيع بصيص الخير ان يغرقه ليطفو الخير منتصرا. 

” هل اخبرك بنقيض الحب؟ نقيض الحب ليس الكراهية، نقيض الحب مختلف تماما عن الكراهية، انه اللامبالاة، التبلد، التباعد رغم العيش في مكان واحد، الا تبتسم في وجه الاخر بعد ان كانت مجرد رؤيتك إياه تمكنك من الطيران، ان تنطق كلماتك اليومية “صباح الخير”، “نعم الغذاء جاهز”، و “قهوة؟” خالية من الدفء، كأنك تتحدث مع موظف في السجل المدني بالبلدية. يحل البرد على الدار. لن يعود السرير الذي يحملكما مريحا، او داعيا الى التقارب، تنزوي على حافته كأنك جاهز للقفز من جرف، الكراهية شعور جارف، حارق لكنه يبقى شعورا، شيئا يتحرك داخلك، التبلد نقيض ذلك، بركة راكدة من الماء لم ينعم عليها الزمن حتى بحجر يلقيه. هذا ما مر بنا انا وزينب في تلك الأيام. احست هي بالإهانة واحسست انا بالخذلان. لم نعد نتحدث كثيرا أياما. صارت أحاديثنا كتلقي نشرة اخبار. تسرب معلومات كأنك مذيع النشرة، وعندما تنتهي منها تتوقف عن الحديث.”

بين المنزل والقرية وبين المعسكر ينقلنا ميلاد لحياة تحكمها الذكورية. كيف تتمكن منا المصطلحات فتشكل من نحن. كيف يعيش المرء – الرجل- ميلاد- حياته وفق ما يشعره بداخله العميق ووفق ما يقال له عن كيفية الحياة التي يجب ان يقودها كرجل. وبين هذه الهواجس نتوقف برهة في كل مرة مع محاولات انتحار ميلاد الفاشلة، وبدلا من ان نخاف او نقلق او نشتم، نضحك… ففي كل محاولة انتحار يتخللها حجة لإبطال المحاولة. في مرة يتبول على نفسه ويتخيل كيف ستجده زوجته بسروال مبتل ورائحة سيئة فيقرر ان يغير السروال قبل المحاولة مرة أخرى. 

يذكرنا ميلاد بعد كل محاولة انتحار فاشلة انه أصبح أقرب للرجل الذي أراده والده ان يصيره. 

ومع هذا يبقى الامل حليف ميلاد. عندما يفقد وزوجته الطفل المرجو يعبر عن حزنه والقوة التي احتاجها ليخفف من حزن زوجته.” يجب عليك أحيانا ان تكون املا للأخرين. علينا ان نكمل حياتنا بقدر ما نستطيع، وان نحارب من اجل ذلك.”

بين الاحداث يأخذنا ميلاد الى طفولته التي تشكل حجر الأساس في تكوينه. فيقدم لنا الكاتب درسا مهما اخر في العلاقات الإنسانية من منظار ميلاد الطفل الضعيف البنية. كيف يعيش المرء حياة تحت وطء التنمر. كيف نتوقع ان يكبر هذا الطفل ليكون الرجل الذي صار عليه ميلاد؟ 

من الجدير ذكره ان رواية خبز على طاولة الخال ميلاد هي العمل الروائي الأول للكاتب الليبي محمد النعاس. 

اترك رد