في ذكرى الانتفاضة

قبل ٣٥ سنة في مثل هذا اليوم، انتفض الشارع الفلسطيني عن بكرة ابيه إثر سماع خبر مدوي: استشهاد أربعة فلسطينيين من غزة على حاجز ايريز بعد دهسهم من قبل إسرائيليّ. 

لم يكن هناك فرق بين وصف الإسرائيلي بالمستوطن او الجندي، ولم يكن هناك فرق ان كان الفلسطيني من غزة او من جنين او من القدس. وكأنّ ظلام العالم في حينها كان أقلّ حلكة من الآن. 

٣٥ سنة على مرور الانتفاضة الأولى، وعمر كامل يمر أمامي. عمري ذلك الذي كان محمّلاً بأحلام الطفولة البعيدة لمراهقة تمسكت بحلم الوطن الذي شكلته خارطة تدلّت حول رقابنا كباراً وصغاراً. 

ذكرى الانتفاضة تأتي هذه السنة بينما يتساقط الضحايا من أبناء هذا الشعب من كل اتجاه. من الجنوب الى الشمال بلا توقف. تحمل الضحايا اسماء مشبعة بالأرقام في زحام الموت المجاني الذي أطلقت صفارته قوات الاحتلال وكأنهم يعدون العدة لما هو أسوأ قادم على درب الوصول الى الحضيض. الى الظلام الدامس في عتمة نتخبط داخلها لم يعد فيها الصديق صدوقاً أو الأخ سنداً. وابتعد الاقارب واقتربت العقارب. تتلقفنا الظلمة وتعتم على قلوبنا قسوة المشاعر ولم نعد نعرف من بقائنا الا مساحة تغمرها اجسادنا. تحولت المقاومة الى مساومة على البقاء، وصار البقاء معضلة الوجود كما هو… عدميّ المعنى. حيّز يشغله وجودنا بلا قيمة. سلطة تسلطت علينا ولم نعد نقوى على مقاومة ولا مساومة.

هل نحتاج الى انتفاضة جديدة تنفض عنّا عتمة وجودنا؟ ولكن هل تزول العتمة بالانتفاض؟ 

نحتاج الى ما هو أكثر من انتفاضة. فالانتفاضات لا تأخذ إلا من شبابنا وأرواحنا وتدفننا لنذرف دموع الحسرة الى الأبد، وتعطي المستبد بنا، من احتلال وسلطة مكاناً على بقايانا.

نحتاج الى نور وسط هذه العتمة المخيّمة علينا. نحتاج الى ايمان ربما يضيء بصيرتنا ويهدئ نفوسنا علنا نهتدي الى نور يخرجنا من هذه الظلمة الظالمة. 

بين قتل يومي يدمي قلوب الأمهات والاباء فيعصر من الألم قسوة. وبين اقتتال داخلي لم نعد نميز فيه الضحايا من القتلة. قتل مجاني نقدمه وسط عتمة بقائنا، بينما يلاحق فلذات قلوبنا من شباب قتل يصنع ابطالا، ويمجد الاوجاع، ويلحم الالام، بانتظار عدل سماء. 

قبل ٣٥ سنة كان العدو واحداً، والوطن واحداً، والحلم واحداً. 

قبل ٣٥ سنة كان الألم واحداً، والفرح واحداً.

قبل ٣٥ سنة كان الأمل إصراراً على الوجود رغماً عن اليأس والعنصرية والاستفزاز. 

قبل ٣٥ سنة كان مشهد قتل ظالم واحد كفيل بأن ينفض عنا ثقل الظلم والتصدي له.

اليوم وبعد ٣٥ سنة… تنتفض كلماتنا ولا نتأثر. 

يقتل شبابنا وبالكاد نترحم. 

تقتلع الأشجار وتسرق الأراضي ولا نبالي. 

تنتشر المخدرات بيننا والتسطيل هو العادي والانحراف صار هو البوصلة.

الأخلاق صارت تقاس بسعر السيارة وحجمها. 

والعلم شهادة معلقة يمكن الحصول عليها بلا عناء او جهد.

والعالِم صار طموحه ان يكون عاملا بترخيص دخول الى إسرائيل 

الوطن صار تنسيقاً أمنياً، يتساقط شبابنا بين رصاصات احتلال مزدوج ويزجّ ابناءنا في السجون من كل اتجاه. و لم نعد نفرق سجن الاحتلال عن سجن السلطة.

والدولة وزارات يجتمع عليها المنبطحون للمحتل متسولين بقاءهم.

والعلَم صار إنجازنا الوحيد… نرفعه فنتحرر به وننتصر على كل من عادانا من أعداء سابقين ولاحقين. 

والانسان يستجدي الحياة من اجل بقاء مؤقت، ولكن يحلم بموت يبقي لما تبقّى من جسده قبراً يأويه. 

ولا نزال ننتظر انتصار الآخرين لنا، وتحريرنا من مشرق او مغرب على يد صلاح الدين. 

ولكن هناك ما تغير بنا وسط انتظار المستحيل… 

لم نعد كما كنا..

فقدنا لُحمتنا، ونسيجنا، وأضعنا بوصلتنا، وتهنا في متاهات الدولة، ونسينا التحرر.

تغلغل فينا الاحتلال من كل صوب، ولم نعد نعرف أي احتلال أشدّ خطورة على ما تبقى منّا. 

اترك رد