كرة القدم بين اللعب والتلاعب 

لا اعرف كم نحتاج من الخبرة لكي نقيّم مباراة كرة قدم. أحياناً أفكر ان أجمل ما في كرة القدم هو إتاحتها الفرصة للجميع بالمشاركة. لا تحتاج ان تكون ميسي لتصبح لاعباً، ولا تحتاج لأن تكون عصام الشولي لتكون معلقا. كل ما تحتاجه ان كنت طفلاً بدأ المشي للتو ان تركل قدملك كل ما هو دائري فيكبر معك شغف اللعب، وكل ما تحتاجه لتصير عصام الشولي هو مشاهدة مباراة حتى نهايتها. 

هذا ما يفعله كأس العالم بالعادة، يحرك فينا مشاعر طفولة بائدة لزمن كانت كرة القدم فيه لعبة أولاد الحارة، يرسم فيه حدود الملعب بعيدان غصن مكسور من شجرة، ويحدد بحجر على كل زاوية ليصنع ملعبا. كنا نكبر تدريجيا مع تطور ذلك الملعب وتلك الكرة واحذية العدو الخاصة واشتداد عضلات الأولاد. كانت اول بوادر مراهقتنا بالتعرف على الأولاد ربما باختلاس النظر نحو ركلات الكرة، والادعاء بفهمنا لما يجري على حسب وسامة ابن الحارة. 

هذا العام، كانت الفيفا أقرب الى الحارة. كانت بنكهة محلية. ربما بداية بسبب استضافة قطر لها، ولكن بالتأكيد كان لتنافسيّة الفرق العربية المشاركة التأثير الأكبر. 

المغرب التي افرحت قلوبنا وجعلت من المباريات أقرب لوجداننا البعيد الممتلئ بحنين الطفولة. ربما يشبه اللاعبون أولاد الحارة بلون بشرتهم وشعرهم ووضوح تفاصيلهم. كانوا أقرب الى ما كنا عليه لا أقرب لما نتمناه ولا نرقى له عند تشجيعنا لريال مدريد وبرشلونه. 

للحظة شعرت وكأن الحلم يمكن تحقيقه عندما وصل المغرب الى الربع النهائي، وحتى قبل عبوره لنصف النهائي. لم يكن لعبهم ووصولهم نتيجة حظ او صدفة. كان لعبهم يرقى باللعبة. كانوا اندادا لكل فريق واجهوه. تحولوا الى خصوم حقيقيين. أبهروا بآدائهم من يفهم بالفوتبول ومن لا يفهم. أمتعوا بلعبهم الحضور وجعلوا من المباريات حلبات استعراض للعب على اصوله حيث يجتمع الأقوياء، لا مكانا يفترس فيه القوي الضعيف. 

حارس المرمى الذي بدا وكأنه من عالم اخر. ممسوساً بقوة لا يمكن ايقافها. قدرة سحرية على اقتناص الكرة وتذليلها. ضربات وركلات ذكرتني بأبطال الملاعب. رأسية تطير وصاحبها نحو السماء لتضرب المرمى، او تلك الضربة العكسية الملتوية التي لامست المرمى. ركلات وتمريرات وتصويبات رأيناها بمتعة مشاهدة كرة القدم البرازيلية والأرجنتينية بين سامبا وتانغو في الملاعب. قدم لنا المغرب عرض اسود الاطلس وفهمنا كيف تعيش اسود الجبال خارج عرينها. 

لم يكن تمنياً او توقعاً عبثياً او ساذجاً ان يستطيع المغرب اقصاء الفريق الفرنسي في المباراة التالية. فما رأيناه من أداء كان يرقى الى ذلك التحدي. فلقد تصدى المغرب لإسبانيا والبرتغال واخرجهما بكفاءة عالية. لم يكن الفريق الفرنسي هو الأفضل. ولكنا رأينا أداء مختلفا عما رأيناه في المباراة السابقة. كنت انتظر ان اشاهد بونو الساحر، ولم يكن بونو أكثر من بونبونه في تلك المباراة. كيف دخل الهدف الأول في مرماه؟ لماذا كان يتجول بعيدا عن المرمى وكأنه قرر فرصته باللعب وسط الفريق في هذه المباراة. اين كان التصدي والدفاع الذي رأيناه في المباراة السابقة عندما دخل الهدف الثاني؟ لم يكن هناك دفاع يرقى للدفاع في المباراة السابقة. اللعب بتمريرات بين الفريق المغربي عند مرماه بدت وكأن الفريق يناور في تدريب خاص لبعض الوقت. 

كانت مباراة ندية بالتأكيد. ثم اتى عدم احتساب الحكم لضربة جزاء لصالح الفريق المغربي بعد مخالفة صارخة من قبل لاعب فرنسي لتعزز وجاهة التساؤل بشأن مجريات الأمور. فما الذي جرى بالفعل؟

بادئ الامر قلت ان هذه كرة قدم، إعياء ربما، وهذا اوهن الادعاءات، حظهم ربما، فلقد لعبوا باستحقاق حتى النهاية. بل أكثر. تفوق المغرب في تلك المباراة من حيث اللعب على فرنسا. 

في إعادة تشبه الرجوع الى الوراء في مخيلتي كالأفلام توقفت عن بعض الأمور واسترجعتها، عندما استيقظت في اليوم التالي على تحليل يرنو الى تدخلات حسمت نتيجة تلك المباراة لصالح فرنسا. 

على الفور استعدت المشاهد التي استغربت ولم تكن منطقية بين أداء حارس المرمى ودفاع الفريق. 

تذكرت كتاباً كنت قد قرأته قبل سنوات اثار زوبعة كبيرة في الفيفا عن أشهر متلاعب بنتائج المباريات. ويلسون راج بيرومال، الذي كان أكثر المطلوبين لدى الفيفا، باعتباره الذراع الأقوى لمنظمات المراهنات عير المشروعة لكرة القدم في اسيا. تمكن من اخراج مئات الملايين من أوروبا الى الشرق ورشوة مئات اللاعبين والمسؤولين والمدربين والتلاعب في نتائج عشرات المباريات ما بين تصفيات كأس العالم في عدة قارات منها أوروبا، ومباريات رسمية في دوريات أوروبية منها الالماني والإيطالي والتركي، ومواجهات الاولمبياد بالإضافة الي مباريات دوري ابطال أوروبا. زعم بيرومال أنه تلاعب بنتائج مباريات كلٍّ من نيجيريا وهندوراس في تصفيات كأس العالم ٢٠١٠ ليضمن وصولهما إلى النهائيات، كذلك مباريات نيجيريا الرسمية في نهائيات أولمبياد أتالانتا١٩٩٦.

بالإضافة إلى  مباريات أخرى وثبوت علاقته بتحقيقات “يوروبول٢٠١٣، فيما يُعرف بالعملية “فيتو”، التي تضمَّنت تحقيقات في ٦٨٠ مباراة جرت في ١٥ دولة حول العالم منها، ٣٨٠ كانت في أوروبا، ودارت فيها الشكوك حول ٤٢٥ حكماً.

 تم القبض على بيرومال في فنلندا سنة ٢٠١١، وقرر التعاون مع السلطات وكشف النقاب عن خفايا المقامرات وعلاقة منظمته الاجرامية والتلاعب بنتائج المباريات مع الدول والفيفا. عندما قرأت الكتاب حينها، كان على الغلاف عبارة من المؤلفين تقول: تحذير، بعد قراءة هذا الكتاب، لن تتمكن ابدا من مشاهدة كرة قدم بنفس الطريقة مرة أخرى. والحقيقة ان الامر كان اشبه بقراءة مرعبة، ربما نجدها في هذه الأيام بالأفلام الوثائقية التي تعرضها نتفلكس، يشوب القراءة ذاك الشعور المرعب الذي يصاحبه موسيقى تضفي الى الخوف خوفاً.

التلاعب بنتائج المباريات ليس بالأمر الجديد. وان كان فتح ويلسون لصندوق الفيفا الأسود كان قبل أكثر من عشر سنوات، فلنا ان نتخيل كيف تطورت هذه اللعبة من حيث السوق التي فتحته لتصبح الفيفا عالما بذاته. ذلك العالم ليس فقط ما نراه نحن المتابعين البسطاء، وليس ما نعجب به من تمكن لاعب من الوصول الى هذه الماكنة من المال الغزير بعد فقر عسير. كرة القدم ليست فقط فريق ولاعب واموال كثيرة تستثمر فيها من اجل امتاعنا. كرة القدم ساحة للقمار والمراهنات يدخل فيها عصابات ودول وعالم اجرام لا يختلف عما نعرفه عن المافيا من سلاح ودعارة ومخدرات. الرهان على المباريات عالم سفلي بحد ذاته، ظاهره صالة او كشك رهان مرخّص، ولكن باطنه عالم جريمة كان ويلسون أحدها ضمن منظمات أخرى وخيوط تشدها الفيفا والدول المختلفة كل على حسب مصلحته ورهانه. حتى تلك الفترة كنت اتابع المباريات بمتعة حقيقية. ولكن بعدها صرت اشكك في كل ما أرى ولم يعد الملعب بالنسبة لي الا حلبة مصارعة متفق على نتائجها. 

كم هو محبط التفكير بنظرية المؤامرة وحقيقة التلاعب بنتائج المباريات. 

ولكن اعيد التفكير واطرح تساؤلا بدا غير مهم عند المباراة، لماذا لم يحضر ملك المغرب ( على الرغم من عدم اعتياد الملك على السفر. ولكن كذلك تلك المباراة لم يحضرها امير قطر الذي تواجد في المباريات السابقة)  لتلك المباراة بينما حضر رئيس فرنسا. لم تقنعني الإجابات التي حصلت عليها ان ملك المغرب لا يسافر كثيرا، فهذا الحدث كان الحدث الأهم في تاريخ المغرب، غير نظرة العالم كله لإمكانية تحقيق ما لا يحققه الا أوروبا وامريكا اللاتينية في كرة القدم. 

وربما منذ بيرومال تغيرت وتطورت تجارة المراهنات لتأخذ اشكالا أكبر وأخطر. فمن يمكن ان يكون قد راهن على وصول المغرب الى النهائي؟ احتمالات نجاح الرهان على المغرب كان صفراً. هناك الكثير من الخسارة بوصول المغرب الى النهائي، في الوقت الذي راهن فيه كثر على فوز فرنسا على وجه التحديد بكأس العالم هذا العام، او وصول فريقها بالتأكيد الى النهائي. 

ما رأيناه بمباراة المغرب وفرنسا أقرب الى مقولة ويلسون راج بيرومال عند التحقيقات: 

“الأمر كما نراه هو أن كرة القدم لم تعد رياضة، بل تجارة، وما حاولنا فعله هو أن نربح الأموال من هذه التجارة.. كل الناس يريدون الفوز، وكل الناس على استعداد لفعل أي شيء للحصول على النتائج التي يريدونها.”

وستظهر الأيام والسنوات القادمة ربما ما جرى بالفعل في هذه البطولة او ما لم يجر. 

.

اترك رد