المواطن بين الأضحية والتضحية: القدس بين الشيقل والشهادة
دمتْ مشاهد القتل يوم الخميس قلوبنا، بين نزيف وتجلّط. صرت أخاف التّعليق أو النّظر أو المتابعة. ما الذي نجنيه من هدر دم أبنائنا في ذلك اليوم بهذا القتل الاجرامي بلا هوادة؟ أين نحن من التّحرير وأين القضية من الحل؟ أين القيادة وأين السّيادة؟
شباب لم يفرح أهلهم بهم بعد. شباب تفتّحت عيونهم نحو المستقبل للتّو، ليجدوا أنفسهم ضحايا هذه الحرب التي لم تشبع ابداً من سفك دماء أبناء هذا الوطن لتُشبع جشع احتلال غاشم متسلّط علينا من كلّ صوب.
قضية تحولت الى مشروع يملأ جيوب اهل السيادة والاستثمار بالأوطان، حتى صار الوطن عنقوداً يمتص ما تبقى من عروقه الخاوية الا مما تبقى عن عرق المواطن السّاعي نحو يومه برمق عاجز.
اين السيادة من هذا القتل الاجرامي بحق أبنائنا؟ كيف يتساقط الشباب يوميا وكأن جنود الاحتلال في رحلات صيد مفتوحة امام شهيّتهم للقتل والدماء؟ لمن نشكي ولمن نحتكم؟ على من تقع مسؤولية حماية حياة أبنائنا؟ علينا ام على السلطة؟
اين السلطة من هذا القتل؟
هل أجد اجابتي في عملية إطلاق النار في القدس مساء الامس؟
كنت امشي بالشارع وابن الجيران ابن التاسعة عندما سمعت الخبر. اردت ارجاعه سريعا الى بيته. تخيلت قطعان المستوطنين هائجين مندفعين نحو الشارع يطلقون نيران غضبهم على المحلات. سألني الطفل لم العجلة، فقلت برعب: هناك خمسة قتلى. فأجابني بهدوء: لا ستة. فقلت: كارثة. فقال بكلمات ثابتة: هل تعلمي كم شاب استشهد بالأمس في جنين؟
الحقيقة انني لم أفكر مثل صديقي ابن الجيران. لأنني كنت مأخوذة بهول ما جرى. لم اصدق انه ممكن الحدوث بالوهلة الأولى، بين تلقي خبر عن “حدث أمني” بالمستوطنة المقابلة، وبين اتصال ابنائي واحدا تلو الاخر يطمئنون محاولين التأكد انني في البيت.
ولكن ردة فعل الطفل امامي اذهلتني. كيف يمر الموت هكذا بلا اكتراث؟
هذه هي الجريمة الأكبر من القتل. هؤلاء جعلونا لا نكترث للموت. موت عندنا او موت عندهم…
نعم …صاحب التأكد من الخبر وازدياد عدد القتلى الشعور بأن القهر والعجز والظلم لا يمكن ان تعتاد النفوس الحرة على وجودهم. هناك من يقهره الظلم فيقدم حياته فيضحي من اجل لحظة يذكرنا بها ان قيد الظلم مهما غلظ، عاجز.
في كل مرة نصل الى قمة الإحباط واليأس ونشعر انه لم يتبق امامنا الا السقوط المدوي نحو الحضيض، يخرج انسان تضخ في عروقه دماء لم يستنزفها الهوان ولم يجفّفها الخوف، فيقدّم نفسه أضحية لقضية أسمى. قضية لا يزال فيها الوطن عنوان نبضه، والمواطن عنوان تحرّره، والعزّة لا الذّل ولا الخضوع عنوان وجوده أو رحيله.
تبدو كلمات أغنية جوليا بطرس كعادتها في مكانها، تحفّز بعد أن غابت شمس الحق، وانشغل الملايين، ولم يعد السؤال عنهم مجدياً، ليبقى الحقّ سلاحنا في هذا الوطن السليب، وليكون فعْلُ مقاومةٍ وحيد في يد البعض إعصاراً.
هذا ما أصابنا من شعور بالأمس. بعد قهر يوم عصيب. سالت فيه الدّماء بلا تردّد ولا تفكير ليكون أكبر ردّ هو شجب او استنكار أو ادّعاء بوقف التنسيق الأمني.
في تلك اللحظة ذاتها التي كان المواطن يتداول فيها قضية اقتطاع الشيقل من فاتورة الهاتف بحجّة القدس، قدّمت القدس مثالاً حقيقيّاً بما يملأ المواطن من ثورة متأجّجة لا يقبل فيها أن يكون اضحية، ولكنه يضحي بنفسه في سبيل عزة أرواح سُلبتْ عنوة وغدراً من الوطن.
عبثاً يحاول أولئك … فالشعب الذي لا يثق بهم في شيقل هو الشعب الذي يقدّم حياته في سبيل الوطن. وشتّان بين مواطن ينبض الوطن في عروقه وبين من يجعل الوطن عنقوداً يجفّف أوصاله لبيعه حطباً.
قاوم فيَداكَ الإعصار لا تخضع فالذّل دمار
وتمسّك بالحق فإنّ الحقّ سلاحك مهْما جاروا
إن حياتك وقفة عزّ تتغيّر فيها الأقدار
يوم تهبّ ثورة الغضب في أمة الغضب
في وقفة العز في انتفاضة الكرامة
تندحر الظلامة
عندها لن تستطيعوا وقف ما في النهر من هدير
سوف يكون السيل لن تستطيعوا رد هذا الويل
سوف يكون السيل عليكم سيجرف الحدود من حدودكم
ويكسر القرار يا أولياء القهر والقرار
يا أيّها الكبار
كلمات هنري زغيب لأغنية جوليا بطرس