ستّي في ذكرى رحيلها الأولى

رحلت ستّي عنّا قبل سنة، ولكن لم ترحل ذكرياتها العطرة عنّا. 

.كثُرت الانشغالات ربّما 

لم ألتزم بزيارة قبرها كما أرد. 

لم أشعر برحيلها كما شعرته هذه اللحظة. 

كم يصاحب المرء في الموت جدار عازل يحميه من ألم الفراق. مضت الأيام والشهور بتقليب جميل للذّكريات وترحّم ودعاء، ربما ايمان أنّ سنّة الحياة مليئة بحكَمٍ لا نقرّها ولا نفهمها إلا لاحقاً. ولكن بالرحيل ألم لا يخفّ وجعه. لا يملأ مكان الرّاحل آخر. 

بقيت ستّي في وجداني وذكرياتي حيّة. كثيراً ما أراها، أشعر بوجودها قريبة في مكان ما تبتسم وتلمع عيناها بدعابة حنونة. أحياناً تختالني ذكرى طريفة فأضحك. لا أعرف عدد المرّات التي حلمت بها منذ رحيلها، كما لا أعرف عدد المرات التي شخصت بها امامي بحضورها الطاغي فحدّثتها وابتسمت لي. 

لا أعرف كم نُواسي أنفسنا بألم الرّحيل، فنُبقي الذكّريات حاضرة حيّة…مؤقتاً.

هذا الصباح عندما تذكّرت جدتي، رأيت القبر. تعلّمت خلال تلك الشهور ان للقبور حياة أخرى. لنا نحن الأحياء مؤقّتاً ما يمكن التّعلّم منه. ولكنّا نسعى دوماً نحو مقولة أنّ الحيّ ابقى من الميّت. 

كم هي عبثية هذه الحياة…

فالأبديّة في الموت لو نفهم…

لو نتمكّن من ترك ما يكبّلنا من مشاعر التّحكّم ببقائنا.. بما تراه أعيننا.

في القبور أنس وهدوء.. لحظات ترجعنا الى مكاننا الأول والأخير.

…ولكن، عبثاً 

.عبثيّة محاولاتنا التّمسك بالحياة

.علمتني ستّي في حياتها كما في موتها عبثيّة التمسك والتحكم بما يبدو لنا انه لنا

.في حياة ستّي فهمت معنى الرّفق والرّحمة

.في موت ستّي تعلّمت معنى آنية الرحيل الجسدي 

.في حياة ستّي تعلمت معنى العطاء بلا حدود 

في موت ستّي فهمت هبة الرّوح للرّوح. 

أتعلّم يومياً انّ التواصل عند الحب والعطاء يكون وصالاً لا ينتهي بالموت. 

أشعر بيد ستي المليئة بنور روحها الآن، كما كانت تلك اليد الشديدة الممتدة عروقها كامتداد جذور شجرة الزيتون. صلبة، متينة، قوية، واثقة تمسك بيدي. 

لا تزال تلك اليد تلمس وجداني، كتلك في أيام الطفولة البعيدة، تشدّني لأسرع في خطواتي وخطواتها الواثقة الشامخة في كعب عالي وسط شوارع وزقاق البلدة .القديمة

.لا تزال تغمرني بحب لا تعبر عنه الكلمات. بأفعال وتمتمات لا اعرف ان كانت تعي معانيها، ولكنها بالتأكيد كانت صادقة في دعائها 

بعطفها “اللدود” كانت تزهد وتكبِّر وتربّي وتعلّم وتؤثّر… رحلت بعد ان استغرقتها الحياة ولم تعد تتّسع لجسدها النحيل، لترتاح في حجر التراب ويكون “أبو خيمة .زرقاء”-كما كان يحلو لستّي ان تدعو الله- ونيس روحها بإذنه تعالى

اترك رد