رحلة صمود وقهر: سامي سعادة

  شاركت في جولة بحيفا مع جمعية (عكيفوت) المتخصصة في نبش الأرشيف الإسرائيلي وكشف ممارسات دولة الاحتلال منذ قيامها في مواضيع مختلفة. من المواضيع والقضايا التي عملت عليها الجمعية كان أرشيف كفر قاسم والاوامر العسكرية بالمذبحة، والطنطورة واللطرون وغيرها. بينما عمد العاملون في الجمعية على اخراج ألأرشيف العسكري في بداية سنوات الاحتلال، توقع احد المحققين امام قصة رجل يدعى سامي سعادة. كنت قد قرأت الأرشيف في السابق وتوقفت عند الكثير من الأسماء. كان من الصعب القراءة والتوقف او التأمل. لا يكمن وصف الحسرة المصحوبة في كل كلمة. محور الرسائل كانت مطالبات او طلبات من السكان لوزير شؤون الأقليات حينها، قصص شتات وتشريد تشهد عليها تلك المراسلات. طريقة الكتابة ولغتها ومفرداتها. نوع المطالبات واهميتها لأصحابها. مطالبات تتراوح من طلب اذن بالدخول الى حيفا حيث كان هناك حاجز يمنع الناس من الدخول الا بتصريح، ومطالبات بتصاريح وتسهيلات وإعادة ممتلكات او أموال. لوهلة استغربت من طريقة الكتابة واجتاحني غضب لكيفية لغة الخطاب. وكانت هذه رحلة بحد ذاتها لفهم ما كان يجري، ومحاولة ربط ما كان بما صار. طريقة الكتابة والمخاطبة كانت مرتبطة بطريقة المخاطبات التي اعتادها الناس زمن العثمانيين، فكان فيها الكثير من التفخيم والاحترام. من جهة أخرى ، كانت هناك الحاجة. وكم انتابني شعور ” ارحموا عزيز قوم ذل” بين سطور تلك المراسلات. كم قاهرة تلك الظروف التي واجهها على هذا الشعب آنذاك. شعور من نجا للتو من زلزال مدمر، او بالاحرى من حرب اكلت خير البلاد ورمت وبالها على من تبقى من الشعب.قصة سامي سعادة تجسد حسرة الانسان الفلسطيني وكأنه خارج من سطور غسان كنفاني عائدا الى حيفا. قصة ضحية لم تهرب وآثرت البقاء بينما تشتت بين زوج بقي وزوجة وعيال هربوا للنجاة بأنفسهم. قصة العائلات الفلسطينية التي كان لديها ما تخسر اذا ما هربت ولو مؤقتا. قصة العائلات التي بقيت وعاشت قهر الاحتلال بأفظع صوره. فظاعة لم تنته ابدا ولكننا بالتأكيد تعودنا عليها.قبل ال ١٩٤٨ كان يعيش في حيفا حوالي ال ٥٠ الف عربي ونفس العدد تقريبا من اليهود الذين كانت حيفا محطة هجرتهم ما بين العشرينات وبداية الاربعينات من القرن العشرين. كانت حيفا كذلك مدينة اخذة بالازدهار والنمو الاقتصادي حيث كانت مصفاة البترول التي كانت مجمعا لتكرير النفط من العراق سنة ١٩٣٣في مينائها. كان سامي سعادة موظفاً محترماً رفيعاً في الشركة، وجد نفسه قبيل الحرب وحيدا وقد فقد عائلته وبيته الذي لم يعد له وجود. استأجر بيتاً في عمارة سكنية في شارع عباس، أجبر على استئجاره بعد ان استولت السلطات الإسرائيلية على كل حجر في المدينة وتم طرده من بيته في المدينة. بقي من الخمسين الف مواطن ما يقل عن خمسة الاف كان المطلوب التخلص منهم او عزلهم في معازل وغيتوهات. كلمة معازل وغيتو تم استخدامها من قبل قوات الاحتلال في تخطيطهم لتهجير السكان والاستيلاء على ممتلكاتهم. ومن تبقى منهم مثل سامي سعادة خارج تصنيف المعازل، تم السماح له استئجار بيت هم اختاروه وقرروه له. في ذلك البيت الموجود في الطابق الخامس من العمارة يصف سامي عدد الدرجات التي كان يتسلقها يوميا للوصول الى تلك الشقة وعدد الغرف ويزودنا الأرشيف كذلك بخريطة وعقد ايجار. ولكن في يوم ما يرجع من عملها منهكا ليجد زوارا اقتحموا البيت وقرروا ان يأخذوه بادعاء انه تم منحه لهم كذلك. تلك العائلة اليهودية المغربية على ما يبدو جاءت وافرادها الأربعة لتحط على المنزل، وبعد مناقشات عديدة اعترفوا بحقه في البيت وطلبوا منه السماح لهم بالبقاء لتلك الليلة. في الصباح خرج ليبلغ الشرطة بما حصل واذا بالرجل قد سبقه الى الشرطة ليشتكي عليه.  “وجدت عائلة غريبة في المنزل، تتألف من رجل يدعى ‘مامان’، زوجته وأخوها في القانون. دخلوا المنزل بعد فتحه بواسطة وسائلهم الخاصةواحتلوا غرفة واحدة، بمجرد تفريغ الأثاث الذي كان فيها.” بعد تدخلات وواسطات وسماع قاضي الدولة التي استولت على المكان قرر ان لسامي الحق في البيت ولكن لليهود كذلك حق البقاء فيه في غرفة واحدة فقط لأنه لم يكن لهم مكان ليذهبوا اليه. بعد عدة شهور جاء والدا العائلة وكبرت تلك العائلة المغيرة وصاروا يطالبون بغرف اكثر في البيت. لم يتوقف سامي من محاولات اخراج الغرباء من بيته، ولم يتبق طريق الا سلكه من اجل احقاق الحق. ولكن انطبق مثل “تشكي همك لمن وغريمك القاضي.”من جملة المراسلات التي تؤكد على عدم توقف سامي من المحاولات هو ارساله كذلك رسالة لبن غوريون.  كم تبدو رواية عائد الى حيفا حاضرة بقوة في الكثير من القصص الحقيقية لشعب تم تهجير نصفه من قوى شرّ لم تتهاون ولم ترمق في قتلها وتهجيرها لشعب وجد نفسه مهجرا مشتتا بين ليلة وضحاها. بين قصص هروب كثيرة، هربت فيها عوائل وسط ذعر الشر المحدق بها، كان هناك الكثير من القصص لمن بقوا وابتلعهم وحش الشر المتربص ولم يتوان عن مضغهم وسحقهم والتخلص منهم كلما امكن. مشينا اليوم خطى سامي سعادة المثقلة بالمحاولات بين بيت قبله بقلب مثقل وبين دق كل باب يحمل مسؤولية الوضع في حينه. قصة رجل حاول ان يأخذ حقه بالقانون الذي كان يدرك تماما انه قانون احتلال اشد من حكم انتداب انتهى اجله. ربما تعود الفلسطينيون تقليب الحكام، بين عثمانيين وانجليز. كانت الدولة حديثة العهد بقوة الانجليز وإرهاب عصاباتها حدثا ربما اعتقده الناس عابرا في تاريخ هذه الامة. كانت الخطوات مثقلة بثقل ارتفاع الدرجات التي كان يأخذها سامي الى البيت. ارتحنا على المدخل الذي لم يكن بإمكاننا الدخول اليه لنعد الدرجات ال٨٤ التي وصفها في مكاتيبه للسلطات. ولكن أنهكنا التخيل بالتأكيد. كيف يعيش الانسان هذا الإصرار من الوجود بطريقته. لم يكن سامي ثائرا، ولكنه ناضل من اجد وجوده في مدينته…عبثاً. تنتهي تلك القصة برحيل سامي واستيلاء تلك العائلة الدخيلة المحتلة للبيت. رحل بحثا عن لقاء بعائلته… لتبدأ قصة شقاء أخرى …كقصص الشقاء الفلسطيني التي لم تنته. غصة وحرقة في عمق القلب وجدت طريقها الى وجداني. للحظات فهمت معنى ذلك القهر الذي صاحب التهجير والتشريد. فكرت كيف تم تفريغ المدينة من سكانها بكل الطرق الممكنة، وعزل من تبقى منهم بغيتوات ومعازل أشعلوا فيها الخراب والجريمة والرعب. وقفنا امام المبنى الذي كان محطة متكررة الرجوع اليها من قبل سامي – مبنى حارس أملاك الغائبين- مبنى استطاع أصحابه ارجاعه اليوم. اتخيل من تبقى وحشر في تلك المعازل، أولئك هم من نرى اليوم لمئات الألوف من السكان. ضحكت في سري، لو ان تلك الضحكة كانت ضحكة حسرة، حسرة انتصار بالعدد. أرادوا التخلص منا وتصفيتنا بلا توقف ولا رحمة، ولكننا زدنا وتكاثرنا…بلا توقف والكثير من الرحمة والامل لا تزال تعمر وهج الحياة في وجداننا من امل لغد أفضل. لغد ينتصر فيه الحق ولو للحظة. ليوم كهذا… على الرغم مما لفه من قهر وشعور بالظلم… الا انه كان يوماً وقف فيه رائد ابن سامي وزوجته بولين وحفيديه ليلى وساجي، ليكونوا ويبقوا ويستمروا بنضال الوجود على هذه الأرض.. أرضهم… وطنهم الذي يسكنهم مهما قهر التشرد وشتت الظلم.   

اترك رد