مسلسل سفاح الجيزة بين الواقع والابداع 

كنت قد كتبت في مقال سابق عن أزمتي عند مشاهدة المسلسلات اللبنانية-السورية المقتبسة عن التّركية، بين غلوّ إنتاج وضعف حبكة، وسوء تمثيل وغياب الموهبة والإبداع. شاهدت مسلسل سفاح الجيزة من باب التغيير. 

لن أتكلم كثيراً هنا عن القصة الحقيقية التي ينقلها المسلسل، فهي قصة مرعبة ذكرتني بريا وسكينة من جهة، وربما بفيلم ٧ الأمريكي للكاتب آندرو كيفين ووكير الذي قام ببطولته براد بيت ومورغان فريدمان، والذي تناول جريمة معقدة تدور أحداثها حول اثنين من المحققين يحققون في سلسلة من جرائم القتل الوحشية التي تتبع نمطاً مستوحى من الخطايا السبع المميتة. ربما تأخذنا القصة الى التفكير بما يجري حولنا من جرائم ومجرمين يحومون ويمشون ويعيشون حولنا وبيننا في زمن صارت الجريمة فيه اعتيادية. بالنهاية نحن نعيش بعصر نشأ فيه جيل على العاب الكمبيوتر العنيفة والأفلام والمسلسلات التي بكل أسف تعكس انحلال المجتمعات وانهيار القيم الإنسانية بأبجدياتها. 

وهنا أتوقف عند مخرج المسلسل هادي الباجوري. عندما نتكلم عن ابداع، عن موهبة، عن معنى إخراج، نستطيع أن نشاهد فيلماً أو مسلسلاً لهذا المخرج. الإخراج الحقيقي هو أن تقدم عملاً تستطيع فيه ان تجعل المشاهد يعيش الواقع الذي تريده أن يراه كما هو. في هذا المسلسل نجد لكل مشهد حياة وعالم يصبح جزءاً من حركة الممثل. الحارة، البيت، المطبخ، السكين، البطاطا. كل لحظة لها هدف. وإذا ما كانت البيئة التي يتم العمل على تقديمها للمشاهد بهذه الواقعية، فلا يمكن الا للمثل الذي يقدم العمل ان يكون كذلك. الفنان احمد فهمي قدم دوراً عظيماً بكل المقاييس. شخصية تراها وتمر أمامك كل يوم في زحام الشوارع، المشي، اللباس، الحركات، تعابير الوجه او عدم تعابيرها، لم اتوقف عن متابعة تعابير أدائها طيلة المسلسل. وكأن المخرج أراد منا ان نشاهد لغة الجسد ونفهم الشخصية منها. تلك الشخصية المريضة اجتماعيا وتمشي وتأكل وتقتل بلا تعبير، بلا تأثر، بلا محاولة للتوقف ولو للحظة للتفكير، ولكن جريمة تلو الجريمة تصبح فعلا يحاكي الشخصية التي امامنا. لا نعرف ما الذي يثير رغباته، يطبخ بشغف واتقان، ولكنه لا يأكل ما يطبخه بنفس الشغف. يقتل بإصرار، ولكنه لا يتأثر، ولا يفكر ولا ينهار ولا ينتشي من فعله، يحتال بين الشخصيات التي يعيشها بلا عناء، كل هذا بشخصية لا يوجد ما هو ملفت بها، لا شكل ولا كاريزما ولا مال ولا جاه ولا وظيفة. شخصية هلامية المعالم تقوم بكل شيء ميكانيكيا، حتى عند محور ضعفها وعقدتها- الأم- 

إمكانية الممثل على تقديم الشخصية بهذا الابداع بدا لي الأهم في المسلسل. جعلني احمد فهمي اركِّب شخصيات وأفككها واحاول فهمها عبثا، لأنه بالفعل لا يوجد ما تراه ليجعلك تفكر في ذلك الشخص الخالي من الكاريزما الذي يقف امامك. تثير الشخصية الحيرة في هدوئها وبلادتها وعتهها… والاهم… تشبه هذه الشخصية في هيكلها الخارجي الكثيرين من الغرباء في الشارع.

أبدع الكثير من الممثلين في أدوارهم، وبالتأكيد لا يمكن تجاوز الفنانة الواعدة ركين سعد. هذا الدور أخرج موهبة هذه الشابة بتلقائية وجهد واضح. بدا لي وكأن هادي الباجوري فجّر موهبة كما فعل مع ياسمين رئيس في فيلم فتاة المصنع

ولا يمكن تجاوز فكرة أننا شاهدنا ممثلين بلا بوتكس وفيلر ونفخ وشفط. شاهدنا وجوهاً عادية. لم نشاهد استعراض للشكل والوجه والجسد والملابس. لم تنتظر البطلة ان تتحول من فقيرة الى غنية لنراها تتغنى بملابس ومجوهرات وكعب عالي. 

شاهدنا عملا فنياً يمكننا الاعجاب به وانتقاده بما يحترم عقولنا ويحفزنا نحو التفكير والتساؤل.

نحتاج لهكذا أعمال تحترم المشاهد وتبذل الجهد الحقيقي في إنتاج عمل يرقى بالفن والفنان. 

تبقى مسألة الدم والقتل بالمسلسل التي كانت بالفعل صعبة، ولكن تم التنويه والتحذير من هذه المسألة في بداية المسلسل بوضوح. وعلى عكس المسلسلات التي تروّج للعنف كما نرى في مسلسلات محمد رمضان من الأسطورة إلى البرنس والزلزال وجعفر العمدة وغيرهم، حيث تتمركز شخصية البطل في البلطجة والذكورية التي تعتمد على الاستقواء والاستباحة بطرق جاذبة تنتهي بكل اسف لتصبح الشخصية ايقونة مجتمعية، نجد في مسلسل سفاح الجيزة تحذيرا من الشخصية المركزية المتمثلة بالسفاح، تؤكد ان ما كان يقوم به هذا الرجل مرضاً وعتهاَ، ولربما يجعل المجتمع اكثر وعيا وانتبها لهذه الشخصيات اذا ما لا قدر الله تعثرت بها حياتنا. 

اترك رد