تخطى إلى المحتوى

حارة اليهود : غزل ام واقع قديم…او جديد؟

لن آحوم حول الموضوع .. ولا أريد أن أبدأ بمقدمة تحيرني قبل أن تحير غيري . في خضم حمى المسلسلات الرمضانية ، تحلق فوق رأسي أحداث بحر الدم الذي سال من أبناء الشعب الفلسطيني في مثل هذه الأيام من العام الماضي . حينما طغى مسلسل غزة على كل المسلسلات . وعندما أغلق حرق الفتى محمد آبو خضير أبواب بيوتنا علينا رعبا وخوفا من خطر محيط لم يعد يختبئ ولا يتستر . كان العام الماضي بأحداثه المأساوية وكأن مسلسل التغريبة الفلسطينية يعرض علينا بجزء جديد ، كأجزاء باب الحارة .

وككل عام تأتي مسلسلات رمضان بقصص وحبكات درامية ترتبط عادة بأحداث العام المنصرم. فرمضان الفائت كان إخواني التركيز متشاطر الإتجاهات كالبوصلة التي فجرها لهيب شمس الصحراء في تناقضات السباقات الفنية من عري للأجساد والفحوى. كأن الحال المصري\العربي في لحظة انتشاء .

قد يكون من القسوة على المشاهد العربي الهارب من الواقع المرير أن يشاهد العام هذا مسلسلا دراميا يحاكي قصة من قصص مجازر غزة . أو حكاية محمد ابو خضير ، او ضحايا اختطاف الثلاثة جنود . ولكن لا استطيع لغاية اللحظة فهم ما يريده المنتج او الاعلام او غيره بالدراما المصرية من المشاهد العربي ب”حارة اليهود” بزحام هذا الشهر .

في يوم عادي وفي شهر وسنة عادية كان سيكون المسلسل طبيعيا . فكم من الغريب ان تحشد الدراما المصرية بخلال عقود من الزمن وبالرغم من اتفاقية كامب ديفيد التي كان من الممكن ان تتوجه هكذا اعمال لتقرب الشعب المصري والعربي من الحكاية اليهودية في مجتمعاتها ، تعبئة ضد إسرائيل والصهيونية وتجسيد اليهود بكل مراحلهم بالخبثاء المضللين ، وفجأة وفي هذا التوقيت يقرر المنتج المصري أن يخلق حالة من الوعي والتسامح نحو تاريخ اليهود في مصر ، وأن يصورهم بهذه التصويرات الانسانية البطولية.

لم أكن يوما ناكرة او متنكرة لوقائع وأحداث التاريخ التي يشملها وجود اليهود ايا كانوا وكيف . ولكني لا استطيع ان انظر لما يجري اليوم بأي نظرة براغماتيكية حتى لما يتم إنتاجه يوميا في الاعلام المصري المختلف.

حاربت بشدة في العام الماضي كل من حاول التعميم بموقف المصريين بما كان يجري يغزة من مذابح وتصفيق لإسرائيل بما كانوا يرتكبونه . حاولت تفهم الشارع البسيط مثلي ، كما حاولت تفهم حالة الغضب من البعض ، وكذلك فكرة الجرح الكبير بالمصريين بما حل بهم من إحباطات الفترة الإخوانية وكان الأسهل ذبح الكبش الفلسطيني كفداء . وكنت أصر بآن ما يجري من مهاترات إعلامية ليست إلا تهافتات من هم لا يرقوا لدرجة الاعلام من جهة ولا لدرجة الانسان المصري الذي يحمل القومية العربية تاجا على رأسه .

ولا زلت أدعي بأن ما يجري من تحامل على الفلسطينيين استثنائي ولا يرقى لدرجة التعميم ، على الرغم من الإحساس الحقيقي بزن الجرح المفتوح بالجسد العربي لا يزال ينزف وضمده خارجي يتعرض للتلوث في كل يوم أكثر.

ومفارقة ما يحدث اليوم من عرض لهذا المسلسل ،الذي بدأ بخلق حالة من النبش التاريخي الانساني لليهود في مصر ، وكأنهم فقط كانوا مجرد جزء من المجتمع يشكلوا ما ينسجه من ثقافة وحضارة ، وما حل بهم ظلم عربي وجتمعي . نعم ، قد يكون اليهود حتى لحظة قيام إسرائيل ، شكلوا جزءا من نسيج المجتمع المصري والعربي . فهذا ليس بالجديد والمفاجأة . فقبل احتلال اليهود لفلسطين ، لم يكن المجتمع يفرق الأفراد على حسب دياناتهم . كان الدين فقط للمناسبات الخاصة التي تتيح المجاملة لكل طرف أمام الطرف الآخر . حالات الزواج من اليهود والمسلمين تفوق بأعدادها تلك التي كانت تحصل ما بين المسلمين والمسيحيين لتشابه العقيدة ما بين الديانتين والعادات المشتركة .

والمسلسل أحدث الكثير من التساؤلات حول الحقائق التاريخية المغلوطة والمبالغ فيها لتاريخ لا يزال الناس يعيشونه. فمحاولة خلق ذاكرة جديدة بديلة للمجتمع العربي \المصري بالنسبة لليهود تبدو أكثر من محاولة درامية فنية فقط. فنحن نعيش في أسوأ مراحل الدراما العربية الحقيقية التي تشكل نبعا للدراما الفنية من أحداث لم نعد نميز بين الحقيقي منها وبين ما يفوق الحقيقة . ولا آعرف ان كان شقي الفلسطيني اطي لا املك غيره هو الذي يتحكم برؤيتي لهكذا مسلسل . إلا ان احتفال اسرائيل بالمسلسل لا يأتي كذلك عبثا . فإسرائيل التي تفضحها اعمالها الاجرامية حول العالم يوميا ، وهي تحاول تلميع صورتها عبثا ، يأتي أحد أعمدة الدراما المصرية ليقدم لها هدية على طبق ذهبي مجانا ، وسط دعاية تجمع كل أطياف المجتمع العربي في هكذا توقيت .لا استطيع ان ارى بهذا المسلسل الا محاولة لاستبدال صورة اسرائيل في ذهون الشعوب العربية التي لا تزال مشاهد النزيف والدمار تسيطر على مشاهداته الحقيقية اليومية، بتلك الإنسانية والمظلومة . ولا انكر ولن أنكر بآن ظلما لا شك وقع على اليهود او بعضهم في حينه في مصر وباقي البلدان العربية . إلا ان نسيان او تناسي بأن اولئك ايضا كانوا جزءا من الحراك الصهيوني نحو فلسطين قبل وبعد قيام إسرائيل ، وكأن اليهود ذهبوا ليكونوا جزءا من قيام إسرائيل قسرا واجبارا . وكأن اليهود اولئك لم يكونوا جزءا من الحروب المتكررة التي شارك فيها المصريون من آجل فلسطين . كأن دم اليهودي بريء من شهداء الحروب ابتداءا من ١٩٤٨ ووقوفا عند ١٩٧٣. وكأن اليهودي المصري في هذه الحالة لا ينتمي الى الصهيونية ولا يجلس اليوم على انقاض عائلة فلسطينية تم قتلها وترحيلها وتهجيرها ولا يزال…..

ولن يجعل كلامي هذا مني معادية للسلام اليوم ، ومن رؤيتي لليهود الذين يقاتلون من أجل عدالة القضية الفلسطينية في آحيان أكثر من محاربة الفلسطينيون من آجل قضيتهم. ولن آغير أيماني بأني وكإنسانة فلسطينية مقدسية ، لا أعرف الحياة بدون وجود إسرائيل فيها . فهم واقع ، سواء كان ذلك بمؤامرة من الحركة الصهيونية والعالم أم كان ذلك حقا تاريخيا يدعونه . فأنا أراهم ككيان قائم له حقيقيته وقصته وروايته والتي ان كنت اختلف عنها ولا أشتريها الا انني آعي تماما بأنها حقيقية بالنسبة لهم .

ومع اني على قناعة بأن مواجهة التاريخ والخوض فيه والحديث فيه وعنه وما به وما عليه لنا ومنا هو الأنسب والأصح دائما . فحياتنا العربية تشبه النعام . رؤوسنا في الرمل ومؤخراتنا في العراء . إلا ان محاولة “أنسنة” اليهود اليوم في هكذا مسلسل ، لا ينطوي الا على محاولة أنسنة الاحتلال . وهذا عار …

العار هو التغاضي عن الحقيقة البشعة للإحتلال الاسرائيلي وجرائمه التي لا يسمح الاحتلال ذاته لنا بنسيانها لتكرارها الدائم ، ومحاولة الغزل معه في هكذا توقيت …بينما الفنان المصري والاعلامي المصري لا يزال يرفض التطبيع مع إسرائيل من خلال موقفه النقابي العلني.

اترك رد

اكتشاف المزيد من نادية حرحش

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading