تخطى إلى المحتوى

في ذكرى وفاة الشيخ محمد الغزالي

 في ذكرى وفاة الإمام محمد الغزالي: مدارسة في “كيف نتعامل مع القرآن”

يصادف اليوم ذكرى وفاة الامام محمد الغزالي، تناولت البحث في كتابه ” كيف نتعامل مع القرآن” في مدارسة أجراها الأستاذ عمر عبيد حسنه في أواخر الثمانينات من القرن الماضي، ولقد طبع هذا الكتاب للمرة السابعة في سنة  ٢٠٠٥.

الامام محمد الغزالي لمن لا يعرف هو أحد دعاة الفكر الاسلامي الحديث وتوفي سنة ١٩٩٦. سماه والده بالغزالي تيمنا بالإمام ابو حامد الغزالي المتوفي سنه ١١١١. والغزالي الذين نتحدث عنه اليوم هو مصري، بينما ابو حامد  الغزالي هو فارسي الاصل ولد في طوس إيران اليوم. 

تتلخص مدارسة الغزالي بأن القرآن هو المعجزة المستمرة لنا على هذه الارض، وهو (القرآن) حدد نفسه مواصفاته باعتباره كلام الله تعالى، واوضح أنه كامل يستجيب لما كان حالات تاريخية سابقة، ويستمر باتجاه المستقبل عبر مختلف العصور مستجيبا بمكنوناته التي تنكشف طبقا لحالات الاستدعاء الزماني. فالقرآن الوحيد المعصوم من بين جميع الكتب السماوية، فهو المرجع الموثق الوحيد للآخرين وقضاياهم أيضا.

بينما نعيش حياة لم نعد نعرف أين نقحم الإسلام والقرآن فيها تارة، ونبعد الاسلام لأبعد ما يمكن ابعاده تارة أخرى. خشية، او عدم ثقة، او تحفظا، او حماية ربما لما نكنه لهذا الدين من حب كوني ربما، او حب غريزي، او قد يكون فطري، او هو بكل بساطة حب تربينا ونشأنا عليه، والحفاظ عليه مرتبط بالحفاظ على كينونتنا. 

ولكن تعاملنا مع الدين يشبه تعاملنا مع حياتنا، فنحب بجهل ما هو نور، ونخلص بتعصب لما لا يحتاج تعصبنا، حتى أصبحنا مكبلين بعصبة من المشاعر والاحاسيس والافكار التي تكبلت بداخلنا ولم نعد قادرين الا على المشي بها كالأسير المكبل بجنازير وأثقال. 

في منطقة تسمّي الاسلام دينها في هذه الأيام، تضحى داعش رمزا لما يقره الإسلام شرعا وشريعة، يتبرأ البعض منا منها لأبعد الحدود، ويتعاطف البعض منا معها صمتا او حتى جزئيا، يذهب البعض منا الى ما أصبح يبدو أقل تطرفا(الاخوان) ولقد وقع عليه الظلم نوعا ما في ظلمة اللا-أنسنة المسلمة في هذه الأيام. وانقسم الاسلام مرة أخرى بين تطرف يكفره تطرف، وبين جهل يظلمه جهل، وبين تخلف يحجبه تخلف. ويستمر الجميع برفع القرآن عاليا مدعيا صدقا في داخله، مؤمنا بأن قرآنه وشريعته هي السنة الحقيقية والشريعة الوحيدة الواجبة التطبيق.

ولا أعرف كيف، ولكني، وجدت في هذه المدارسة مدارسة تستحق المراجعة، لأنها مبنية على اسس ايمانية لا تزال تستجدي بالقرآن طريقا لخلاص هذه الامة. أضع بين أيديكم ما استحسنته تلخيصا لهذه المدارسة، علنا توقفنا قليلا وراجعنا أنفسنا جميعا، علمانيون متدينون، سلفيون، اخوانيون……..

أهمية هذه الدراسة لا تكمن في إعادة تفسير أو تأويل، وإنما تكمن في محاولة تخليص الفكر الاسلامي من شوائب كثيرة، تمهيدا لإحداث النقلة النوعية باتجاه المعرفة والمنهج في مجتمع إسلامي كان سباقا في استيعاب المتغيرات الحضارية العالمية الجديدة والبدء فيها، فعالمية الخطاب والفكر والتوجه هي من خصائص الاسلام، الذي اسس اول عالمية دينية بوصف النبي صلعم خاتما للأنبياء ورحمة للعالمين وبوصف القرآن المجيد خاتما للكتب السماوية ومهيمنا عليها.

ما يحاول الغزالي القيام به من خلال هذه المدارسة هو تحديد كيفية تأثير التطورات التاريخية على موقف الائمة والتزامهم ناحية فروع الفقه، محاولا بهذا استعادة مكانة الفقه التي تأثرت سلبا بالواقع التاريخي. حيث يحاول مكاشفة توجهات المتدارسين (الحكم والعلم، الفقه والتصوف) لتحقيق الاستقطاب الموحد لفعاليات الامة الاسلامية وتوجهاتها ضمن إطار قرآني جامع بهدف تحقيق القرآن العظيم لحضارة كامله: ” ونزلنا عليك الكتب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين”..

يؤكد الغزالي أن شروط الوعي المنهجي، لا يتم بمجرد الانتماء الزماني لهذا العصر، دون انتماء مكاني. فالنمو والتطور ليس مجرد تراكم كمي لمستجدات معاصرة، تضاف أو تلحق ببناء المجتمع القديم، وانما هو تحول كيفي في بنية المجتمع الاقتصادية والاجتماعية والفكرية، تستدعي تواصلا جديدا مع القرآن، وبشروط وعي جديد، يكونها هذا الواقع المستجد.

فالمجتمع المعاصر لا يعني استمرار المجتمع القديم بأزمته الفكرية في مرحلة زمنية متقدمة ،وانما يعني ما يصيب هذا المجتمع من تحول تاريخي يستحق بموجبه صفة المعاصرة، وفق مقاييسها الموضوعية العالمية الراهنة ،التي تمكنه من إعادة وجوده ،وفي ذلك اعادة اكتشاف المعنى القرآني نفسه في واقع متغير، وعلى هذا الاساس فان الكثير من مجتمعاتنا العربية والإسلامية قد ترى نفسها معاصره للعالم بالقياس الزمني ،أي لأنها موجودة في نطاق هذا العصر ،ولكنها لا تعيش في الواقع حالة عصرية ،تنفتح بموجبها على شروط الوعي الحضاري العالمي الجديد، بما فيه من عقلية نقدية وتحليلية وتطلع الى ضبط المعرفة بالمنهج ومعالجة مشكلات العصر.

وعليه، نتيجة لهذا الفصام ما بين وجود المجتمعات العربية والاسلامية اليوم بأزمتها التاريخية الفكرية، وانغلاقها وانشدادها نحو الماضي، وكونها تعيش في حقبه الزمن العالمي المعاصر، اعطاها ذلك شعورا بالمعاصرة من جهة، مع عجزها عن التفاعل المكاني والزماني الذي يؤهلها لاكتشاف شروط الوعي العالمي المعاصر من جهة اخرى. لذا يحاول البعض اعاده انتاج مراحل سابقه في مراحل لاحقه، بالاكتفاء بترديد موضوعات السلف الصالح دون الاخذ بمضمون المتغير التاريخي وضرورة الاجتهاد في عصرنا هذا. فبدلا من ان نجعل السلف الصالح قدوة في الاجتهاد، جعلنا منهم نماذج للتقليد.

من ضمن المسائل التي تعرضت المدارسة اليها قضية النسخ في القرآن. حيث فسر بعض العلماء على ان النسخ هو انتهاء أحكام بعض الآيات، او رفعها.

اوضحت المدارسة كذلك ان الباب مفتوح لدراسات دينيه مقارنة، يمكن ان تمهد لاكتشاف عالمية الاسلام وشمولية خطابه، مما يساعد على اكتشاف خصائص الإسلام.

توجه المدارسة كذلك الى كيفية التعامل مع القرآن بوصفه مصدرا للعلوم الاجتماعية والانسانية والثقافة والحضارة.

ان الأزمة التي لا نزال نعاني منها، ليست بافتقاد المنهج، فالمنهج (أصل المعرفة) موجود، ومعصوم، ومختبر تاريخيا. لكن المشكلة بافتقاد وسائل الفهم الصحيحة، وأدوات التوصيل، وكيفية التعامل مع القرآن. أي منهج فهم القرآن والسنة.

وعليه فإن الازمة هي ازمة فهم، وأزمة تعامل، وأزمة أمية عقلية، صرنا إليها بذهاب العلم (مناهج الفهم) و (وسائل المعرفة). لذا يجب أن تنصب الجهود على منهج الفهم وإعادة فحص واختبار المناهج القائمة التي أورثتنا ما نحن عليه ،والتحرر من تقديس الأبنية الفكرية الاجتهادية السابقة التي انحدرت الينا من موروثات الآباء والأجداد والمناخ الثقافي الذي يحيط بنا منذ الطفولة ، ويتسرب إلى عقولنا فيشكلها بطريقة التفاعل الاجتماعي ،الأمر الذي أدى الى انكماش الفكر والرؤية القرآنية في واقع حياتنا ، وتحول القرآن من مراكز الحضارة وصناعة الحياة إلى الركود والتحنط في بطون التاريخ التي تشكلت في عصور التخلف والتقليد والتي حالت دون إدراك أبعاد النص القرآني ،والقدرة على تعديته للزمان والمكان وذلك أن الصورة التي طبعت في أذهاننا ،في مراحل الطفولة للقرآن ، انه لا يستدعي للحضور الا في حالات الاحتضار والنزع ،والوفاة ،او عند زيارة المقابر…وهي قراءات لا تتجاوز الشفاه.

والمقصود هنا، ليس التقليل من اهمية ضبط الشكل وحسن الاخراج وسلامة المشافهة، ولكن الدعوة هنا الى إعادة النظر بالطريقة، حتى نصل الى مرحلة التأمل والتفكر والتدبر التي تترافق مع القراءة، وقد يكون ذلك بأن نبدأ التلقين بالأداء الحسن ابتداء، مع التوجيه اللافت للنظر صوب المعنى، ولا نلتفت الى ضبط الشكل الا في حالات التصويب، ولتكن حالات الاستثناء.

وقد يكون من أخطر الاصابات التي لحقت بالعقل المسلم فحالت بينه وبين التدبر والتحقق والتفكر، هو التوهم بأن الأبنية الفكرية السابقة التي استمدت من القرآن في العصور الأولى، هي نهاية المطاف، وأن إدراك أبعاد النص مرتهن بها، في كل زمان ومكان، وما رافق ذلك من النهي عن القول في القرآن بالرأي وجعل الرأي دائما قرين الهوى، وسوء النية، وفساد القصد.

هذا علاوة على ان الاقتصار على هذا المنهج في النقل والتلقي، يحاصر الخطاب القرآني نفسه، ويقضي على امتداده وخلوده، وقدرته على العطاء المتجدد للزمن، وإلغاء لبعده المكاني: ” وما أرسلناك الا كافة للناس بشيرا ونذيرا”.

إن الدعوة إلى محاصرة العقل، والحجر عليه، وقصر الفهم والإدراك والتدبر على فهوم السابقين، هو الذي ساهم بقدر كبير في الانصراف عن تدبر القرآن، وأقام الحواجز النفسية المخيفة التي حالت دون النظر، وأبقى الاقفال على القلوب وصار القرآن تناغيم وترانيم. وبدل ان يكون الميراث الثقافي وسيلة تسهل الفهم، وتغني الرؤية، وتعين التدبر، أصبح- من بعض الوجوه- عائقا يحول دون هذا كله.. وشيئا فشيئا، تتحول القدسية من القرآن الى السنة، فتجعل السنة حاكمه على القرآن، ومن ثم انتقلت القدسية لمفهوم البشر وبقي الكتاب والسنة للتبرك.

فالمشكلة المستعصية في اختلاط قداسة النص ببشرية التفسير والاجتهاد لذلك النص وإدراك مرماه، حيث عد رأي الشيخ او المتبوع في تفسير نص ما أو فهمه هو الأمر الوحيد، والممكن والمحتمل، والأكمل لمدلول ذلك النص، وصار رأي أو احتمال آخر، خروجا عن الإجماع أو نوعا من الابتداع. 

ان مناخ التقليد الجماعي جعلنا كذلك، عاجزين عن الامتداد، ودون سوية التعامل مع القرآن، فكذلك أصبحنا، دون سوية التعامل مع الواقع المعاصر، لأننا أوقفنا عطاء القرآن للزمن، وهو المتغير السريع، وحاولنا التفاهم معه بمفهوم عصر اخر يختلف في طبيعته، ومشكلاته، وعلاقاته ومعارفه عن عصرنا، وأعطينا صفة القدسية والقدرة على الامتداد والخلود لاجتهاد البشر، ونزعنا صفة الخلود والامتداد عن القرآن، عمليا، وإن كنا نرفضها نظريا.

فمثلا اخترنا ان نستعمل مفهوم الاعجاز العلمي للقرآن، وبدأ الناس بالاستغناء عن اي محاولة للإبداع والانجاز العلمي، وأصبح الكلام عن اعجاز القرآن العلمي نوع من التعويض.

وعليه، علينا ان نعي ان لكل علم من العلوم الانسانية والتجريبية مناهج وآلات وتقنيات خاصة لفهمه وادراكه. ولكل منهج خصائصه وشروطه وميزاته، ولكل معرفة وسيلتها التي توصل اليها.

ان منهج علماء الاصول، على دقته وعبقريته في استنباط الحكم التشريعي من آيات الاحكام، لا يمكن ان يعتمد ليكون وسيلة علماء التاريخ والاجتماع والسياسة…الخ.

على العكس، ممكن لهذا المنهج ان يكون مفسدا للنتائج والحقائق لو استعمل في غير ميدانه الذي وضع له، على الرغم من بعض التلاقي والادوات المشتركة أحيانا في ميدان العلوم المتجانسة.

فالمطروح وبإلحاح: كيف يمكن التعامل مع القرآن، وتدبر آياته، والإفادة من معطيات العلوم وآلات فهمها، ليكون القرآن مصدر المعرفة، وفلسفتها في شعاب العلوم الاجتماعية جميعا؟ حيث لا بد لنا من العودة للقرآن كمصدر لمعارف الحياة، وفقه المعرفة والحضارة للقيام بدورنا بمسؤولية الشهادة على الناس والقيادة لهم وإلحاق الرحمة بهم، واستئناف السير الذي توقف من عهد بعيد في كثير من شعب المعرفة التي يمنحها القرآن.

من خلال هذه المدارسة هناك محاوله لإعداد أساس لنا فكر قرآني قادر على الانطلاق باتجاه الشهود والانجاز الحضاري، فهناك حاجه لنقلة ثقافية بشروط ومواصفات لها علاقة بالنظام التعليمي والاعلامي والتربوي ومؤسسات تعليم القرآن وحفظه وتفسيره. مواصفات لها علاقة بالتشكيل الثقافي للأمة بشكل عام.

بالنسبة للغزالي القرآن الكريم هو ما بقي منا في هذه الدنيا. وبقاء القرآن هو العزاء الوحيد عن ضياع مواريث النبوات الأولى، لأنه استوعب زبدتها ” إن هذا لفي الصحف الاولى، صحف ابراهيم وموسى”

يحاول الغزالي بمدارسته ان يضع منهجا للفهم الجديد، للتعامل نع القرآن، يكون نتيجة لاستقراء الواقع والحاجة والمعاناة الني يعيشها المسلم اليوم، وذلك باعتبار القرآن هو النص الخالد المجرد عن حدود الزمان والمكان والمجمع عليه من قبل المسلمين جميعا.

يقول الغزالي ان حال المسلمين مع القرآن الكريم تستدعي الدراسة المتعمقة، حيث ان المسلمون بعد القرون الاولى، انصرف اهتمامهم بكتابهم الى ناحية التلاوة وما الى ذلك مما يتصل باللفظ والحفاظ على توتر القرآن، اداء واحكاما (التلاوة). ولكنهم بالنسبة لتعاملهم مع كتابهم، ربما صنعوا ما لم تصنعه الامم الاخرى، ففصلت الامه الإسلامية بين التلاوة والتدبر، فأصبح المسلم يقرأ القرآن لمجرد البركة، كان الترديد دون الحس بالمعاني ووعي المغازي يفيد، او هو المقصود.

وعليه، لا بد من قراءة القرآن الكريم قراءة متدبرة واعية تفهم الجملة فهما دقيقا، ويبذل كل أمرئ ما يستطيع لوعي معناها وإدراك مقاصدها، فان عز عليه سأل أهل الذكر.

والمدارسة للقرآن مطلوبة باستمرار، ومعنى المدارسة هنا: القراءة والفهم والتدبر والتبين لسنن الله في الأنفس والآفاق، ومقومات الشهود الحضاري، ومعرفة الوصايا والأحكام، وأنواع الترهيب والترغيب، والوعد والوعيد، ما إلى ذلك مما يحتاجه المسلمون لاستئناف دورهم المفقود

فالسّنّة كما قال الامام الشافعي: “فهم النبي للقرآن، او نضج فهمه للقرآن، فهو مرتبط به ارتباطا تاما في حياته، في ظاهره وباطنه”.

والأمه التي نزل عليها القرآن فأعاد صياغتها، هي المعجزة التي تشهد للنبي صلعم بأنه أحسن بناء الأجيال، وتربية الامم، فنخن نرى ان العرب عندما قرأوا القرآن تحولوا تلقائيا الى امة يسودها العدل الاجتماعي ولا يعرف فيها نظام الطبقات، الى امة تكره التفرقة العنصرية وتكره اخلاق الكبرياء والترفع على الشعوب.

فبدأت بذلك تختفي الاثار الفكرية والنفسية لآداب الفرس، ولفلسفة الروم، لأن القرآن الكريم جاء بجديد، حيث حول الكلام والتوجيه من تجريدات ذهنية نظرية جدلية (كما يفعل الرومان والفرس واليونان)، الى منطق ملاحظة واستقراء، ومنطق وعي الكون واحترامه والتعرف على سننه ومشروعية التعامل معه لعمارة الأرض وبناء الحضارة.

من آثار هجر القرآن: 

عندما هجرت الامه الاسلامية كتابها، او على الاقل اخذت تقرأه على انه تراتيل دينية، فإنها فقدت صلتها بالكون، وكانت النتيجة: أن الذين درسوا الكون خدموا به الكفر، واستطاعوا أن يسخروه لأنفسهم ومبادئهم، وإلحادهم ووثنيتهم. أما نحن تركنا وعي المعاني، وإدراك الاحكام والتحقق بالعاطفة المناسبة من خلال تشرب معاني القرآن، فقد اختفى من نفوسنا.

العودة الى القرآن:

يرى الغزالي بضرورة العودة لدراسة القرآن، وتلاوة القرآن مطلوبة، والتعبد بتلاوة القرآن كان لاستبقاء الوحي الذي صانه الله في الإسلام، بينما ضاع الوحي القديم بالإهمال، والتداخل مع التراجم، وبأشياء كثيرة. نحن أمرنا ان نتلو القرآن، ولكن يستحيل فصل المعنى عن المبنى.

القرآن يتحدث عن ان التلاوة هي اساس التوكل، واساس التوجه واساس صنع النفس البشرية. ولكن، القرآن يكلم الرجال ليعيد صياغتهم، ويكلم الأحياء ليحقق استجابتهم، ويكلم العقلاء ليوجه وعيهم، فيجعل منهم أمة تحمل رسالتها، وفعلت حملت الامه رسالتها لأنها فهمت المقصود من إرسال المعجزة الاخيرة، وأدركت أبعادها، وتدبرت مقاصدها: معجزه انسانية تتصل بإحياء المواهب الإنسانية، وتفجير الطاقة البشرية لهذا الخلق، وإعادة بناء وتشكيل العقل الإنساني.

 تقنيات الحفظ وضرورة استمرار التواتر في المشافهة:

اليوم ومع التقنيات الحديثة، أصبح الاعتماد على الذاكرة محدودا، حيث تقوم تلك التقنيات مقام الذاكرة. اليوم وقد وجد القرآن مسجلا، فقد تكون الحاجة الى حفظ الذاكرة تراجعت، واصبحت الحاجة الى المدارسة والتدبر هي الاكثر أهمية، على الرغم مما في الحفظ من أبعاد تبقى مطلوبة لأكثر من أمر من مثل: تكوين المرجعية للطفل وانطباعه بأسلوب القرآن وكلماته وتكوين ملكته اللغوية إلى جانب استمرار تواتر المشافهة وضرورة استحضار الآيات في الأداء العبادي، وان كان الحضور القرآني في النفس الإنسانية سوف لا يغني عنه شيء من تقنيات الحفظ. وبكل الحالات لا بد من استمرار التواتر القرآني، وهذا جزء من رسالة الأمة الإسلامية.

ما يريده الغزالي هو طرح الموضوع من جديد وأن يعاد النظر في أسلوب الحفظ وتوصيل القرآن إلى الأجيال القادمة، فالأمر يحتاج إلى مدارسة وطريقة تربوية تجعلنا نستجيش المعاني، ونحيا بها ولها، ولا نكون أشرطة تسجيل وكل ما لديها أنها تستوعب الألفاظ، وانتهى الامر.

دور المناهج التراثية في فهم القرآن والتعامل معه:

هناك مدارس في التفسير، أو –بمعنى أدق- مناهج متعددة في فهم القرآن، تشكل بمجموعها طرائق السلف ومسالكهم في التناول والفهم، ولقد جاءت هذه المدارس في ضوء تحقيق أهداف بلاغية لغوية أو فقهية أو كلامية أو صوفية أو فلسفية أو تربوية… الخ.

المدارس الكبرى في التاريخ الثقافي للفكر الإسلامي، تلاشى أكثرها.. هناك الآن مدرسة المحدثين، وهي مدرسة تكافح باسم السلف، لكن قصرت مهمتها وحصرت اهتمامها بعلوم السنة فقط بعيدا عن الرؤية الشمولية لقيم الإسلام وعطائه الحضاري. هناك مدرسة الفقهاء، وهي مدرسة اقتصرت على فقه العبادات وما اليه، وجعلت منه إطارا لنشاطها العقلي، وقلما انخلعت بعيدا عنه وإذا تجاوزته فإلى معاملات الأسواق العادية.

وهناك منهج الأصوليين أو مدرسة الاصوليين، وهي مدرسة فيها دقة وضبط للنظر واستنباط الأحكام. إلا ان علم الاصول أصبح على يد المتأخرين علما مضحكا يتصف بالآتي: الخلاصة، التلخيص، الملخص، المتن، الشرح، الحاشية.

وهناك منهج المتصوفة، او المدرسة المتصوفة، وهي مدرسه تشينها الخرافة، لأنها اعتمدت على خطرات القلوب بعيدا عن الضوابط الشرعية واللغوية وانتهت الى صوره من الإرجاء والجبرية ادت الى الانسحاب من المعركة الاجتماعية. ولكن يزينها انها بحثت في الاخلاق وتهذيب النفس وحسن الصلة بالله، ولا بد منا عادة النظر في منهجها ووسائلها وضبطها بضوابط الشريعة.

وهناك منهج الفلاسفة، او مدرسه الفلاسفة، ومن رجالها الاكابر الغزالي وابن رشد. ويجب النظر الى هذه المدرسة من خلال ظرفها التاريخي والمشكلات والتحديات التي واجهت الفكر الاسلامي في حينها. اما النظر اليها بعد ان انتهت الي تجريدات ذهنية بعيده عن الواقع قد يكون فيه تجنّي.

لكي تنتعش الثقافة الإسلامية يجب ان تعود هذه المدارس بصياغة جديده تستمد تصوراتها من القرآن والسنة وتكون واقعية، متبنيه المنهج العملي الواقعي بعيدا عن التجريدات الذهنية والمنطق المجرد.

ولا بد ايضا ان تعود مدرسة الادب والمدرسة العلمية الني دفنت منذ ابن الهيثم وجابر ابن حيان. فالثقافة الإسلامية اليوم توقفت عند الحدود التي جمدت عندها مدارس الفكر الإسلامي. 

: شمول الرؤية القرآنية

المحاور التي يقوم عليها القرآن ليست مقسمة على اساس ان المحاور المختلفة تنتمي الى تبعيات معينة. ولكن نحن بجهدنا العقلي، نجيء لآية او طائفة من الآيات يمكن ان تكون في قضية واحده، فنرى ان هذه القضية تماسكت الآيات فيها على عده محاور من كلام الله، والكون، والجزاء والنفس البشرية، والايمان، والاخلاق، تماسكا غريبا لا يعرف الا في هذا القرآن.

فهذا يدل على ان التصور الحضاري للقرآن فيه بناء للامة. ويفتح ابصارها على الكون، ويمنحها الرؤية المتميزة التي تمكنها من الشهود الحضاري على مختلف الأصعدة.

اهمية النظر في الآيات الكونية:

القرآن يمنح المسلم رؤية كاملة ومنهجا متماسكا يجعل من الحياة خطوطا متوازية لا تصطدم مهما امتد الزمن، فتجعل العلم مع الايمان، او تجعل ما وراء المادة مع المادة، او تجعل السرائر الباطنة مع المشاعر الحسية، لا فواصل بينها.

الحضارة الغربية، اصبحت في نظرتها الى الحياة والكون، واكتشافها لسننه واسراره، أقرب لان تتكلم في كتابنا منا. فمشكلتهم ان القرآن لم يصل إليهم، فظنوا ان الدين عائق للحركة وعن النظرة المنطلقة، وربما لان الصورة المجسدة امامهم هي صوره معوقة.

التكلف في التعامل مع القرآن:

الكون هو الكون، والفطرة هي الفطرة، فانا لا أبدل شيئا من هذا. انا فقط اتجاوب معه. اريد ان يعرف الدين على هذا المعنى القرآني السليم، ولا ان يفهم من خلال تقاليد الرهبان التي اعتبرها القرآن ضد عن سبيل الل.ه

فالتصوف مثلا، كان ممكن ان يقدم للبشرية بديلا مقنعا بعلم نفس جديد. وذلك من تعريف عظمه الخالق عندما فطر النفس وخلق الانسان من طين ونفخ فيه الروح.

التقريب بين الدراسة القرآنية وبين ما وصلت اليه الإنسانية وحضارتها، يحتاج منا الى ان نتخلع قليلا عن بعض مواريثنا القديمة التي ليست من ثوابت الدين وقيمه الاصيلة والإفادة من الحضارة الحديثة وما وصلت إليه من ناحية وسائل فهم الكون، ومن ناحية مردود النظر في النفس الانسانية، واعتماد كثير منها بعد ضبطها بمبادئ الاسلام ومقاصده الكلية.

أبعاد المنهج المطلوب: 

المناهج المختلفة من المدارس المتعددة لم تحقق الفقه المطلوب لآيات الله وسننه بالأنفس والافاق، ولم تغن العقل المسلم اليوم بالرؤية الشاملة من خلال الواقع والظروف التي نعيشها، والتوقف والجمود الذي لحق بالعقل وغيبه عن ساحة الشهود الحضاري.

نحن الآن بحاجه الى منهج للتحقق بالرؤية الشاملة، الموضوعية وليس الموضعية.

الامر المطروح هو: 

كيف نفيد المناهج القائمة في العودة الى النبع الأصلي القرآني، وهل هذا الميراث المنهجي ملزم لنا، وهو لا يخرج عن كونه اجتهادا حقق أبعادا طيبة في تحقيق الرؤية القرآنية؟ وهل يجوز لنا أن نقفز ونتعامل مباشرة مع النص؟ وما هي وسائلنا الامنية لمثل هذا التعامل؟ 

ان هناك مناهج نقلناها من أصلها الاول ومجالها الى علوم اخرى، فأفسدناه. نحن نحفظ أن الإسناد من الدين، ولولاه لقال من شاء ما شاء.. وهذا حق. فان اتي بسند ديني لما اقول، فهذا مطلوب. ولكن تحول مجال الأدب ومجالات أخرى إلى روايات: هذا لا معنى له. لقد وجدنا مرويات كثيرة حتى أصبحت الثقافة عندنا وكأنها ثقافة نقول. الأدب عندنا توقف بسبب أشياء وحاضرة من هذا النوع. ممكن جدا أن يعود إلى وصف الطبيعة، ووصف النفس البشرية بعيدا عن النقول التي تجعل كتب الادب كتب مرويات وهذه واحده.

الشيء الثاني هو أن آيات الأحكام، إذا ما قيست بالآيات الأخرى نجدها أنها أقل الآيات عددا. فالقصص القرآني يسوق قصة كاملة من خمس أو ست صفحات ليخلص في النهاية إلى تربية نفس معينة. فالقول بأن منهج دراسة الأحكام ينقل ليصبح منهجا لدراسة الأخلاق ودراسة التربية فهذا غير صحيح لأن كل منهج له ضوابط، ولكل مقصد طبيعته وخصائصه. فالأحكام: هل هي عامه؟ هل هي خاصة؟ هل هي مطلقة؟ هل هي مقيده؟

ولكن عندما ادرس الاخلاق مثلا، او التربية، او قصص الامم، او الكونيات وما يتصل بها، فما علاقة ذلك بهذا المنهج؟

لقد تقلصت في ثقافتنا الإسلامية الرؤية القرآنية الشاملة، واختزلت المحاور والمقاصد، وأصبحت المصادر الإسلامية تقرأ على انها فقه. السيرة تقرأ على أنها فقه، السنة كذلك، والقرآن على انه فقه.. ولا أقصد بالفقه هنا: المعنى العام الذي يعني فقه الحياة كما ورد في القرآن، وإنما الفقه الذي انتهى إليه المعنى الاصطلاحي وهو: استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية.

المنهج الأصولي مطلوب، لتحديد المفاهيم وضبط المعاني، خصوصا فيما يتصل بالدين والأحكام الشرعية والقانون. ولكن العقل القانوني يتطلب أدوات ووسائل، ويهدف إلى مقاصد غير العقل الفلسفي. والعقل الفلسفي غير العقل العلمي الجديد الذي تعتمد وسائله على التجربة والملاحظة والاستقراء والإحصاءات والاختبارات، والاعتبار بذلك كله للوصول إلى الحقيقة العلمية المطردة.. كل أفق له وسائله الخاصة به.. وقد تعددت الثقافة الإنسانية وتشعبت الاختصاصات التي تبحث الآن عن الكون، وعن الانسان، واصبحت العلوم الإنسانية الآن: علم نفس، الاجتماع، الاقتصاد، السياسة، الاخلاق، التربية، الجمال، التاريخ.. ولكل علم منهجه وطرائقه ومقاصده.

المشكلة أن العقل المسلم توقف عن النمو في هذه المجالات “–لعدة أسباب:– مع أن موضوع القرآن هو الإنسان، ومحل آيات الله هو الكون، ولا بد للإنسان من التدبر في القرآن، والتعرف على سنن الكون وقوانينه التي لا يتحقق بدون إدراكها تعمير الأرض.. لكن عصور الانحطاط والتخلف والتقليد، اوقعت المسلمين في عجز الرؤية وجزئية النظرة وأصبح الفقه يعني: استنباط الأحكام التشريعية والدوران في فلك اجتهاد السابقين، شرحا واختصارا.. اما ما وراء ذلك فأصبح للتبرك وانحسرت الرؤية القرآنية الشاملة.

لذا علينا النظر الى الامور بنظره شمولية، فنتابع ونبحث ونتعرف على المنهج الذي يحقق الغاية والمقصد لكل علمك لأن تسخير العلم يعني اول ما يعني. اكتشاف قوانينه التي تمكن من التسخير. فنقل طريقة الفقهاء إلى علماء التربية او علماء النفس لا يمكن، فلكل علم منهجه الخاص.

الحاجة الى فهم السنن القرآنية: 

السنن الاجتماعية في القرآن هي القوانين المطردة والثابتة التي تشكل الى حد كبير ميكانيكية الحركة الاجتماعية: حركة المجتمع، وتعين على فهمها، وكلمه “سنه” تعني القانون المطرد الذي لا يتخلف الا في قضايا السنن الخارقة. . اما السنن الجارية فلا تتخلف، وان كان لا يرى اطرادها واضحا وصارما كقوانين المادة.

فالمسلمون قد يكونوا بحاجه لهذه السنن، وفهمها للتعامل معها وتسخيرها للقيام بأمانه استخلاف وتعمير الارض، اشد من حاجتهم للحكم التشريعي الذي تضخم وتضخم حتى كاد يشمل الاسلام بأبعاده كلها، مع ان الحاجة اليه تأتي ثمره لإعمال هذه السنن.

فكيف يمكن الوصول بالمفكر المسلم لإدراك هذه السنن من القرآن الكريم والسنة، والتحقق بأبعادها لتصبح فقها تغييريا ومناخا تربويا يمكن أن تنشأ عليه الأجيال من خلال النظر في القرآن وتلاوته، مع الإفادة من التبصر في عمل هذه السنن في الأمم السابقة “ولن تجد لسنة الله تبديلا”.

الاثار المدمرة لتعطيل قانون السببية: 

وجد في الامه الاسلامية خطأ قديم، ولا تزال بعض اثاره باقية الى الان، وهو شيوع فلسفة الجبر، وهي فلسفه عطلت قانون السببية تعطيلا كاملا.

فالأمة الاسلامية لما غاب وعيها بهذه القوانين، ونسيت المعنى، اصبحت تتلقى الانتصارات والهزائم دون وعي ودون استفادة، ودون البحث في اسباب النصر وعوامل الهزيمة.

“فنحن لم نفهم سنن الله الكونية في الارض، حسب منطق التجربة والاستقراء والملاحظة، وهو المنطق القرآني الذي عرف من كتاب الله ومن تطبيقات النبوة. ولم نحسن الاستفادة من سنن الله في الحضارات والمجتمعات، وكانت النتيجة سقوط الامه في قبضات الاستعمار. ولم تنتبه ان المواجهة ليست فقط عسكريه وسياسيه، ولكن الخلل يكمن انهيار الفكر وعدم التبصر الذي يمكن الاستعمار. فالأمة لن تخرج من الشباك الا بقوانين مكتوبه عندها في الوحي النازل عليها، يجب ان تدرسه، وبالتالي، يجب ان تعيد حساباتها عن ماضيها بعد ان تعرضت للاضمحلال والانحلال عندما فرط في سنن الله الكونية والاجتماعية.”

السنن القرآنية من الادراك الى التسخير: 

قضية إدراك السنن هي الحقيقة التي يجب ان تبقى المدارسة حولها. أصبحنا نسمع بضرورة الإفاضة من هذه السنن، ولكن هناك قيود التقليد الاجتهادي من ترسيبات الماضي التي لا تزال مسيطرة. فالكل متفق على ان القران عرض لسنن وعوامل نهوض الامم وسقوطها، وفيه سنن لا تخطيء ولا تحابي … ولكن، إدراك هذه السنن وحسن تسخيرها والتعامل معها، وكيف يمكن للامه بواقعها الحالي ان تنتقل من موقع المعرفة الى موقع الفعل؟

فالتحول واعمال هذه السنن هو المختبر الحقيقي لإدراكها والقناعة بها، ولكن هذه القضية لم تشكل مناخا عاما يعشه المجتمع او لم تحفر بعد في واقع الامه المجرى المطلوب لسيرورتها.

ولكن ان تدبرنا الآيات، نقلناها الى حقول الممارسة على الاقل، او الى ميادين السلوك لنعرف كيف نعمل هذه الآية فيما نعاني منه وفيما نواجهه.

تصويب مناهج الفكر ووسائل التلقي: 

إذا تأملنا ملامح الظاهرة الثقافية التي عليها المسلمون اليوم بعمومهم، نجد ان هناك خللا في تلقي القرآن الكريم، خللا في التعامل مع هذا القرآن. هذا الخلل يعود الى طريقة التدريس، الى مناهج التربية، الى مناهج التعليم، الى مؤسسات تحفيظ القرآن نفسها.. يشارك في هذا الخلل مؤسسات كثيره عامله في بناء الشخصية. 

فاذا اخذنا بسنة السببية. وهي دليل الوحي عندنا، والتي كان اهمالها من اهم اسباب التخلف في مجال الدنيا واعمارها، والتواكل في مجال الدين والسلوك، لو اعملنا هذه السنة، نستطيع ان نحدد موطن الخلل في نظامنا التعليمي، وفي التعامل مع القرآن الذي هو منبع ثقافتنا الاصلي الذي أحدث الظواهر هذه. فتغيير التعامل مع القرآن، يجب ان يبدأ في اصلاح الخلل في مناهج التلقي، ووسائط التوصيل، واعادة بناء العقل على منهج فكري واضح نستطيع به تغيير التعامل مع القرآن

موطن الخلل: 

الخلل واقع في المؤسسات الموكول إليها عملية الإشراف على التربية والتعليم من مناهج وكتاب ومدرس ووسائل معينة. انها لم تستطع ان تكون أداة توصيل صحيحة بين الجيل وبين القرآن ومواريثه الثقافية. فصار هناك توارث للتخلف والمرض. فالمشكلة قد تكون في المؤسسات المنوط بها الان تفهيم ويصال القرآن للجيل.

فاذا كان هناك في جامعاتنا (الأزهر وغيره) من لا يزالون يقرءون القرآن قراءة ذات فهم موضعي محدود للنص – وليس موضوعيا- دون ان يعملوا هذا النص فيما نزل من أجله، وفيما انزل على محمد صلى الله عليه وسلم.

فبدل ان تنقل النص في افتتاح مدرسه عسكريه، يجب ان يكون القرآن هو الذي انشآ المدرسة، وأودع روح القتال في ابنائه. يجب ان يكون البناء التربوي والاعداد العملي والتخطيط الاقتصادي والعسكري مبنيا على ان الادوات تجمع، والأجهزة تحشد، ورباط الخيل الجديدة –الدبابات وغيرها –تعد. كل شيء يعد.. هذا هو معنى الجهاد، وفهم الجهاد من القرآن الكريم.

“ان الخلل العقلي في فهم القرآن، فهما عمليا كما توحي به الطبيعة السهلة التي لا تكلف فيها بين الناس، فقدناه من مده طويله. ويجب على المعاهد التي تكون الدعاة والتي تكون العلماء ان تستنقذ الامة من الورطة التي وقعت فيها.”

فلا بد من “الاحسان” بالقرآن. (حديث لا يركب البحر الا حاج او معتمر او غاز في سبيل الله) مثلا حديث مرفوض.. كأن الامه لم يكفها اهنا قصرت في فهم العمل حتى تريد إفساد المصدر الذي تأخذ منه المعرفة الدينية. وكم من اعتماد موضوعات في السنن النبوية سببت البلاء للأمة الاسلامية على هذا النحو.

التعامل مع النصوص من خلال واقع التخلف:

قد تكون المشكلة الفكرية اليوم هي اننا نحمل تخلفنا ايضا لمواردنا الثقافية، فنفسر ميراثنا الثقافي من خلال واقع التخلف الذي نعيش فيه، فنصير نلجأ الى لون من التفسير المتخلف ايضا. كنوع من التسويغ للواقع الذي نحن عليه. فننتقي بعض النصوص، ونعتمد الاخر، وما الى ذلك، دون النظر الى صحتها من حيث السند، أو الى الابعاد المطلوب إدراكها، استشعار المسئولية تجاهها، هذا لأنها توافق الحالة التي نحن فيها، وكأن هذه النصوص بدل ان تكون دافعا للتغيير اصبحت مانعا منه، تقرأ بمنهج مغلوط يكرس تخلف الأمة وسقوطها.

لا بد من جعل القرآن يتحول في حياتنا الى طاقة متحركة.. اما ان يوضع بالمتاحف او المكاتب للبركة، او ان نفتح المصحف ونقرأ منه آية او آيات وينتهي الامر.. هذا لا يجوز.

مما لا شك فيه ان آيات الاحكام كانت من وراء جهد الفقهاء في بعض القضايا وبعض الاجتهادات الفقهية. لكن بقية الآيات اهملت (آيات القصص)، والقصص القرآني فيه الكثير من العلاج.

انقلاب الوسائل الى غايات: 

ان من كتبوا في القصص القرآني غلي عليهم إبراز الجانب الفني، وأخذوا بالناحية البلاغية حتى كادت تكون هي الهدف في أعمالهم، مع انها ويلة واداة التوصيل القالب الفني الذي يغري الانسان بالإقبال على القرآن وفهم أبعاد الآيات، لذلك فقد تكون المشكلة او الاصابة في التعامل مع القرآن في: انقلاب الوسائل الى غايات. لقد غابت الاهداف والمقاصد وتركز الاشتغال بالوسائل والاشكال. وغاب من القصص الشهود الحضاري التاريخي الذي لا بد من استصحابه للعبرة وتحقيق الشهود الحضاري للامه المسلمة. فأصبح المطلوب التذوق وتدبر الكلمات هو الغاية مما ادى الي الوضع القائم والذي يشكل معوق بين المسلم وكتابه الخالد.

القصص في القرآن هي اساس التربية، لا التربية النفسية فقط بل العقلية ايضا. العقل الانساني يجب ان يحرر من قيود الوراثة المخرفة، وان يكون قادرا على الحركة بل ان القرآن يهدف الى بناء او انشاء عقل تجريبي”.

لا بد من النظر في كل محور من المحاور التي دار عليها القرآن لنعرف كيف أخطأ القدامى، في بعض ما ذهبوا اليه في عصور الجمود والتخلف، او كيف وقف اباؤنا ولماذا؟ لقد ظلمنا القرآن بسوء التعامل معه ويجب ان نحسن التعامل معه كما صنع اسلافنا الاولون. فالمصلحون الكبار هم الذين يبدؤون من العدم. 

فهؤلاء استطاعوا ان يكتشفوا موطن الخلل فيصلحوه ويكتشفوا القابليات فيوظفوها ويثيروها ويشحذوا فاعليتها.

نحن بحاجه الى تجديد، والتجديد هو انه قد يضطر القائد مثلا الي ان يستحدث اساليب لا وجود لها من المقررات التي عنده. فمثلا القياس، القياس الة تجيء بأشياء كثيرة مع التطبيق المستمر.

الفقه بين دلاله القرآن واصلاح الفقهاء: 

قد تكون المشكلة من وجه اخر، ان معظم العلماء المسلمين، تاريخيا وبسبب الظروف السياسية التي ادت الى انفصالهم عن الواقع ومتطلباته، صرفوا جهودهم كلها في استنباط الحكم التشريعي من الآيات دون الوقوف عند الاهداف الكثيرة الاخرى التي جاءت الآية من اجلها. فجعلوا الآيات موضوع الدراسة هي آيات الاحكان التي وضعوا لها اعدادا متقاربه (٣٠٠ـ-٥٠٠). اما ما وراء ذلك من آيات السنن والقوانين والشروط التي قد تكون أكثر اهميه واولى بالنظر من حيث البناء الحضاري، وشروط القيام بأعباء الاستخلاف الانساني، فلم يعيروها أدنى اهتمام. وبقيت الآيات الاخرى تتلى على التبرك، الى درجه وصل عند البعض وكآن القرآن أصبح كتابا لفقه آيات الاحكام فقط. حتى الآيات التي وردت لتبين اسباب سقوط الامم السابقة وعللها، جعلوها دليلا لصحه القياس التشريعي.

لقد أصبح كل شيء يفسر من خلال الحكم التشريعي، وتقدم الفقه التشريعي حتى أصبح تجريدا ذهنيا جامدا بعيدا عن واقع الامه غير قادر على قيادة حركه الحياة والاحياء. وهو انقلاب الوسائل الى غايات. فلقد غلبت الالية الى درجه كادت تغيب معها مقاصد الشريعة، مما ادى الى تحديد المفاهيم والابعاد الاخرى بالقرآن.

لذا بات لا يرى كثير من المسلمين اليوم في تطبيق الشريعة الا تطبيق الاحكام الفقهية: تطبيق الحدود، وتحريم المصارف الربوية، بينما يصعب عليهم إبصار بقية جوانب الحياة الأخرى من خلال المناخ الثقافي الاسلامي الذي نعاني منه.

انفصال العلم عن الحكم:

مما لا شك فيه ان الفقه الاسلامي تأثر بانحراف الحكم في العالم الاسلامي، فكانت الخلافة الراشدة تمثل الاسلام تمثيلا هو الاقرب الى عهد النبوة. ثم حدث تحول الخلافة الي ملك. في النظام الملكي الذي اقامه معاوية. فهنا حدث تحول بيقين في قضايا اسلاميه مهمه وبدأ يتجمد الفقه السياسي والدستوري للدولة، كما تجمد فقه العلاقات الاقتصادية والمالية. والدولية كذلك.

هنا نجد الئمه الذين قادوا الامه علميا، ابو حنيفة ومالك والشافعي..، وهم فقهاء التزموا ناحية فروع الفقه. كما التزم المحدثون رواية السنن. وغلب عليهم الرغبة بعدم الاصطدام بالنظام القائم. فاستفاضوا بشرح العبادات والمعاملات على النحو الذي وصل الينا.

في العصر العباسي، انهزمت الشورى انهزاما واضحا، وتأثرت السياسة الإسلامية تأثرا واضحا بتبني الملوك المعارف التي لا تصطدم بوجودهم، ولا بأحوالهم الاقتصادية التي تحيط بهم او تحرس سلطتهم. ومن خرج عن هذا اما تصوف وابتعث، اما عاش يتحمل الأذى.

لذا فان العلم المستمد من القرآن والسنه الصحيحة، انفصل عن الحكم من عصر مبكر ونكمش وأصبح تعليقا مرا ولاذعا عند شخصا كالحسن البصري مثلا.

فهذا ادي الى انفصال أخو، فانقسم العلم الاسلامي بين فقهاء ومتصوفة. فوجد فقهاء يتعاملون بالمعاملات وظواهر العبادات، ووجد مربون يشتغلون بالأخلاق والتربية. فالنتيجة كانت فقدان الروحانية بفريق وفقدان العلم من الفريق الاخر.

اختلال في العلم الديني: 

وهو العكوف على القرآن دون بيان السنن، او العكس. فانضم الى السنة حشد هائل من الموضوعات والواهيات وسببت البلبلة في الفكر الاسلامي. وانتهي الي تجريدات ذهنية تكاد تضيع مقاصد الشريعة، مما دفع بعض الفقهاء للتحول عن القياس الى الاستحسان ولان تطبيق القياس بشكل الي قد يذهب بالمقصد.

فالاستحسان كما تقول الحنفية، ليس اتباعا للهوى وانما هو نقل الحكم من ملحظ الى ملحظ اخر. 

اما القصص القرآني، فلقد انتقل من دراسة تاريخيه لقيام الحضارات وانهيارها الى دراسة روائية ليس فيها حس بسنن الله الكونية اطلاقا. مما اوجد مكانا واسعا للإسرائيليات. 

والقصص بالمعني الخرافي انتشر في الامة الاسلامية ومس السنة بسوء.

التفسير القرآني ابتعد ايضا عن روح القرآن ومقاصده، فالمحاور القرآنية بشكل عام لم تجد من يتبناها ويمشي مع افاقها لكي يحققها في الحياة. فتغلب الاسلوب الفقهي عليه انواع البحث التي كان يجب ان تبتكر في الميادين الأخرى.

الفقه الحضاري: 

كلمه فقه تعني أكثر بكثير من المدلول الذي حدده الفقهاء بانه هو استنباط الاحكام الشرعية من ادلتها التفصيلية.

فعمليه الفقه استخدمت في القرآن لمعنى اوسع بكثير من المعنى الاصطلاحي الفقهي. انه الفقه الحضاري بكل ما تشكل كلمه حضارة من ابعاد.

الفقه هنا هو معرفه مستقر النفس الإنسانية قبل ان توجد وهي في الرحم. نحن حريصون على ان تبقى الامه امه امية.

القرآن فتح النوافذ أمام النظر العقلي: 

الواضح ان الاسلام إطلاق للعقل لا حجر عليه، وإعمال له لا تعطيل لوظائفه، فقد جاء القرآن دعوة الى قراءة كتاب الكون، وتأمل أسراره وسننه وحث الفرد على التأمل داخل نفسه وخارجها للوصول إلى تعاون أفضل مع بني جنسه وفهم اتم لوحدات الكون وطبيعة المادة.

ولكن: هناك دور مفقود للعلوم الاجتماعية والإنسانية علينا معرفه الاسباب التي ادت بنا الى هذا الواقع، والتي لا تزال اسبابه ممتدة. فكثير من العلماء والمؤسسات الشرعية، وعلماء الدين، والدارسين، يجدون الأسهل عليهم أن يتخصصوا بالفقه وأصوله، ويأخذوا مما كتبه الاقدمون ويختصروا، ويشرحوا، وما الى ذلك…كا التوجه الى القضية لأنها أصبحت هي الأسهل من ان ينظروا ويكتشفوا ويستنتجون في آفاق جديده تقوم على التأمل والنظر، وقد لا يحسنها الا النفر القليل، ويعزف عنها الكثير، فيزداد التخلف والتراكم، ويزداد الامتداد في قضية كان امتدادها في الاصل غير طبيعي.. وتتضاءل فرص الابداع، وتغيب شروط النهوض.

أكتفي بهذا التلخيص، وانهيه بتساؤل يطرحه الغزالي ويحاول الاجابة عليه.

لماذا كان الامتداد في القضية الفقهية فقط، وأهملت بقية القضايا القرآنية في الكتاب والسنه؟

يقول: الذي اشعر به من قديم: ان فساد الحكم في العالم الاسلامي له جذور ضاربة في التاريخ، وأن سطوة الحكم الفردي كان من وراء، لا أقول ضمور الدراسات القرآنية بل من وراء ضمور الفقه نفسه.. فالفقه تضخم حيث يجب أن يكون ضعيفا. الفقه الدستوري هو الذي جعل الاوروبيين يبحثون عن العقد الاجتماعي بين الحاكم والمحكوم، هذا الكلام يكاد يكون ميتا عندنا بعد الخلافة الراشدة لأن سطوة الحكم هي التي ألجمت الأفواه، وجعلت الكلام في فقه العبادات يبدئ ويعيد، وجعلت الكلام في كل ما يبعد عن الحاكم.

فالفقه عندنا تحول إلى نطاق الفقه الفردي، وغاب الفقه المؤسسي بأبعاده المطلوبة، والدولة هي مؤسسة المؤسسات.

إنها سطوة الحكم …لا شك ان سطوة الحكم كان لها أساس في إفساد الفكر.

 

المرجع: 

 كيف نتعامل مع القرآن

محمد الغزالي

في مدارسة أجراها الأستاذ عمر عبيد حسنه

نهضة مصر للطباعة والتوزيع والنشر. تاريخ النشر: ٧\٢٠٠٥

 

 

 

 

 

 

 

 

اترك رد

اكتشاف المزيد من نادية حرحش

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading