تخطى إلى المحتوى

بين الأمس واليوم …تبكي الحجارة تكرار تاريخ يتغير فيه الشخوص ويبقى الجهل فيه سيد الموقف

بين الأمس واليوم …تبكي الحجارة تكرار تاريخ يتغير فيه الشخوص ويبقى الجهل فيه سيد الموقف

(بين مذكرات سيرين الحسيني وحسين فخري الخالدي)

هناك منطقة استفزازية ما للكتابة بعد قراءات من نوع ما . قراآت تثير الاستفزاز فينا لتويثق آخر . لتأكيد فكرة او حقيقة ما . للمشاركة ، للدعم .او عندما تأتي الكلمات لتكون تجسيد لواقع نحياه، نتدبره، نعرفه، ولكن لا ندركه … كانت مذكرات سيرين الحسيني شهيد هكذا. وكأنها دخلت عبر كلماتها داخل وجدان لمشاعر موجودة غير محكية . كمرآة لحياة مقدسية بوعينا كانت ، ولكن كثر المصاب شوهها وحاول طمسها ومحو ما كان من معالمها . كم نحتاج في واقعنا الفلسطيني لتذكير عميق يجسد واقع حقيقي بشهادات اصحابها بوعي كامل متزن جميل. كم نحتاج لأن نعرف ما راكمه علينا الزمن فنسينا انفسنا ولا نزال نتوه في البحث عن هوية لنا ، لم نعد نعرف ان كان موجودا ام كانت كما هي اليوم كالسراب نبحث عنه في حمى العطش ولا نكاد نروى ظمأنا حتى نبحث ما يرويه من جديد.

قلبت صفحات الكتاب بين قراءة متفحصة ومراجعة لأسماء واماكن ومواقف وكأني اتلهث عطشا . فلقد اعادت لي هذه المذكرات عبر عبق كلماتها تجسيدا انسانيا كاملا لكل تلك الاماكن المحيطة بنا من تاريخ عشناه فعلا الى تاريخ يتم تشويهه امام اعيننا حتى لم نعد نحن اصحابه نعي صحيحه من وهمه.

وكأن في هكذا تأريخ إعادة حياة للأماكن ، للشوارع ، للأزقة ، للبنايات ، حتى ول تغير على هذه الأماكن الانسان . شهادة يبقي عليها الحجر حتى ولو مر عنها انسان تلو انسان .

ولا تزال القراءة في أصول الانسان الفلسطيني الذي كان ابن المكان ليصبح لاجيء ومشرد ويستمر بالحياة على طرقات التاريخ وخريطته من منفى الى ملجأ الى مخيم او الى الارتقاء بمواطنة في مكان يقبله مع حلم دائم الى وطن لا يزال يحلم برجوعه . فالمفتاح ولقد تغير قفله لا يزال الحجر يحن الى عبق صاحبه فيه .

خرجت من قراءة كانت بطولاتها أحلام طفلة وطموحات صبية وحنين امرأة إلى حب لا يملؤه الا قلب الوطن مهما اتسع المهجر، الى الواقع الذي نحياه من قصص اللاجئين اليوم في سوريا وقسوة البحر عليهم او رأفة بهم لا افهم .

الا وان هذه المناظر التي نراها يوميا مما يفجع القلوب ويدمي العيون من شتات وضياع وهروب ولجوء الى لا معلوم أظلم من الموت ربما ،تؤكد على حجم الفاجعة التي حولت شعبنا الي شعب منكوب . تلك المناظر القديمة منذ ١٩٤٨ لحشود النازحين والفارين من الهجوم الصهيوني وويلاته لم تحمل الكثير مما كان بين تلك الحقائق المريبة . أذكر قصة صديق للعائلة فرت عائلته الى غزة ولا زلت لا اعرف تفاصيل فاجعة العائلة التي فقدت احد ابنائها في الطرق ما بين الصحراء والبحر . كم من قصص نكب اصحابها ولم توثقها الكاميرات كما توثقها اليوم . كم من طفل رماه البحر الى الشاطىء وكم من ضحية بلعتها البحار لأعماقها؟

ودخلت الى “مذكرات د. حسين فخري الخالدي” تحت عنوان “ومضى عهد المجاملات” ، لتدق على حقيقتنا اليوم التي يفسرها ماضينا الذي ومنذ النكبة لم يتغير. استمرت النكبة ولم يتغير حال الانسان الفلسطيني . كنت بالسابق استشهد بقراءة للمفكر المصري احمد أمين في مذكراته “حياتي” عندما وصف الحال العربي لدى زيارة قام بها بأرجاء المشرق في الثلاثينيات حين كتب :

فلسطين وسوريا والعراق ولبنان, كلها بلاد تتقارب في الحياة الاجتماعية تتقف على درجات من سلم واحد. فكلها تتوزع مزايا الشرق وعيوبه. هذه مصر تتقدم الجميع في مظاهر المدنية،الحضارة ،الثروة. وهذه لبنان يمتاز بجد اهله ونشاطهم وثقافتهم وتقدم المرأة عندهم,وهذه الشام تمتاز بالنشاط والنجاح التجاري الذي عرف فيهم من عهد الاراميين. وهذا العراق يشعر بثقل الدين القديم,فينهض أهله ,وهاصة شبانه بتأسيس نهضة جديدة تشتغل فيها موارد البلاد وتتخذ بعد ذلك أساسا للنهضة العلمية والاقتصادية ,وكل البلاد معيبة بالبطء الحكومي في تصريف الشئون وضعف الابتكار ووالحاجة الى الاجنبي النزيه في رسم خطط للاصلاح الاقتصادي والاجتماعي,وكلها معيبة في نظام الحكم وعدم رعاية حقوق الشعب ,وقلة شعور الشعب بحقوقه وواجباته وان اختلفت درجاتها في ذلك.ولكل امة من هؤلاء مشاكلها. فمشكلة لبنان انقسام اهله الى مسلمين ومسيحيين, واختلاف نزعاتهم بين ميل لفرنسا وكره لها. ومشكلة فلسطين بانقسام بين زعمائه وأحزابه على الغلبة والرئاسة,مع ان الصهيونية تنخر في عظامهم. ومشكلة العراق تقسم اهله بين سنيه وشيعه,وبدو وحضر”.

وانظر الى حالنا اليوم وافكر هل كان الرجل سابق لعصره عظيم الحكمة ليصف حالنا الماضي وكأنه يصفه اليوم ؟

الا انني لم البث اقلب بالصفحات الاولى من “ومضى عهد المجاملات” حتى اصبت بحالة لا استطيع الا ان اصفها بالمفجعة . فمن غير المعقول ان نكون هكذا منذ الازل ولم نتقدم خطوة واحدة للتقدم او التغير . كيف تكون مشكلة فلسطين الماضية هي مشكلتها اليوم ولا نزال نراوح في اماكننا والعالم كله يتغير ويتحرك امامنا . حتى اللجوء اعاد نفسه في اجساد السوريين وغيرهم من مساكين العرب.

الحال الفلسطيني الذي يغلله الاحتلال من جميع اتجاهاته ولا يزال الانقسام فيه سيد الموقف . فما الذي ممكن ان افكر فيه عندما تأتيني هذه العبارة في تقديم الكتاب عند الحديث عن فترة العشرينات: ” صحيح ان الحراك الشعبي لمقاومة الخطط الاستعمارية والاطماع الصهيونية في فلسطين بدأ مع بداية عهد الانتداب، ولكن مع الاسف، فان الجهل في تقييم حقيقة الاخطار وحب الوصول الى مراكز السلطة الوهمية حول الحركة الوطنية الصادقة الى منافسة بين الزعماء الفلسطينيين انفسهم . وتحول الحراك الشعبي في العشرينات من القرن الماضي الى منافسة بين من كانوا يتطلعون الى انتهاز الفرص للأخذ بنواصي الامور حتى وان دعا ذلك احيانا الى التودد الى سلطة الانتداب للحصول على رضاها وذلك لكي ينال هذا الفريق او ذاك بركتها، فيتوقف على الفريق الاخر،وهكذا ضاعت اكثر تلك السنوات في نزاعات حزبية بين حزب عائلة الحسيني وحزب عائلة النشاشيبي كما هو مدون في كتب التاريخ.” (أ.عاصم الخالدي) .هل يعقل اننا وبعد ما يقرب من القرن تقريبا ، واستفحال الصهيونية في ارضنا وعرضنا ،لا نزال في نفس المكان من الصراع الذي امتد من حيز صراع العائلات لصراع الاحزاب؟

وفي شهادة اخرى يقول : “اذكر انني في ١٩٦١ قابلت في السعودية المحامي الفلسطيني جمال حميد القاسم وهو من قرية لفتا…كان في الثلاثينيات من القرن الماضي يدرس الحقوق.تحدثنا طويلا وبأسى عن ما مر ببلدنا من احداث العشرينيات والثلاثينيات والاربعينيات من ذلك القرن الذي اصبحت احداثه تروى في كتب التاريخ،…قال لي جمال حميد عشنا تلك الايام وكأن المكائد الدولية والأخطار الحقيقية التي كانت تحيط ببلدنا لم تزد على كونها اوهام، وكأن حلها يكمن في انتصار حزب على الحزب الآخر.انشغل قادتنا بتلك النزاعات الحزبية السخيفة ، والانقسامات التي فرقت بين ابناء البلد وأنست الناس المخاطر الحقيقية فجعلتهم ينشغلوا بما كان يهتم به القادة المتنافسون، حتى ان الصحف المحلية ايضا انشغلت بخلافات احزاب العائلات فصارت تلك الخلافات حديث الناس الدائم في المجتمعات وكأن قضيتنا مع سلطة الانتداب ومع المهاجرين الجدد القادمين الى بلادنا من اوروبا قضية محلولة او انها قضية ثانوية ، وكأن وجودنا على ارض فلسطين لم يكن محفوفا بالمخاطر بل كان رهنا بانتصار فريق على اخر.”

وان كان التاريخ لا يعيد الارض الضائعة ، ويبقي الحجر شاهدا ، الا انه يستمر في اعادة نفسه بالبشر .

ويستمر المقدم في سرد ما في داخل المذكرات من آلام نتضرعها نفسها ، لرجل كان جسده يرتدي بزة المحارب ، وقلبه يتضرع للحفاظ على وطن يضيع ويكمل : ” من يقرآ مذكرات حسين فخري الخالدي يلمس في كل سطر مدى الأسي والالم اللذين كان يحس بهما وهو يكتب،فقد شهد قبل النكبة اسباب الفشل وعانى مرارة ما رآه من تقصير واهمال وجهل وانتهى الامر بالنتيجة المحتومة، تلك هي النكبة الكبرى التي كان سببها عدم الجدية وسوء التقدير لما كان يجري من حولنا في العالم ، الامر الذي جعل الامم الطامعة تتكالب علينا وتتصرف مستهترة بنا وكأنه لا وجود لنا على خريطة الشرق الاوسط.”

قد تكون هذه المذكرات من أقوى التأريخات التي دونت فيما تحاكيه وبحرقة مع وضعنا الحالي الفلسطيني والعربي في ظل انهيار متكامل . فما يجري من الاستحالة في انهياره حتى على اولئك الذين احتلوا هذا الوطن . فنحن لا نزال نقدم لهم انتصاراتهم امام انهزاماتنا الداخلية المتتالية .

فكما تصف الكاتبة الفلسطينية سلمى خضرا الجيوسي صوت الخالدي بالصوت الجهوري الذي يجيأنا من وراء القبر فيه تحذير ودعوة اطلقها صاحبها دون ان يلحق ما جرى من تتابعات للنكبة . “فمنذ نكبة فلسطين حدثت في العالم العربي احداث كبيرة من اهمها فشل العلاقة السليمة بين الحاكم والمحكوم وعجزنا ،عن الدخول الى العصر السياسي الحديث ،ومنها محاولة السلفية والفكر الرجعي والتقاليد الخارجة عن عصرنا وكنا تجاوزناها بالتدريج فيعبر امتداد القرن العشرين حتى ثمانيناته ،محاولتها العودة الى التحكم في الكثير من مناحي حياتنا وارجاعنا القهقري. ”

يقول الخالدي في سرده التاريخي : ” علينا ان نعلم ان فلسطين العزيزة لن تخلص بالكياسة السياسية ولا مؤتمرات هيئة الامم او لجان الوساطة والتوثيق والاستقصاء،كما انها لن تخلص بالدعوات الصالحات وقراءة الاوراد ودلائل الخيرات. بل بالقوة وحدها. والكلمة الاخيرة في الجولات الاتية من المعارك الفاصلة يجب ان تكون للفلسطينيين وحدهم في بادىء الامر قبل كل احد.”

“كتب حسين فخري الخالدي في عام ١٩٤٩ تفاصيل حياته الدقيقة ووثقها وكأنه يقول للأجيال القادمة :اللهم اني قد بلغت،اللهم فاشهد.”

اترك رد

اكتشاف المزيد من نادية حرحش

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading