تخطى إلى المحتوى

عراقي في باريس: قصة الحلم وسط التشرد

 http://www.raialyoum.com/?p=576175

عراقي في باريس

 

كم من الروايات توقفنا لنتدبر حالنا وأحوالنا ؟ عديدة بلا شك . ولكن كم منها تؤثر فينا لدرجة تصدمنا وكأنها تركلنا وبقوة الى الحائط المقابل. تؤثر بدواخلنا العميقة . تهز مخاوفنا الراكدة البعيدة منها والقريبة . تجعلنا نقف امام انفسنا متسائلين متفكرين . غاضبين مستائين . منحنيين بوضاعة واجلال مندمجين امام تجربة إنسانية تفوق مرارا ما يمكن لخيالنا العادي التقاطه وتحويله او تجسيده في أي حبكة مهما حاولنا التفاخر في صناعتها .

عراقي في باريس للروائي “المشرد” شموئيل شمعون.

رواية تقذف بما عهدته من إنسانية مدعاة في حياة الانسان العربي الى أقرب حاوية تجدها في طريقك.

الانسان العربي, تلك الحالة للإنسان العربي بدء بالعراق مرورا بسورية ولبنان والأردن واليمن وتونس ,وصولا الى ملجأ في شوارع باريس.

عراقي في باريس, رماني فأوقفني في مكانين لزمنين لا اعرف متى وكيف امسك بحبال الحقيقة فيهما وكذلك الإنسانية بفجاجتها. ماركيز بمئة عام من العزلة , ومحمد شكري بالخبز الحافي.

استحضر الكاتب المبدع بانسانية وحبكة تصويرية رائعة ترافقك طول فترة القراءة ليس فقط بشخوصها بل بتفاصيل المكان حتى تجد نفسك تشتم الروائح وعبق المكان والزمان. بين رحلة الكاتب الى حلمه بأن يصبح مخرجا سينمائيا في هوليوود , وبين حياة الطفل الفقير البسيط ابن الحبانية ,الاشوري الفخور ,يحملك الكتاب بين أروقة الزمن القريب والبعيد وكأنك على بساط سحري تنظر من اعلى أحيانا الى تاريخ مليء بحضارة تفوق ما ندركه اليوم من شعوب . ثم يحملك مرة أخرى لينزلك الى ارض أحلامه ليتبين لك انها مليئة كانت بالكوابيس المحققة بواقع صعب لانسان نشأ في زمن العروبة المجحفة في حق أبنائها وشعوبها فتراموا مهرولين زاحفين الى حدود اللجوء لتلقفهم شوارع التشرد, ومع هذا تكون اكثر حنية وملجأ حاضنا امام حياة في بلادهم ما لبث الواحد فيهم ان يكبر من اجل حلم يتبع فيجد نفسه محاصرا بالفقر والأنظمة البوليسية والاستخباراتية وفي كل الأحوال تتغذى على فكر واحد سقيم “نظرية المؤامرة” .

بنفس البراعة يحملنا الكاتب ما بين شوارع باريس وزقاقها ومكتباتها ومتاحفها بالثمانينات من القرن الماضي ,الى حارته المتواضعة في الحبانية في الموصل ,ويحول تفاصيل حياة طفل بكل ما بداخل تلك الحياة في الستينات الى رحلة بمنتهى الروعة بتفاصيلها ومختلف زواياها واناسها المفعمون بانسانية نفتقدها في كل يوم . ديناميكية الحياة ببساطتها وملؤها بالتفاصيل التي لا يلتقطها بالعادة الا انسان حالم مبدع كحال كاتبنا .

كيف يستطيع الانسان ان يحول المصائب المتراكمة والمتدفقة عليه وكأن القدر في حالة عناد وتصدي له, الى حالة من الحياة خاصة جدا ومليئة باقتناص الفرص من فم التشرد؟

كيف يستطيع الانسان تحمل عيشة الشوارع بينما حلمه متمكن منه في قصور بعيدة في مكان ما لا يسعه الوصول اليه ولقد اضمحل مع مرور سنوات التشرد.

في لحظة ما , عندما ضاعت منه أوراقه او كادت ان تضيع شعرت بقلبي يتهاوى , وكأن الكاتب علق قلبي واياه في طابعته واوراق سيناريو الرواية التي لطالما حاول انجاز كتابتها . رأيت نفسي اتمتم بكلمات مسموعة : سحقا لهذه الحياة . ورجعت الي انفاسي في لحظة فتحه لباب الثلاجة ليجد الأوراق هناك . في تلك الرحلة وحلمه , كان من اصعب ما مر علي من لحظات تلك التي مزق بها ما كتبه عبر السنوات ليبدأ من جديد. تساءلت كم يأخذ الانسان منا قوة داخلية ليمزق كل أوراق حياته وسط تشرد حقيقي ليقرر ان يبدأ من جديد ؟

كيف تكمن بالإنسان هذه القوة والإصرار في إعادة تشكيل نفسه من جديد حتى وهو في وسط اندثاره وتشرذمه وتشرده ؟

وسط كل هذا نراه يحملنا على اكفة بساطه السحري الى طفولته ومكان صناعة حلمه . استاذه قرياقوس

الذي حثه على ان يحلم بأن يصبح مخرجا سينمائيا واكد له ان هوليوود لا شك تنتظره. وكأنه عاش زمن سقراط ليكون معلمه وخرج هو ليكون افلطون . يمشي وراء استاذه يتبع حلما كبر معه حتى حمل حقيبته في لحظة اشتداد عوده ورحل. لحظة وداعه لاهله بينما هم نيام غير ابهين لا لعدم الاهتمام ولكن لاستحالة الفكرة . كم مرة كان ممكن ان يرجع ليكون في كل مرة تراب وطنه رغم فقره وتجديد سبل الحلم فيه ادفأ واكثر امنا . رحلته الى سورية ولبنان والأردن  والمنظمات الفلسطينية والكتائب , ووقوعه بيد المخابرات في كل مرة وطريقة وصفه للحدث اقرب الى ان تكون ضربا من الخيال . ولكن مع مرور الزمن يتبين لنا كشعوب عربية ان ما يوحدنا هو الاستبداد لا الحضارة ولا الثقافة .

تلك الخاصية بنا كأمة عربية واحدة تراها تتطاير من بين الكلمات بلا كلام او ذكر حتى , الا انها موجودة وبقوة : “انا لست عربيا بلا عراقيا .” عبارة تصقل كل ما يمكن وصفه من حقيقة . وعلى الرغم من ذلك تلك العروبة المفعمة باللغة نفسها تشكل هويته …وهوية المثقفين المترامين في ذلك الزمن بتشرد ما لم يكن بقساوة تشرده على بارات ومقاهي باريس. ولا تزال تشكل هويتنا جميعا مهما اختلفت اثنياتنا .

“أسود , كل شيء كان أسود  من حولي. وبلا بوصلة كنت اسير عاريا ووحيدا , وحين شعرت بالبرد والعطش , غطتني فجأة, من رأسي وحتى اخمص قدمي ملاءات سوداء  ما ان شممت رائحة البخور المنبعثة منها , حتى انطلقت فب اعماقي صرخة استنجاد “سكينة” , ولم تمض بضع ثوان حتى ظهر خيط طويل ونحيل من الضوْ ظل يرقص يمنة ويسرة حتى استقر مستقيما عند قدمي, ففهمت انه يتوجب علي ان اتبع الخط الضوئي عند بحيرة ينبعث من مياهها نور قوي كأنما ثمة مرآة تعكس الشمس من قاع البحيرة الى الخارج. ابتسمت حين رأيته جالسا على صفحة الماء, غير بعيد عني, وجه حنطي ومدور.لحية سوداء ,عينان لامعتان , عمامة خضراء تغطي شعره الكستنائي,ممسكا بيديه خطا طويلا من الضوء. مددت يدي لأغرف حفنة من الماء, فاختفى الرجل والضوء معا. فاستيقظت من نومي, وجدت نفسي ممددا وسط اخوتي النائمين في ظلام الغرفة , وشخير امي ينطلق من حنجرتها ناعما كمعزوفة تآلفنا معها لانها كانت تبعث فينا الطمأنينة كلما نجونا من كوابيسنا. ”

حياة لطفل ثم لشاب ثم لرجل قد اصبح طاعنا في الأربعين بينما كان يعيش على مصطبات الحدائق العامة في باريس ويعتاش على طرقاتها وبين حسنات مثقفيها العرب الهاربين من واقعهم المرير مثله .  تتسلسل الاحداث متداخلة تتعرى بها الإنسانية وتجعل من بساطة الحقيقة كما هي , رداءا جميلا تحيكه كلماته .

عاش بطلنا كزوربا ربما …. ولكنه كان محملا بواقع العروبة المتلاحق بالمؤامرات الإنسانية المبنية على تراكمات الجهل.

” انني اخبرتك بالمجازر التي ارتكبها الاكراد بحق الاشوريين ,فقط لكي تعلم كيف أصبحت يتيما, مثلما اصبح الاف الاشوريينالاخرين …انه الماضي,لا تنتبه اليه على الاطلاق, واستطيع ان أقول الان , لو ان الاشوريين كانوا أقوياء لقاموا بذبح الاكراد, مثلما فعل العرب بالاكراد,لأننا في النهاية كلنا ضحايا التخلف.”

“شنو يعني التخلف؟”

“عندما يفكر الانسان مثل الخروف. معنى هذا انه متخلف. ”

رحلة غريبة عجيبة إنسانية بجدارة . عراقي في باريس.

قصة الانسان العربي الذي تحتم عليه النزوح واللجوء والتشرد.

في قصة نزوح مشابهة لتلك التي عاشها الاشوريون من قراهم التي تحولت الى قواعد عسكرية تحت اسم القومية العربية . كان الفلسطينيون في طرق شتاتهم ونزوحهم ولجوئهم المختلفة . وفي توقف نحو حرية مبتغاة وحلم يبعد ببعد هوليوود تشرد الشباب العربي في شوارع باريس . في صورة متكررة للإنسان العربي من جيل الى جيل بشخوص وقصص تعيد انتاج نفسها تحت واقع عربي يصر على تخلف شعوبه وتفككها ورميها لفك الغربة حتى من خلال قوارب موت ينتظر في أعماق او حتى شواطيْ البحار.

بين ما بدى كرحلة, بدأت هذه الرواية امامي بتلك المشابهة للخبز الحافي ولكن بكل المقاييس اشد , فهناك مرارة اقسى بالتشرد ذلك ,خارج أحضان الوطن مهما كان صعبا وجاحدا. وتكاملت في رحلة كتلك التي تجرف القاريء في مئة عام من العزلة , ولكن بشعور جارف نحو عزلة داخلية نغترب فيها نحن هذه الاقوام تحت العروبة في هروب دائم من ماضينا البسيط الى تهاوي قد يكون مبرمجا في داخل العقل العربي نحو تاريخ معين. ياخذنا الكاتب على حلم طفل صغير بين سراديب طفولته الحالمة رغم قسوتها الى اجمل مكامن انسانيتنا الغافلة ليصحيها.

اترك رد

اكتشاف المزيد من نادية حرحش

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading