تخطى إلى المحتوى

القدس بين لوحتين

 

عرض الفنان الفلسطيني سليمان منصور على صفحته بشبكة التواصل الاجتماعي فيسبوك لوحة تحمل عنوان القدس، للفنان العراقي محمود شوبار.

استوقفتني اللوحة كثيرة بعد النظر اليها لأول مرة بسرعة خاطفة، لم تعجبني فكرت. بها الكثير من التشوهات البصرية ربما. لا أفهم بالفن ولا تحليلاته. تركتها.

وجدت نفسي أرجع إليها. هناك ما بقي في مخيلتي، المسيح الأبيض، العذراء بنظارة، إشارة قف حمراء مزعجة صارمة، الأقصى يتهادى من بعيد، القدس بلوحة زرقاء بلون الأمم المتحدة. رجعت للوحة ونظرت إليها بإصرار. وقلت بنفسي، ماذا يريد هذا الفنان العراقي أن يقول. كيف يروننا بالعراق؟ في خضم الخراب الممتد بالعراق، كيف يرى القدس أحدهم، فنان منهم؟

أزعجني النظر أكثر، ولا أعرف كيف حملتني عنوة إلى لوحة سليمان منصور جمل المحامل، تلك اللوحة الشهيرة والباقية لرجل طاعن يحمل القدس على ظهره.

وفي لوحة محمود شوبار، تخيلت الكيس الذي كان يحمله رجل سليمان منصور على أرض العراق. لا بد أنه مات الآن ولقد صارت عظامه مكاحل. الكيس بطريقة ما وصل إلى العراق. فالمستعمر يتمدد ويبقى واحد. قد وجده محمود شوبار وأخرج محتوياته. المسيح الطفل لا يزال طفلا، يحاول أن يستكين كالأطفال، بألا يكبر، مستدفئ بالكوفية الفلسطينية، وأمه مريم، قد هرمت ولكنها لا تزال تحمل طفلها النبي، عيونها ما عادت تستطيع النظر اليه الا من خلال نظارة. كبرت مريم ولا يزال المسيح مستكينا في وطنه بين يديها. والحصار والحواجز حاضرة بوضوح أكبر. فإشارة توقف بالإنجليزية حمراء دائرية تضاعف في حجمها القدسية التي تغلف رأس المسيح. الاستعمار لغته لم تتغير. في الخلفية الأقصى، لا يزال واقفا بقبته الفولاذية، وكأنه تذكير في قيمة الأقصى التي تتردد بينما ترى العين صورة الصخرة. هذا هو المكان الذي يريدون أخذه يذكرنا. لا تلك القبة الذهبية للمسجد المقابل. فذاك على صخرة آمنة من الصعب دكها. الأقصى في الخلف يجلس على ما يشبه التابوت الكبير، محاولات هيكلته بالصبغة الصهيونية الجديدة، التي ينتهي الأمر فيها الى أن يكون هذا المكان في كل مرة راحة أبدية لأرواح من يبذلون حياتهم الدنيا لأجله.

المكان يخلو الا من المسيح الطفل في الكوفية وأمه مريم العجوز اليوم، ولكن صامدة جميلة أكثر ربما، زادها الزمن جمالا ولكن نظرها لم يعد يرى بلا مساعدة من نظارة. تمسك بابنها النائم، وخلفهم صمت يخيم على اللوحة. خربشات برتقالية ورمادية، تهبط على القلوب وتتجمع في رأس مريم الأم. عالم متفكك متأجج تائه ضائع، والقدس تتآكل، تحملها الأمم المتحدة بإشارة معلقة بالية، ملطخة بسواد يحمله رأس مريم بهالته التي لا يمكن ان تكون قدسية في زمن يملئه الاحتقان والنزاع والتفكك.

تلك المكعبات غير المنتظمة المتناثرة بألوان الفنان التي تعكس الضوء أحيانا وتؤكد تشوهات المشهد أحيانا أخرى. تنعكس كلها بإصرار على رأس المسيح المستكين بيد أمه التي تحمل وزر العالم المتفكك الضائع على رأسها ولا تزال تتحمل بشموخ المرأة الحقيقية. جميلة كما كانت تصور لنا دائما. بريئة تحمل بين يديها وفي نظرات عينيها النبي المخلص، أصرار أكثر هذه المرة، تحاول إيقاظه ربما م نومه المستكين.

بين لوحتين مرة أخري يرغمني سليمان منصور على التوقف. أهي عبقرية الإحساس في لحظة رسمه للوحته الأم، وفي هذه الحالة نحن نتكلم عن جمل المحامل. تلك اللوحة التي طافت العالم ودخلت كل بيت فلسطيني. إحساس سليمان منصور الذي خرج من كيس رجله وبعثره الآن محمود شوبار؟

اترك رد

اكتشاف المزيد من نادية حرحش

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading