تخطى إلى المحتوى

قراءة في رواية المعلم ومرغريتا

 

رواية المعلم ومرغريتا للكاتب الروسي ميخائيل بولغاكوف، الصادرة لأول مرة سنة ١٩٦٧ على شكل حلقات بالجريدة الروسية، وبكتاب كامل سنة ١٩٧٣. تشكل بالنسبة للنقاد أهم النصوص الهجائية للنظام السوفييتي، وبالأخص لفترة حكم ستالين.

 لاقت رواية المعلم ومارغريتا شهرة واسعة جداً في روسيا وقت صدورها بعد٢٧ سنة من وفاة بولغاكوف.

مرت الرواية بأحداث دراماتيكية قبل انهاء مسوّدتها الأخيرة، وكذلك بعد إصدارها الأول. حيث حرق الكاتب النسخة الأولى من الرواية التي انتهى منها سنة ١٩٣٠، ليقينه بعدم نشرها، ثم أعاد كتابتها بعد سنة وبمسودات متعددة حتى سنة ١٩٤٠. قام بولغاكوف بنسخ فصول الرواية الأخيرة إلى آخر مسودة، ومات قبل أن يلائم بينها وبين الرواية حسب نسختها الأخيرة. فتولت زوجته ضم الفصول الأخيرة من المسودات السابقة إلى المسودة الأخيرة للرواية.

 الاصدار الأول تم بعد الحذف من الكثير من الأجزاء، حتى أصدرت بشكل كامل سنة١٩٧٣ وتم اعتماد تلك النسخة للباحثين حتى سنة ١٩٨٩، حيث اعادت باحثة روسية مراجعة المخطوطات وتم اعتبارها النسخة النظامية للتداول. الرواية ترجمت للعديد من اللغات، واحد ترجماتها للعربية كانت ليوسف الحلاق في سوريا.

بالإضافة الى اعتبار الرواية هجاء للنظام الاجتماعي السوفييتي، ونقدا قاسيا للتجربة الماركسية بالعموم، رأى البعض ان الرواية تروّج للشيطان، الذي يشكل أحد ابطال الرواية المحوريين.، ومن اجل ذلك لاقت هجوما من قبل الكنيسة.

في حبكة تشبه العرض المسرحي الساخر (الفكرة مستوحاة من اوبرا فاوست للموسيقي الفرنسي شارل غونو) فيما بين الجد والهزل، الرعب والمزاح.  تسحب الرواية القارئ الى أعماق سحيقة، ومن ثم ترفعه الى الأرض. عالم شيطاني شرير مظلم في القعرات، وعالم انساني على الأرض متخبط، يعريه طمعه.  سخرية مدمرة وحب قاتل او ناقم. الكل في قعر رحم الشيطان ورحمته.

 تأتي عبارة “المخطوطات لا تحترق ابدا ” على لسان شخصية الرواية الأساسية (وولاند) لتربط بين الكاتب والرواية.

تبدأ الرواية بمشهد لحديث بين رئيس رابطة أدبية وشاعر بمكان عام حول وجود المسيح او عدمه. يقتحم الحديث رجل أجنبي (وولاند) يتنبأ بموت رئيس الرابطة بتفصيل دقيق، وبمشهد مرعب حيث يشهد الشاعر الشاب فصل رأس الرجل عن جسده إثر ارتطام القطار به. قبل الحادث يروي الأجنبي قصة تؤكد وجود المسيح، يأخذ القارئ معه الى مسرح الحدث في القدس او فلسطين في محاكمة المسيح من قبل بيلاطس النبطي.

يفقد الشاعر “عقله” ويجول الشوارع وينتهي بمستشفى المجانين، بعد ان فشل في اقناع أحد ان الرجل الأجنبي هو الذي تسبب بموت رئيس الرابطة وعصابته التي يكون أحد أعضاءها قط.  ليتبين لنا ان هذا الرجل (وولاند) ليس الا الشيطان نفسه.

تقفز بنا فصول الرواية بمشاهدة تحبس الانفاس بالكثير من الصفحات. ذكرتني الرواية بفيلم آل باتشينو “محامي الشيطان”. محاولات الشيطان بإغواء البشر بالأموال واللعب بالنفوس. عرض السحر الذي يقوم به الشيطان (وولاند) بينما تقمص شخصية فنان محترف يقوم بعروض سحرية في قمة الروعة.

مشهد تُرمى الأوراق النقدية فيه على الجمهور ويتسابق الجميع لأخذ ما يمكن اخذه. والجمهور في حالة تصفيق كبير وعدم تصديق من وهل ما يقوم به الرجل و”قطه” من اعمال فوق الطبيعة. بينما يشيد عريف الحفلة بما يقوم به الساحر. يقوم الساحر بتحويل الأوراق النقدية الى أوراق عادية، وما يلبث يشعر الجمهور بالخذلان حتى يعلمهم انه كان يمزح معهم ويعد الأوراق الى نقود. يشيد العريف أكثر بالساحر. يعترض الساحر متنمرا على الرجل سائلا الجمهور: هذا الرجل يشعرني بالاستياء ماذا افعل به؟ فيصيح أحدهم قائلا: اقطع رأسه. وفي لحظات يهب المسرح بالالاف الجالسين مطالبين بقطع رأس الرجل. يفصل الرأس عن الجسر ويتدحرج على المسرح. وتأخذ الأصوات المرعوبة بالصياح مطالبة بعودة الرأس الى الجسد. ليؤكد الساحر مرة أخرى انه كان مازحا. ويعيد الرأس الى الجسد. الا ان العريف منذ تلك اللحظة يختفي ليصير في مشفى المجانين. فلقد جاب الشوارع باحثا عن رأسه منذ تلك الحفلة. ثم يعرض على النساء من الجمهور ملابس بماركات عالمية واحذية فارهة. ونرى في مشهد مهيب كيف ترمي النسوة ملابسها تباعا لتلبس الشانيل وتجول بالعطور والاحذية بتفاخر.

ليتبين فيما بعد ان النقود كانت وهمية، وشهدت المدينة حالة عجيبة لنسوة عاريات تجول الشوارع في تلك الليلة بشهادات شخصيات تظهر في وقت لاحق بالقصة.

ايحاءات كثيرة، يفقد القارئ حتى في لحظات التمييز بين الإيحاء والحقيقة. وكأننا نؤخذ بفعل التنويم المغناطيسي الذي اشاعه الساحر تبريرا لما كان يقوم به.

تتلاقى الشخصيات المحورية في الرواية، ويلتقي الشاعر بالمعلم بمستشفى المجانين ويدخلنا الى عالم مارغريتا. التي تظهر بالراوية فيما بعد.

شخصية مارغريتا هي استعارة لبولغوف من فاوست غوته الذي لا ينكر الكاتب تأثره به، مروراً بالتأثيرات الظاهرة في شخصية وولاند، وحضور السحر الأسود والساحرات.

مارغريتا زوجة ملت رتابة الحياة الكاملة وتبكي حبها “للمعلم” وتريد الانتقام من الناشر الذي أهدر تعب حبيبها في رفضه لراويته عن بيلاطس والمسيح.  في فصل سابق روى المعلم حكايته للشاعر المتواجد معه في مشفى المجانين.

 تمتلئ مارغريتا بالنشوة لدى سماعها بفظاعة موت ذلك الناشر، الا ان نفسها تتأجج أكثر بالرغبة من الانتقام، فيظهر لها “عزازيل” أحد افراد عصابة الشيطان ويعرض عليها ان يشتري روحها مقابل ان يجمعها بحبيبها وتقبل. فتصير ساحرة مع العصابة. بعد حفلة يتأجج فيها انتصار الشيطان “وولاند” ويحقق أهدافه الشيطانية التي يبرز دور مارغريتا فيها. فتأخذ الرواية تصاعد في الاحداث بمشهد مركزي بالحفل الكبير، حيث يرتبط المشهد بالراوية التوراتية بقدوم متّى العشار (أحد تلاميذ المسيح) والملاذ الابدي. تلتقي مرغريتا المعلم ويرجع وولاند له روايته التي احرقها. الا ان ضمير مارغريتا يصحو في مشهد أخير بعد لقائها بحبيبها وتغلق الرواية باختفاء الشيطان وعصابته ومارغريتا ونزولهم الى سحق عميق وكأنهم ابدا لم يكونوا.

تحاول موسكو التعافي من مجريات الكارثة التي احاطها هؤلاء “الغرباء” ويغلق الموضوع في تبريرات رأى الشعب بها منطق أحيانا، وبعيده عما هو منطقي أحيانا كثيره.

هناك الكثير من الابعاد الفلسفية في قراءة رواية المعلم ومارغريتا. فتأخذ القارئ الى التفكر بقوى الخير والشر. القوة والضعف. ويستمر الهجاء الاجتماعي والسياسي فيها حتى النهاية، بسخرية أحيانا ومرارة أحيانا.

تبقى فكرة الابداع الادبي بانتصارها بالنهاية على قوى القمع المتراكمة والمتلاحقة هي نقطة التفاؤل. ولكن ما يعتري المجتمعات من تشوه نفسي واجتماعي عندما يطرأ عليها احداث غريبة، هو ما أراده الكاتب ربما ان يرسله لنا كقراء، بلا تحميل العبء على وجود شيطان.

بينما ندخل بالجو المريب لسؤال إذا ما كان هناك شيطان ام لا. بتحميله وزر مصائب ما جرى. الشيطان هو من ارجع المخطوطة المحروقة للكاتب.  والشيطان هو من جمع الحبيبين. وهنا تبدو المفارقة في فهم إذا ما كان الشيطان بهذا القدر من الشر، وفي نفس الوقت بهذا الزهد. فعبارة “الكتب لا تحترق” هي لحظة الاجلال في الرواية. لأن رواية المعلم ورواية بولغاكوف لاقت نفس المصير.

اترك رد

اكتشاف المزيد من نادية حرحش

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading