تخطى إلى المحتوى

فلتان امني ام فلتان اخلاقي؟

فلتان أمني أم فلتان أخلاقي

نتكلم عن الصيام ومزاياه . الشهر الفضيل وعطاياه. نبحث عن مبررات لفشلنا وخذلاننا وانهياراتنا . بدفاع شرس عن ماضي بعيد سحيق ،أو هجوم أشرس على من يقترب من الإنتقاد أو الإشارة إلى خلل حياتنا التي تتسع الهوة في خرمه لدرجة أصبحنا مجتمعات وشعوب في هوة سحيقة.

كنت أريد أن أكتب موضوعا ألفت فيه إلي القدس بشجون أمسياتها الرمضانية . بسحرها . بنبضها الأخاذ في رمضان تحديدا ، وكأنها ترتدي حلة جديدة. إلا ان تراكم الأحداث البائسة تصر على منعي.

فيعبد تلملم جرحاها وموتاها من الساحة الدموية التي شهدتها منذ ايام (مقتل العديد من الشبان والكثير من الجرحىفي قاعة افراح نتيجة لمشادة على فتاة ) . وكذلك نابلس (مقتل اثنان من أفراد الأمن في محاولة لفض شجار) . ولو بدأت العد سأنتهي بسلسلة لمقالات حزينة ،مؤلمة، كلها يتصدرها الشجارات واطلاق النار.

ولا بد أنني سأجد تعليقات بين شاتمة للسلطة ، وأخرى شاتمة لي ، لتعميمي الدائم واتهامي بجلد الذات .

قبل يومين قررت النزول إلى البلدة القديمة مع ابنتي الصغرى بعد الإفطار . كانت القدس تنبض حياة بناسها من كل الأعمار والأجناس. نبض لا يمكن شعوره إلا برمضان . أخذني المسار إلى حيث تقودني قدماي . أتوقف تارة في محل تجاري، وأشتري كل ما يباع من ذرة بكافة أنواع بيعها من الصبية ، وشعر البنات ، والبطاطا والحلويات . كنت أكثر مراهقة أو ربما طفولية من ابنتي المصاحبة لي. بينما كنا ننتظر الطفل البالغ العشر سنوات على الأغلب ليملأ لنا حبات الذرة المغلية في كأس ورقي ، تكلمنا قليلا ،محاولة التسلية معه . فإذ طفل ربما يبلغ الرابعة من عمره واقف امامنا . كان صغيرا جدا ، وتجاذبت معه الحديث واشتريت له كأس ذرة. كان الطفل البائع لطيفا جدا ، واخبرني انه يعرف هذا الطفل من الحارة التحتة. بعد لحظات جاء عدة أطفال بنفس عمر الولد الصغير أو أكبر بعامين ، وكأنهم اغتاظوا لأنه حصل على ذرة . توقف احدهم ، وحاول شد الطفل وركل الكأس المملوء بالذرة برجله وخاصرة الطفل . حاولت مسكه ، واذ به يصيح بي بصوت أعلى من طوله طالبا مني عدم التدخل . حصل كل شيء بسرعة كبيرة . كنت على وشك أن أشتري له وللاخرين ذرة عندما صاح بي وهرب مسرعا من الولد البائع واختفى . بكى الطفل المضروب كثيرا بألم ورعب . انتظرته حتى أخذ الذرة ومشى نحو بيته الذي لم يكن بعيدا واختفي بالممر .

بينما كنت اناقش وطفلتي ما جرى. نتكلم عن العنف ونشأته وغياب الأهل عن المشهد. أين تكون الأمهات في هذه الساعات المتأخرة جدا من الليل ؟ أسئلة كثيرة تداولناها عن التربية، كيف يكبر هؤلاء الأطفال في الشوارع… استوقفتنا على بعد خطوات مشاجرة بالواد . صياح من كل اتجاه ، والكل رامي دمه يريد ان يقتل احدا . بين محاولات لردء الصدع ، وبين محاولات للتهييج من الشباب بين خصوم ومدافعين ومتفرجين . توقف جنود الإحتلال متفرجين ،لا أعرف إن كنت أستطيع وصف وقوفهم بالتأهب. فكانوا ينظرون متضاحكين بلا أدنى شعور بالخوف أو التأهب وراء حواجزهم الحديدية. كان المنظر مثيرا للسخرية والحزن. في نفس ذلك المكان قبل أشهر ليست بالبعيدة كان أولئك الجنود يمشون بذلك الزقاق بخيلاء يتحرشون بالشباب يرعبونهم. في تلك اللحظات ، الشباب فيما بينهم مستعدون للموت في سبيل مشاحنة وشجار لا يفهمه أحد .

الكل “روحه بمناخيره” من الصيام..قبل الإفطار ، حتى بعد الإفطار .حتى خلال التسكع بالشوارع .

في نفس الساعات كانت ” يعبد” (قضاء جنين) تشهد حربا تشبه حرب العصابات بأوج حروب المافيا الايطالية. أسفرت عن مقتل العديد وجرح الكثير . في نفس الوقت لقي رجلا أمن في نابلس مصرعهما . نابلس التي أغلقت شوارعها قبل أيام في مشهد يشبه ذلك الذي حصل في جامعة القاهرة قبل سنوات قليلة عندما مشت طالبة شقراء في الحرم الجامعي وهجم عليها الشبان كالكلاب المسعورة. في نابلس ، فتاة تمشي بتنورة “قصيرة” مع والدها أدى الى تدخل الشرطة وقوات الامن،لإبعاد الشعب “الهائج” عنها .

لم تكن قصة فتاة نابلس والتنورة القصة الأكثر هولا في هذه الأيام المباركة. تكلمني بعدها أمي لتقول لي ما حل بصديقتها في الحرم (الأقصى) بعد انتهائها من صلاة التراويح. صديقة امي ، شأنها كشأن كل من أراد الذهاب الى الصلاة في رمضان . شأن كل من يستغل لحظة وجوده في رحاب المكان لالتقاط صورة او سلفي. ارتكبت خطيئة لا تغتفر في لحظة تحريك حجابها من اجل السلفي . واذ بجموع النسوة المتدينة الغاضبة تهجم على المرأة وتنعتها بكل المصطلحات المعيبة المشينة . منظر يشبه في وصفه كذلك الذي نراه في المسلسلات عندما تهجم السجينات على سجينة جديدة.وصرن يصحن بين هجوم وانقضاض على المرأة هاتفين لموظفي الأمن ليخرجوها من الحرم. لم تتوقف الامور هنا ، بل تدخل الأمن التابع للأوقاف الإسلامية بأخذ هاتفها النقال واجبارها على مسح الصورة .

لم يكن غريبا ما سمعته . فحالة التهويل والترهيب هناك في الأيام العادية مريبة . ولقد حصل ذلك الترهيب تحت اسم حماية الاقصى من المستوطنين ، فأصبحت كل امرأة تجلس هناك وكأنها المدافع عن الله نفسه.

هناك من يريد التحكم بتصرفاتنا والزامنا بها تحت وطأة دين هم يريدون فرضه علينا ، بحجاب أو بدونه ليس هذا الموضوع . وتلك النسوة والحراس كذلك هم ليسوا الموضوع. إن استعتم لخطبة الشيخ في صلاة الفجر في الليلة الفائتة لتلك لارتعبتم كما ارتعبت امي وصديقاتها . وللتنويه ، هنا ، انا اتكلم عن سيدات عاديات ، تتراوح اعمارهن بين منتصف الخمسينات والستينات ، منهن من هي محجبة بالعدة ومنهن من هي لا . ولكن عند الشيخ ذاك كان الموضوع اكبر من الحجاب وغطاء الرأس . فلقد دعى النساء الى لبس الجراب الاسود وهددهن بأن غضب اللعى كل امرأة لا تلبس الجوارب السوداء. والله هذا كلام حصل في صلاة فجر في منبر الأقصى . لم يكن الوعيد بتحديد لون الجراب فقط ، بل لكل امرأة (على فرض انهن كلهن محجبات بالنسبة له ) تسمح لابنتها بلبس اللباس الضيق وغيره. الملفت هو وصف هؤلاء السمتشيخون للباس من طراز ومواصفات معينة لم ننتبه لها الا من خلالهم ، كمصطلح “الفيزون” .

وها نحن نقترب مع انتهاء الشهر الفضيل الذي يبدو وكأنه في حالة عجيبة تم أطلاق الشياطين فيه بدل حبسها . الليلة ليلة القدر .. وقبل انتصاف الليل قتل شاب وجرح اخرون في شجار بمخيم شعفاط. ومرة اخرى المووضع ليس موضوع سرد حوادث وغيرها . الموضوع ليس انفلات امني فقط. وليس انتشار اسلحة يستعملها الناس لقتل بعضهم وفي الافراح .ويخرج علينا شاب بسكين يطعن به فتاة يهودية ببيتها ونقول عنه بطلا (حصل بالامس في كريات اربع) . ،لا اريد بهذه اللحظات ان ادخل في سياق حديث اخر. لكن هنا نقف أمام مفارقة أخرى . نقترب فيها بأعمالنا من أعدائنا . يعرونا في كل يوم حتى في مقاومتنا .

هناك بوصلة مفقودة مكسورة إن وجدت في هذا الكيان الذي نحيا بداخله كفلسطينيين. الإنفلات الحاصل أمنيا وأخلاقيا ، هو نتيجة طبيعية في ظل سيادة فاسدة ، لم تعد حتى تتحكم في أمن من تقوم على شأنهم من رعية. فكل منشغل في تكريس مفسدته لمصلحته الخاصة ، وعليه يصبح الإنفلات الأمني تحصيل حاصل . والمجتمع الذي يعيش وسط انفلاتات متعددة ،في ظل غياب للوعي تم تكريسه في ظل عشرين عام من حكم تنسيق امني للاحتلال ، استفحل من خلاله الفساد. من الطبيع فقط أن نصل إلى هذا الحال . ما هو غير طبيعي ، أن نكون شعب لا يزال تحت احتلال ، يناضل من أجل حريته ، وينسى قضيته ويتفرغ من كل مضامين انسانيته .

ولا ريب في كل هذا … فلن يغير الله بأمرنا طالما كنا بهذا الفلتان الاخلاقي المنتشر في اجسادنا وعقولنا.

في الشهر الفضيل تعلمنا أن الشياطين تحبس ، وتطلق الملائكة. في هذا العام وبينما نجتمع بهذه اللحظات بالالوف والملايين . مئات الالاف منا بمسجد الاقصى رافعي رؤوسهم نحو السماء شاكين باكين متضرعين إلى الله من أجل فك كرب ومكان في الجنات . تغيب البصيرة عن قلوبنا ، وتبتعد الملائكة عن محيطنا .

ونستمر في الدعاء على الأعداء …. كل اولئك من الحزب الاخر ، والدين الاخر ، والفصيل الاخر، والفئة الاخرى ، وندعو الله لنصر الاسلام والمسلمين . بينما نحن المسلمون نقتل بعضنا البعض …

.

2 فكرتين بشأن “فلتان امني ام فلتان اخلاقي؟”

  1. Nadia, I wanted to post the one about your young cousin running off to Al Aqsa, but in English, but I lost it and can’t find it. Can you please send me the link.

    Thanks, Dorothy

اترك رد

اكتشاف المزيد من نادية حرحش

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading