تخطى إلى المحتوى

“الروائية ريم بسيوني و”أشياء رائعة

كانت رواية “أشياء رائعة” للروائية المصرية الحائزة على جائزة نجيب محفوظ لهذا العام، بين الروايات المنتظرة بين رفوف مكتبتي لقراءتها حين يشاء القدر لها ذلك. 

علاقتي بقراءة الكثير من الكتب اربطها بالقدر. لا أعرف إن كان هذا أحد ضروب الجنون المرافقة لحياتي، ولكن القراءة بلا شك، تشكّل جزء من محاور القدر عندي. فكثيراً ما أجد نفسي اقرأ كتاباً لم اخطط لقراءته ولكنه ارتبط ارتباطاً وثيقاً بما يتطلب حالي. قد تكون هذه مجرد صدفة أو ربما تكون محور ما يسمى بالتجاذب. فأفكاري وعقلي الباطن يتجاذبان في لحظة ما، ويجعلاني امسك كتابا ما. 

ورواية “أشياء رائعة”، احدى الروايات العديدة التي قد تكون حصلت على مكان على رفوف مكتبتي بلا سبب محدد، أكثر من ترشيح لبائع. 

المهم، كانت سعادتي فائقة لوجود رواية كاتبتها قد حظيت للتو بجائزة بقدر أهمية جائزة نجيب محفوظ. كنت كمن وجد كنزاً بوجود عمل بين كتبي لكاتبة أصبح أحد أعمالها متصدرا للعمل الادبي في مصر. وكانت فرصة مهمة بأن أقرأ عملا اخر حتى أستطيع الحصول على الرواية الحائزة على الجائزة وهي رواية- ثلاثية “أولاد ناس”.

رواية “أشياء رائعة” صدرت في طبعتها الأولى عن دار الآداب سنة ٢٠١٠

لا أعرف إن كانت الرواية المصرية ونجيب محفوظ متلازمتان. ولا أعرف إن كان تأثري بفكرة الجائزة هو ما جعلني أفكر بهذا الاتجاه. وبعد اول صفحات شعرت وكأنني بداخل فيلم مصري ليثبت شعوري ربما. 

تحكي الرواية قصة امرأة، فلاحة مصرية، أرملة، تركها زوجها مع ثلاث أولاد. أمها حولها تؤنبها واخوة لها قاطعوها لقوّتها وأهل زوج يتربّصون لها لأن ما تركه زوجها بالنسبة لهم حق لهم لا لها. قد تكون فكرة جلوس المرأة على عرش الذكورة هي مفتاح الرواية. اختيارات المرأة بأن تكون أمّاً على ان تكون أي شيء آخر، حيث تمنحها الأمومة لقب الشهيد الحي، والملك المتربع على عروش الأبناء الى الابد. الام التي تفني حياتها بشبابها من اجل ان تربي ابناءها وحدها- الارملة- فتترك الفرص كلها من اجل ان تحظى بالنهاية على الطاعة التي استحقتها بسبب تضحيتها.

” ولم يكن هناك اختيار في حالتها. كان الدور قد كتب لها، وكانت أمّاً متسلّطة ومجنونة وقاسية وحنونا وتفعل المستحيل من اجل أبنائها وكانت اما تسيطر على كل شيء. ويوم ان تتزوج. تفقد سطوتها وقدسيتها، ويوم ان تتزوج تكون امرأة ولا تكون قديسة،

والعقل يقضي ان تبقى على عرشها ولا تتنازل عنه والعقل يقول انها الان ملكة، وغدا إمبراطورة، ولو اغضبها أحد أولادها تصيح: ضحيت من اجلكم بكل شيء. كيف ستقول هذا إذا تزوجت؟ كم من شهيد راح ضحية غروره ولم تكن تختلف عن كل الشهداء. كانت تريد المجد والعلو.” 

في الجانب الاخر من القصة يقف رجلان، من يقبل بأن يطلق عليه اسم اللص، وهو فاحش الغنى، يريد الخلود ببناء مقبرة. والعالم، الكاهن، المهندس الذي وُكّل له بناء الصرح الخالد. كلاهما ارادا الخلود. كالأبيض والأسود في مكافحة ما يعرفانه الحق. اللص والعالم. يحاربان الفساد بالانتقام من بعضهما، لنرى ان الفساد كالأبيض والأسود كل يراه بطريقته. وما بين اللونين من انفصال هو مكان دفع الثمن. فالفاسد الكبير يبقى ويدفع الثمن دائما الفاسدون الصغار. لننتهي الى نتيجة حتمية تؤكد وتوجب الفساد وكأنه دمغة حياتية لا مفر منها. لا يهم ان كنت ابيضا ام اسودا، غنيا ام فقيرا، عالما ام تاجرا، فلاحا ام مدنيا. فالفساد سمة تلاحق الانسان طالما عاش.

لا اريد التكلم عن الرواية بتفاصيلها، لأني لا اريد حرقها. فلقد رافقتني على مدار عدة أيام وكنت متلهفة لأعرف ما ينتظرني من تفاصيل. الاحداث كانت مهمة، ولكن الأهم في هذه الرواية هو كل ما لم يكتب. كنت اتخيل نفسي اشاهد فيلم محمود ياسين وفاتن حمامة لوهلات كثيرة، ولكن الابداع تمثل في كل ما شعرت به “أسماء”، لا اعرف ان كانت أسماء تمثل كل امرأة تركها الزمن لتكون اما تربي ابناءها وجدها. بين استعطاف واستذئاب. بين حب واستغلال. بين تفاني وانانية. تضحية وشهادة: 

قد يكون من المضحك ما شعرت به او تذكّرته عندما كنت اقرأ الرواية، رافقني الشعور الذي كان لدي عندما قرأت ثلاثية ٥٠ ظل للون السكني. على الرغم من ان “أشياء رائعة” لم تأت بكلمة خارج النص ولا تعبير مباشر يوحي بإثارة الغرائز، الا انها كانت مليئة بالإثارة. لم يكن هناك حاجة للكتابة، فتركت العنان لخيالنا بحياكة ما لم يكتب من تفاصيل. الحقيقة انها كانت بغاية الروعة. 

ذكرتني بوصف في احد مقالات ادوارد سعيد عندما وصف رقص تحية كاريوكا قائلا: “وكما في مصارعة الثيران، يقوم جوهر فن الرقص الشرقي الكلاسيكي العربي ليس على كثرة، بل على قلّة، حركات الفنانة. وحدهنّ المستجدّات، والمقلّدات البائسات اليونانيّات والامريكيّات، ينخرطن في درجة مريعة من الهز والتقافز هنا وهناك، معتقِدات أنّ هذه الحركات هي “الجاذبية الجنسية” وصخب وعجيج الحريم.”  

وكما حملت الرواية للقارئ بين الصفحات في بدايات لكلّ فصل بما سّمته الكاتبة “كتاب الموتى والاحياء” وهو عبارة عن مداخل لما كتب على جدران المقبرة التي صمّمها “دكتور حازم” أحد ابطال الرواية. يقول: “والدي كان دائما يقول ان هناك ثلاثة أشياء لا يستطيع الرجل التحكم فيها طوال عمره. ولا يستطيع العالم تقصي الأسباب العلمية لها. هكذا قال ابي.. وابي كان يعرف كل شيء. فالرجل لا حيلة له في وطن يجهله ويعشقه، وامرأة يشتهيها ويختلج جسده امامها، وتاريخ تعاد كتابته كل يوم من صديق وعدو وتاجر وعالم وجندي وملك ودولة وامة وشرق وغرب وما بينهما..” 

 كانت النهاية كما البدايات مفتوحة للتفكير على الرغم من تسابقي من أجل الوصول الى النهاية، الا انني شعرت بالغبطة لعدم اغلاقها كما توقعت، او كما تمنيت. وكأن انتصار “أسماء” لخاتمة رائعة كان انتصارا لكل امرأة تعيش حياتها. كما نهاية الرواية تشبه النهايات في حياتنا… نهاية مفتوحة تبدأ بالحياة وقد تستمر بالانفتاح على الموت. 

” في بلدي أيها اللص الذكي نقدّس الأمّ، ونتضرّع لها كآلهة الفراعنة. في يدها الخير. وبيدها تعطي البركة وبيدها تُسقط لعنتها فيعمّ الجفاف والقحط والفقر. وأنا.. أعرف أمّاً مصريّة. بهرتني وسحرتني وأحكمت سيطرتها على روحي. وكانت تغدق على أطفالها بحنانها وقسوتها ترعبهم. وأحياناً يا لص يا نذل يا سارق الموت والقبور. نخاف المرأة وكأنّها شيطان يقضي على كل أخضر ويابس. كالجراد تغمر العمر وتدفن الأمل. لا بأس.”

رواية “أشياء رائعة” مليئة بالتأكيد بالأشياء الرائعة. 

اترك رد

اكتشاف المزيد من نادية حرحش

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading