تخطى إلى المحتوى

هل تبقى استانبول المدينة الأبدية؟

هل تبقى استانبول المدينة الأبدية؟

ما يستحضرني عندما أقف باستانبول هو كلمة “ابدية”. لا أستطيع القول أنّ استانبول قد تحتضنني، ولا أعرف إن كنت أرى باستانبول الحب والعشق الذي ترتبط به بعض المدن. ولكن هناك أبدية بهذه المدينة تجتمع بها الحياة والموت، الجنة والنار، فيتماهى كل ما تراه بأبدية مطلقة.

مدينة تقف أمامها وترى على حافتيها النقيضين وكأنك تقف على ميزان: الغنى والفقر، الشبع والجوع،
الابتسامة الاخاذة واللؤم المقيت.

مدينة تتوسطك وكأنك ببوصلة محكمة للشرق والغرب معا. 

 في كل مرة أزور استانبول تتفتح امامي المدينة من جديد وكأنني أراها لأول مرة. عشرات الزيارات، ولا أقترب حتى من التعبير عندما أقول أني لا اعرفها. في كل مرة، أقف أمام مدينة جديدة كلياً.

قد تغيب عني الكثير من الكلمات. وقد اتعمد إسقاط بعضها، ولكن تبقى كلمة وحيدة دائماً تتسم بها هذه المدينة: الجمال.  

الجمال هو ما يرافقك مع كل وجهة تنظر اليها، سواء كانت وجهتك البشر او الحجر. 

جمال الرجال والنساء، أناقتهم وحضورهم.

 جمال الابنية والاقبية والزقاق والشوارع. 

جمال يخطف الأنظار بالنهار، وجمال يبهرك بالليل. 

جمال للاندماج العجيب بين الاشكال والألوان من بشر وحجر وحتى حيوانات. 

ونظافة لا تفارق انطباعك مهما طالت مدة اقامتك أو قصرت. 

ولكن… هل هناك جمال في الفقر؟ 

قد تكون خانتني بعض الصور حتى، عندما اعدت النظر اليها، بينما حاولت استرجاع شعوري بالبؤس الذي رأيته بأحد الاحياء. لم أصدّق الفقر الذي رأيته بأمّ عيني. لم اصدّق ان للفقر بالفعل نظرة جامعة، لا يهمّ إن كان بؤس الفقر من غزة او كابول او صنعاء او استانبول. لا يهم ان كان هذا الفقير المقيم باستانبول من حلب ، او انه يتضور عطشاً كما جوعاً بهذه اللحظة بالحسكة.

وقد أقول في نفسي ربما، ان اللغة هي التي جعلت مشاعري اكثر احتداماً، فكانت رؤية طفل سوريّ وسط عائلته التي تتوسط عوائل مشابهة بالظروف والتفاصيل لحياة بائسة هربا من حياة عادمة قد أفرطت في نفسي المشاعر. فبعد كل هذا، الحياة لا تبدو مسلسلا تركيا مهمّا عكس بعض بؤس الحياة، لأن الواقع آخر. 

ولا يهم ان كان هذا الفقير سوريا يكون لسان حاله دوما “حلب” عندما تسأله من أين أنت، ام كان تركيا، صارت سورية وحلب اصطلاحا مهما باستقطاب استعطاف السائل من قبل المتسول.

ولكن كما قلت فان الصور حتى خانت احاسيسي، ولم ار بها البؤس الذي شاهدته عيني وكظمت مشاعري عندما رأيته. وكأن البؤس في تركيا حتى مختلف. ترفض الصور الا تجميله. كما يستمر رئيس تركيا بمحاولة تجميل افعاله من تغيير معالم الدولة الى إسلامية الطابع، واستعراض انتصارات إعلامية بينما يموت الناس عطشا في الحسكة بسبب ما يقترفه من قطع المياه عن المدينة، ويعلن اكتشافات بينما الناس في مدينته المفضلة يستلقون جياعا على عتبات المساجد التي تتزايد بين بناء وبين تحويله الكنائس إلى مساجد.

على مدار سنوات كثيرة من زياراتي لهذه المدينة، ويلفتني الانفتاح الذي يعكس نفسه مع كل التفاتة . فالبشر هنا أقرب للحرية والتحرر. قد تكون نظرة المفكر المصري احمد امين للأتراك قبل ما يقرب القرن لا تزال هي الأقرب لتجسيد حقيقة تركيا في حداثتها ، فكان ما لفت احمد امين في زيارته لتركيا في النصف الأول من القرن الماضي وكتبه في مذكراته هو سفور النساء ونظافة البيوت والشوارع. كنت اعتقد حتى لحظة قراءتي لتلك الكلمات أنّ السفور أمرا عائبا، لأفهم معناه لأول مره من منطلق آخر كلياً. انّ السفور مرتبط بالسفر، وان السفر مرتبط بالانفتاح، والانفتاح مرتبط بالتحرر، والتحرر هو مفتاح الحرية. 

ولكن هناك ما تغير بالمدينة، بين هذا الكمّ من الفقر الذي رافقت مشاهده باللاجئين السوريين، وبين مشاهد التديّن او الأسلمة التي يحاول الرئيس التركي فرضها بسطوة لا تخلو من الكثير من الألاعيب السياسية التي يجرّ بها تركيا وناسها اليها.

كان موجعاً رؤية الاكتظاظ للصلاة في آيا صوفيا لجموع المسلمين بحراسة مدججة للآليات العسكرية التي ذكرتني بواقعنا هنا بفلسطين. “حراسة” العسكر لأماكن العبادة لا أمن ولا سكينة بها: لو كان هذا العسكري عدوا او صديقا. كان المشهد اقرب لما نعيشه عند الذهاب إلى المسجد الأقصى والعتاد العسكري الإسرائيلي يقرر دخولنا او عدمه، يستقبلنا عنوة للصلاة في مسجدنا.  

ولا اعرف ان كان هناك إجحاف في المقارنة، ولكن لا أستطيع فهم ما أراه بغير هكذا ربط: أيعقل أن تزيد المساجد ويزيد الفقر؟ 

هل هناك علاقة بين الأسلمة الحاصلة وتغيّر النفوس ونظرات العيون؟

اين الإسلام الذي نشأنا عليه من الإسلام او التأسلم الحاصل اليوم؟ تربينا على ان الإسلام تسامح وتسليم وعتق رقاب وزكاة للمحتاجين. أين الإسلام مما يمارس اليوم؟  

اذا ما عشقت تركيا لشىء، كان هذا الشبع في عيون رجالها. فلا اذكر مرة رمقني أحدهم او بناتي او رأيت مشهدا لتحرش أمامي. ولكن كان من الملفت جدا هذه المرة هو نظرات العيون المليئة بالشبق والفضول. كان لسان حال ابنتي يقول: اشعر وكأنني بوسط البلد في مكان شعبي. وكان هذا بالفعل هو الشعور. عيون تلاحق الانثى بكل ما ظهر من جسدها وما لم يظهر. شعور بالارتياب من المشي في الشوارع خشية تحرش ما. زقاق تقسيم وكأنها كشفت عن وجوه أخرى لها، وجوه تشبه ما نألفه في مدننا من انغلاق ونظرات للأنثى وكأنها مرصد لشبق رجل. 

اهي السياحة؟ هل كان الانفتاح الذي نراه في شوارع المدنية الشاسعة هو انفتاح “السياح” لا الاتراك انفسهم؟ 

هل من علاقة بين البطالة والفقر وازدياد المساجد؟ 

كان أكثر من ملفت، أن يتوسّط المدخل إلى مطار استانبول الجديد مسجد ضخم لن يستطيع الوصول إليه احد. لا مسافر ولا مغادر ولا مواطن. 

لم أستطع إلا أن اسأل نفسي، الم يكن فقراء تركيا وفقراء من يقيمون على أرض تركيا أولى بأموال زهقت في بناء مسجد؟ 

أسلمة تركيا بطريقة اردوغان هي الأسوأ بنظري… 

فلا يمكن الا يلاحظ الانسان الواعي ان ما يجري ليس الا استغلال سياسي باسم الدين. وكأنه يجسد لنا بالفعل مقولة ماركس بأن الدين هو افيون الشعوب. 

هل كان المقصود من الأفيون هو حالة التيه والانهزام الذي تشاهده على حواف الطرقات وعند حدائق المساجد الممتدة لأناس فقدوا بيوتهم على ما يبدو وأرزاقهم؟ لوهلة ذكرتني استانبول بسان فرانسيسكو- وسط البلد- عندما تتحول شوارعها مساء الى أماكن نوم لفاقدي البيوت والمتسولين. من اين جاء كل هذا الفقر بمدينة تبنى فيها كل هذه المساجد؟ 

سؤالي ليس حصرا عن استانبول واولوية الأنظمة ببناء المساجد على توفير سكن للشعب. فهو مشهد يتكرر. 

من ناحية، اعترف بأنني اشعر ان بناء المساجد مهم. فهو بالمحصلة انعكاس لحضارة الشعوب وتثبيت للمستقبل. في الامارات مثلا، تشاهد المساجد ولا تلبث تفكر أنه إذا ما استمرت وتيرة البناء بهذا الشكل، سيكون بالنهاية لكل مواطن مسجد. ولكن، تنظر حولك وترى انفتاح “بنائي” على كافة الأصعدة. فلا ضير من تسابق معماري يدخل فيه المسجد كذلك في بلاد لا تنقصها الأموال ولا المساحات، ولا ترى الفقر امامك. والحقيقة، أنك قد لا تهتم كثيرا، فهناك سباق لبناء حضارة غير موجودة اكثر، فمهم ما يجري من سباق بناء. 

ولكن في تركيا… باستانبول تلك المدينة الأبدية، كم من جامع جديد تحتاج اليها المدينة؟ لا يمكن الا ان تفكر بهذه المدينة بسياق من يمشي بها ويعيشها وما يقف عليها من مباني. فهي مدينة حاضرة بسكانها وحجارتها. لا يمكن ان تغض الطرف. فناسها سواء كانوا ابناءها او لاجئين اليها او سائحين بها يصبحوا بلحظات تواجدهم بها جزء منها. تأخذك هذه المدينة اليها. تنسجم بداخلها وتعيش بها وتتنفس عبقها فتأسرك في أبديتها. 

اترك رد

اكتشاف المزيد من نادية حرحش

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading