تخطى إلى المحتوى

طه حسين والأدب الجاهلي

لا يوجد هناك شك على مدى عبقرية طه حسين. وقد ينطبق عليه الآية القرآنية “إنما يخشى اللهَ من عباده العلماء”.

خلال قراءتي لكتاب طه حسين في الأدب الجاهلي، تجلّى أمامي الغزالي. وأعترف ان هذا ليس بإيجابي لأني ناقدة شرسة للغزالي. ولكن أقر بأن الغزالي من أكثر الناس عبقرية مروا بالتاريخ الإسلامي وتركوا أثرا أبديا. وأكاد أقول أن طه حسين ترك نفس الأثر. ولكن بينما أراد الغزالي جعل احياء علوم الدين الكتاب المرجعي بعد القرآن، أراد طه حسين مسح الأدب العربي ما قبل الفترة الاموية الى الأبد ، وبدء الأدب العربي مع لحظة نزول القرآن. والاثنين من العلماء يصعب الوقوف امامهما، لأسباب عديدة، لم يعد من الصعب فهمها.

في الآونة الأخيرة أقف كثيرا امام موضوع الاستشراق وتأثيره على المفكرين العرب، وبالتالي على الواقع العربي الحالي. وإذا ما اعتبرت الغزالي عراب انحطاط وضع المرأة في الفكر العربي الإسلامي، فإن طه حسين عراب مسح الأدب في تدرجه الطبيعي، وبالتالي التشكيك بعدم اصالته، وبهذا التشكيك بأصل كل ما يمت للأصل العربي من منتج تراثي اصيل.

طه حسين تبنى نظرية التشكيك لديكارت، ويعيد التأكيد في كتابه أنه ليس استشراقي. كلامه عن الأدب وسرده لا يمكن الا وان تمسك بوجدان القارئ. هنا مرة أخرى، يذكرني بالمنقذ من الضلال للغزالي. فعندما يضع الكاتب نفسه في حالة بوح شخصية، لا يمكن الا ان يكسب تعاطف القارئ مهما دس بين السطور من سموم (هنا أرجع لأعمال أخرى لطه حسين كالأديب والأيام).

حيث يأخذك الكاتب حيث يريد هو لا حيث تريد انت كقارئ. يحدد مسار تحليلك بما يريده منك ان تراه وتعرفه.

في الأدب الجاهلي، يسرد طه حسين التاريخ والاحداث والامثال بمتعة وتشويق والكثير من المعلومات والمصادر والمراجع. يحلل ويمحص ويحاور، ويضع التاريخ العربي امامك بحرفية رائعة.

نظرية طه حسين باختصار، انه أراد ان يشكك بوجود الادب العربي قبل الفترة الاموية. أي ان كل ما عرفناه ووصلنا من الادب او الشعر الجاهلي ليس الا صنيع الفترة الاموية، وذلك لأنها كانت فترة قوة وتحدي وتقديم للدولة الإسلامية لما سنعيشه كمسلمين لاحقا. يصل طه حسين في تشكيكه الى التأكيد بأن الادب الجاهلي غير موجود. فكل ما نعرفه من تاريخ عربي هو زعم ما قاله القدماء الذين تم اختراعهم بالفترة الأموية.

ولكنه …لا يشكك بوجود النبي وبالتالي القرآن والسيرة. أي ان طه حسين يقرر محو فترة بعينها والتجاوز عن فترة تالية. على الرغم من ادعائه ان الفترة الاموية هي فترة صناعة الادب، الا انه يستثني القرآن والسيرة.

هنا تسقط نظرية طه حسين بالنسبة لي، لأن تحسبه من واقع سيتم عقابه فيه إذا ما اقترب من التشكيك بالقرآن سيضعه للمساءلة. وفي نفس الوقت، لا يمكن لصاحب عقل عادي الا الشعور بالفجوة التي يخلفها لك كمحصلة. فسقوط الادب الجاهلي يسقط القرآن بالمحصلة. الا ان إصراره ان القرآن هو الكتاب العربي الوحيد بالفترة ما قبل الاموية يضع القرآن مكان القدسية البحتة التي تغيب المنطق على الرغم من نهجه لنظرية التشكيك التي لا يمكن العمل بها بلا منطق. إخراجه للقرآن من المنطق التاريخي لتطور اللغة العربي وادبها، يجعل فكرة الاعجاز والتحكم بعقول الافراد المتمسكين باللا ممكن الا من خلال المعجزة ضرب من التحايل على الجموع البسيطة.

هنا ارجع الى الغزالي، حيث ما يعرفه العوام يجب ان يكون محدودا بما يمليه عليهم الخواص.

كإنسانة مؤمنة، أعتبر ان الايمان بالله وبالتالي بالدين المنزل على كمسلمة مصاحب لما يدركه المنطق. فالرسول اتى للناس بما كان متداولا وقويا في زمنه. هذه هي قوة القرآن واعجازه. انه جاء لقوم كانت اللغة هي أقوى ما لديهم وما يتغنون بها من بلاغة. أن يأتي الرسول بقرآن على قوم لا يأبهون بالبلاغة والادب، يشبه من هو مبصر في بلاد العميان!

يحاول طه حسين تأكيد فكرة ان التنافس الذي حصل في الفترة الاموية بين الموالي من الفرس وغيرهم الذين حاولوا التنقيص من العرب وتجهيلهم وفرض ثقافاتهم وما يعلمون به من علوم ومعرفة، وبين المسلمين من الأصول العربية كالجاحظ الذي استمات في محاولاته لتثبيت البلاغة العربية والادب منذ الجاهلية.

بينما ينفي اللغة العربية في صيغتها التي نعرفها عن اليمن، الا انه لا ينفي وجود الكنعانية والقحطانية، والتي بالفعل انتجت “بعض” الشعر، ولكنها مبعثرة وتبقى نماذج محددة، وان اثبتت شيء، تثبت فقط انها إسلامية قبلية. أي من البديهي ان تكون كتبت بعد الإسلام لا قبله.

امرؤ القيس يبقى معضلة بالنسبة لطه حسين، لا يستطيع ضحده او التشكيك فيه او مسحه… ولكن …امرؤ قيس الكندي، القحطاني، اليماني، بالرغم من الاتفاق عليه، الا ان نسبه يبقي مكان تشكيك لطه حسين. وهنا مرة أخرى قد ينتصر طه حسين ولكنه في نفس الوقت يثير تساؤلا أكبر، ان عمليه التشكيك هذه تجعلنا نشكك بالآخر، بالرسول هنا … فتاريخ الرسول ممكن ان يكون أكثر تشكيكا، فكيف يفصل الأمور بجعل هوة ما بين الرسول وما كان قبله وصار بعده. وكأن القران طفرة بالتاريخ العربي وجاء من فراغ مطلق مليء بالظلام.

فما الذي أراده طه حسين؟

بعد التشكيك، يرجع ليجزم بالتأكيد على ان بعض الشعر الجاهلي لا يمكن التشكيك فيه. يخيفني طه حسين في هكذا توجه بالرغم من الجرأة الكبيرة والمعرفة الواسعة. هو درب الأشاعرة في اثارة التيه لا التشكيك كمحصلة. لأن الشك مهم في صنع المنطق واشغال العقل، الا ان التشكيك من اجل مأرب يراد به مأرب اخر، من اجل تثبيت مطلق لا يمكن التشكيك فيه ولكن مباح التشكيك في ما حوله فهذا لا يشكل الا حالة من التشويه لا التشكيك.

اترك رد

اكتشاف المزيد من نادية حرحش

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading