تخطى إلى المحتوى

الانتخابات والقدس: حي الشيخ جراح نموذجا 

الانتخابات والقدس: حي الشيخ جراح نموذجا 

منذ أكثر من عشر سنوات، او ربما منذ ما لا يبعد عن الفترة الزمنية للانتخابات الفلسطينية السابقة، بدأت ازمة حقيقية في تاريخ تهجير الفلسطيني من ارضه، بدأت بترحيل ثلاث عائلات واستيلاء المستعمرين على البيوت. تخلل الامر نصب خيام اعتصام الأهالي لأشهر طويلة في مشهد أعاد الذاكرة لخيمة اللجوء الأولى. 

كان الحدث جللا بكل ما تحمله الكلمة من وقع على الاذان. فكيف يعقل ان يتم مصادرة حق عوائل بالعيش في منازلهم التي أعطيت لهم كملجأ بعد ان تم تهجيرهم من بيوتهم في القدس الغربية ابان النكبة الفلسطينية الأولى سنة ١٩٤٨. 

بدا الامر قمة في التعجيز بفقه الجلاد والضحية. فمن جهة يطالب أصحاب المساكن السابقون ببيوتهم من اليهود، في حين لا يقدرون على الرجوع والمطالبة ببيوتهم التي لا تزال أوراق ملكيتها ومفاتيح بيوتها بحوزتهم.

قصة التهجير الفلسطينية التي عانى منها نصف الشعب الفلسطيني ولا يزال بين تهجير وابعاد واقصاء ومنافي ومخيمات.

ان كنت اذكر لحظات جلية في بدء عملية التصفية الجديدة لسكان القدس، فإن قضية الشيخ جراح قلبها. فمنذ تلك اللحظة صار الاستعمار الاستيطاني ان يتربع داخل الاحياء لا على المداخل. فصار التوغل محيطا من كل الاتجاهات بجدار وقطار وجسر وشارع سريع وطرق تؤدي الى قلب بيتك الذي صار جارك فيه مستعمرا. كانت الممارسات المشابهة بسلوان تأخذ شكلا اخر، فالتمركز ببؤر كبيرة كالمحميات محاطة بعتاد عسكري يفوق عدد الساكنين ويكلف دولة الاحتلال تكاليف باهظة. 

في الشيخ جراح تغير المشهد الاستعماري تماما، فصار المستعمر الجديد يسكن بنفس الحي ويمشي معتدا بنفسه وبلا حماية او حراسة تذكر. وما بدأ ببيت او بيتين صار اليوم قضية ٢٨ عائلة فلسطينية التي استلمت اخطارات من المحاكم الإسرائيلية بالإخلاء من المنازل تباعا. 

في خطط الاحتلال الإسرائيلي لتهويد القدس، شكل حي الشيخ جراح مركزا مهما بالطريق المشكل لما تسميه المخططات بالحوض المقدس، ويشمل اليوم كذلك خطة شاليم، أخيرا خطة وادي السيليكون في واد الجوز التي من المخطط تحويل المنطقة فيها الى “حديقة قومية”، وعليه، يبدو الاستيلاء على المنازل جزءاًأساسيا من عملية تهويد محكمة تحول الحي فيه الى منطقة يهودية توراتية بحجة مغارة الصديق شمعون التي يحج اليها المتدينون لشعائرهم التي صارت مقدسة وتستدعي التجمهر السنوي اليها في الأعياد اليهودية المختلفة. ومع المستعمرة التي أقيمت على سفح الوادي على “كرم المفتي” وقصره، وكذلك بخط القطار الذي يلتف حول الشيخ جراح ليمر الى مركز المدينة، فتصبح المواصلات في قلب الحي الفلسطيني للمستعمرين متاحة وسهلة أكثر من أي مكان اخر. وبذلك يكون الطوق المشكل للحوض المقدس من خلال خطة شاليم التي تشمل كذلك خطة “الحدائق القومية حول الاسوار” أكثر احكاما في السيطرة المتشعبة والمحكمة على هوية المدينة العربية، وفرض صبغة يهودية الطابع والتواجد من كل الاتجاهات.

عندما كنت طفلة، كان المتدين اليهودي الذي يمر من الشارع المؤدي الى المدرسة (شارع نابلس) والذي يبدأ من انتهاء حي الشيخ جراح ليلتقي بباب العامود، يمر مهرولا راكضا بلمح البصر، خشية تعرض أي له. اليوم، يتبختر المتدين المسلح والملتحي بمفرده، والفلسطيني منا يمر مهرولا خشية احتكاك او تنكيل او تعرض من قبل المستعمر الارعن.

منذ تصاعد ازمة السكان الأخيرة بعد اخطار المحكمة الإسرائيلية بإخلائهم لمصلحة المستعمرين، تكثفت الجهود من اجل محاولة إيقاف امر الاخلاء. فيقف السكان على مدار اليوم ربما في وقفة احتجاجية لعل الضمير الإنساني يستيقظ. 

في ظل التعقيدات التي تجعل من اثبات حق السكن لأصحاب المنازل صعبا في غياب أوراق رسمية، يجب تدخل الأوقاف الإسلامية من اجل اثباته. 

فالجمعيات الاستعمارية الناشطة بالاستيلاء على المنازل في القدس تترصد وتجلس في دائرة مسجل الأراضي الإسرائيلية بما يسمى بحارس أملاك الغائبين. ولقد اوجد ادعاء وجود أملاك لليهود ما قبل الاحتلال فرصة سانحة لخلط الحابل بالنابل. قد يكون جزء من الادعاء الإسرائيلي صحيحا بشأن الملكية، فلربما أصحاب تلك البيوت اليهود تركوها أيام النكبة وصارت بيوت الفلسطينيين في الجانب الغربي للمدينة هي مكان سكنهم الجديد. وبالعادة ليس من الصعب اثبات الإسرائيلي في هذه الحالات تملكه للمكان الذي ينوي الاستيلاء عليه، فالنظام يخضع لخدمته في هذا الامر. فهناك الكثير من التزوير والتلفيق، وما يبدأ بحصة من ٢٤ يصبح مسمار جحا ويتحول في غضون شهور الى مستعمرة.

في حالة حي الشيخ جراح، بدأت المشكلة منذ سنة ١٩٧٢ عندما سجلت جهات يهودية وقفية الأرض بملكيتها، وقدمت في السنوات التالية دعاوي ضد بعض عائلات الحي مطالبة بالإخلاء. الا ان المحكمة ردت الدعوى ولكن لم يكن بالإمكان التعرض للسكان لأنهم بكل الأحوال تحت حماية قانون الايجار الذي يحمي المستأجر، ولكن لم يتم التدقيق في صحة ملكية اليهود للأرض. ولأن السكان كانوا على قناعة بأن هذه العقارات من حقهم بموجب عقود الايجار التي منحتها لهم الأمم المتحدة عند نكبتهم الأولى، حاولوا على مدار العقود الطعن في صحة أوراق الملكية المقدمة. وفي تلك الاثناء تم بيع الأرض أكثر من مرة لجهات استعمارية مختلفة ليزيد كذلك تعقيد الأمور التي تجعل من اثبات الملكية أكثر استحالة. 

ويبقى أصحاب المنازل في وقفتهم الاحتجاجية التي تبدو أضعف الايمان في معركتهم لمحاولة عدم الترحيل مرة أخرى. والسلطة من جانبها تقدم أضعف الايمان كذلك. فتكتفي بالمتابعة. 

اليوم، وفي طريقي الى المنزل مررت من امام البيوت ورأيت شعارات سوداء وبيضاء على امتداد الشارع. وصحافية تقف وحيدة ربما تصور، ربما تحتج. وأصحاب المنازل بالتأكيد باستراحة محارب. 

أفكر بهزالة الوضع وضعفه. 

ما الذي يجعل العالم ينظر الى هذه القضية ويتحرك ويتدخل من اجل حماية هؤلاء السكان، الذين باتوا يعرفون ان الترحيل قادم لا محالة. يحاربون كل يوم كوابيس محدقة لعباءات يمشي بداخلها مستعمرون متربصون لكل حركة يقومون بها. يحيطونها ويتلصصون النظر من الشبابيك المجاورة لبيوت استولوا عليها من قبل. والشرطة متأهبة لحماية المستعمر إذا ما تعرض لفلسطيني، والتنكيل بالفلسطيني مع كل فرصة متاحة. 

أفكر بانشغال السلطة والشعب بالانتخابات التشريعية القادمة. 

أفكر للحظة ببعض الخبث وأقول في نفسي، ربما تفيد الانتخابات هؤلاء الناس اليوم. ربما تتحرك النخوة في طوابير القوائم وأصحاب السلطة ويأتون على الأقل لملء الشارع الفارغ الا من الشعارات المنتظرة لمن يأتي ويحملها تضامنا. 

قد تساعد حمى الانتخابات في رفع حمى المشاعر والتعاطف والتقدم خطوة الى ذلك الشارع لمؤازرة السكان. 

اطرد الفكرة من رأسي لوهلة، ويعود مشهد أحد أصحاب البيوت الذي تعدى عمره السبعين بلا شك، وابنته الشابة التي تدير حملة دعم لعل وعسى يتم انصافهم. اتخيل ابي، اتخيل ابنتي، اتخيل امي وقلقها لو كنا نحن في هذا الوضع. اتخيل كيف ستكون الكسرة في عيون ابي، كعيون ذلك الرجل. 

مشهد يومي أمرّ امامه منذ أسابيع، أرى تجمهرا صغيرا، تجمّع لسيارات الشرطة، كاميرات وسيارات دبلوماسية. 

اسأل نفسي، وماذا بعد؟ 

ربما يكون السؤال الأخطر ماذا بعد ان يتم ترحيلهم؟ هل هناك مكان يذهبون اليه؟ هل تقوم السلطة الفلسطينية بتأمين مساكن لهم؟ هل يتم التواصل معهم للتنسيق ربما للحظة نكبتهم القادمة؟ 

هل ينتهي الدعم بعد تلك الوقفة والتقاط بعض الصور؟ 

منذ الازمة الأولى بال ٢٠٠٨، يبدو ان الكثير تغيّر، بالسلطة وفينا. عندها كنّا نرى على الأقل استجابة او محاولات او مؤازرة، ولكنّا تدريجيا يئسنا ربما من السلطة كما يئسنا من أنفسنا، وصار دعمنا كما دعمهم، وقفة وصورة وخبرا فيسبوكيا او صحافيا وشعارات فقدت ثقلها الا من حجمها التي تحمله اللافتة. 

كم هو مؤلم التفكير بالأمر اثناء مروري امامهم…اصحاب البيوت المستغيثين بأي كان.. بأي مؤازرة، بأي دق على الخزان الذي يكاد يخنقهم.. فكيف يكون الامر بعيش هذه الحياة يوميا. 

حياة بانتظار تهجير آخر. 

اترك رد

اكتشاف المزيد من نادية حرحش

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading