تخطى إلى المحتوى

وسط سفك الدماء والتشظي وتفكك الوطن: تأملات في الخسارة والتضحية 

لم اعد اشعر بجدوى الكتابة وسط الاحداث الدامية والكارثية التي نعيشها. من ناحية، هناك شعور بالاسى في كل مرة نخسر فيها حياة إنسان كانت له أحلام حياة قبل لحظات. ربما نتعامل مع فكرة الاستشهاد ببعض التّمنّي والملاذ نحو ما لا يستطيع بشر التحكم به، ما ينتظر المرء بعد الموت. ولكن هنا، على هذه الحياة، نخسر إنساناً كانت له أحلام للتو. تخسر أمّ ابنها ويقتلع الدهر قطعة منها، تخسر عائلة معيلها، تدمي عيون وتتحسر قلوب أحبّة ومعارف وجيران وأصدقاء، يخسر المجتمع إنساناً كان له حلم مستقبل يبني فيه وطناً. 

من ناحية، ارتبطت فكرة التضحية في سبيل الوطن بوجداننا بطريقة أخرى، فكلّنا فداء للوطن عندما كان للوطن وجهة. كانت أصواتنا تصدح بكلمات أغان كبرنا على التمسك بمعانيها، “انا من ترمسعيا، وكمان من طبريا، انا ابن القدس العربية، ابنك يا فلسطين…انا اسمي شعب فلسطين.” 

ولكن…لقد علّمنا الواقع الذي نعيشه بكل أسف، ان تكملة الاغنية “اليوم اموت، اليوم اقاتل، اليوم أحيا، ستمسي مع كل تضحية، ليكون الشّهيد أضحية لأولي سلطة تسلّطوا علينا، يعتاشون على دم أبنائنا للمساومة على صراع نكون نحن الأضاحي فيه. يساومون على بقائهم مقابل تضحياتنا. لقد صار الوطن لا يتعدّى نفوذ قائد يرى نفسه بحجم وطن، حتى صار هو الوطن. 

تصبح الأمور أكثر تعقيداً، في وقت صارت هناك حاجة للتأكد من خبر الموت المفجع، فلا نعرف ان كنّا سنزفّ خبر الموت شهادة أم غدراً. علينا التّأكد انّ كان القتل قد حدث برصاصة احتلال أو سلطة او شجار. 

كيف نشجب قتلاً وحشياً من قبل الاحتلال وكيف نتعامل مع اعتقال همجيّ من قبل السلطة؟ 

كيف نشجب غياب العدالة وصمت المجتمع الدولي من جرائم الاحتلال والسّلطة تفلت من جرائمها ضدنا؟ 

كيف نطالب بعدالة لأسير او ضحية احتلال وعدالة نزار لا تزال مفقودة؟ 

كيف نصرخ ضد ضم المستوطنات وبناء وحدات جديدة، والسلطة ابتلعت ما تبقى من أراضي لمصلحة اربابها ومنتفعيها؟

حياتنا صارت مجرد انتظار خبر فاجعة تحبطنا وأمل مصيبة تحلّ على رؤوس من يظلمنا. 

من نابلس الى جنين فحوارة وترمسعيا، وجع وحرق قلوب وحسرة. عجز عن الفعل وعن التعبير وعن الإحساس. صارت جنين قارّة منفصلة عن معازلنا التي نريدها آمنة ولو لبرهة. صارت جنين معزولة مفصولة عنا وكأنها غزة أخرى. شهيد تلو الشهيد ما بين نابلس وجنين، ولم نعد حتى نلتفت للخبر. الاجتياحات صارت قصفاً جويّاً وكلّ ما نستطيع فعله هو وضع شجب شديد أكثر حدّية ربما في بعض الأوقات إن سمحت لنا الرقابة الذاتية التي فرضناها على أنفسنا تحسّبا من أي شرّ قادم من كل اتجاه، كلّ على حسب تهديد مصالحه أو مواقعه للإغلاق او الابتزاز او الاعتقال او القتل.

وبين شباب تفنى أرواحهم في سبيل حرّيّة لا يسعها وطن، نمشي في الشارع خشية أن يفنى وجودنا الفاني على هذه الأرض من رصاصة طائشة، أو طوشة عابرة، أو شباب بسيارات صارت سمتهم التهور وكأنهم حوادث قتل موقوتة.

عنف (مجتمعي وسلطوي) يحاصرنا من كل صوب، وعنف (احتلال) يضغط على وجودنا من فوقنا ومن تحتنا. لم يعد هناك متسع حتى لرثاء من يرحلون عنوة وظلماً. لم يعد لفكرة المقاومة معنى نستطيع أن نحصره في عمل محدّد، فكلّ ما يجري حولنا حسابات لا نعرف أصل تصفيتها. لا نعرف المقاوم من المساوم ممّن يحملون السلاح. لا نعرف الوطني من العميل ممن يصدحون بالنداءات والشعارات.

كيف وصلنا الى هذا القعر من الحضيض لم يعد حتى سؤال يمكن طرحه. وكيف لنا ان نخرج من عمق هذا القعر لم يعد هناك جدوى كذلك من التفكير به. كلّ منكمش، منعزل، منزوٍ بزاوية في هذا الحضيض السّاحق. 

ويبقى كلّ يتعامل مع كارثته الواقعة عليه وحيداً. لم تعد عيوننا تبصر ما ترى. لم تعد أحاسيسنا مفعمة بحاجتها لوطن. فمنذ أن صار الوطن قائدا يُفرخُ قوّاداً، بات المواطن بعزلة اعتزل فيها تدريجياً ما كان وطن، في محاولة نجاة بائسة، بعثرتنا اكثر، شتتنا أكثر، فرقتنا أكثر، حتى صار ما يحدث في جنين خالصاً لجنين، وما يحدث في حوارة حواراً في حوارة، وما يحدث في نابلس لا ينوب فيه الا أهل نابلس، وما يحدث في ترمسعيا لا يخصّ الا أهلها، والخليل قارة، ورام الله قارة، وغزة قارة والقدس فلك تدور حولها القارات.

يستحضرني قول رسول الله الكريم: “من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان”. نحن نعيش في مرحلة أضعف الايمان، حيث لم يتبق من الإنسان منّا الّا مسخاً، صدق في وصفه ابن خلدون حين قال: “إذا فسد الإنسان في قدرته، ثم في أخلاقه ودينه، فسدت إنسانيته وصار مسخ على الحقيقة”.

اترك رد

اكتشاف المزيد من نادية حرحش

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading