ان الثورة بالنسبة للقيادة الوطنية الفلسطينية كانت منذ اللحظة الاولى مجرد ضاغط يهدف الى تحسين اوضاعها كطبقة لدى الاستعمار البريطاني، وقد أدرك البريطانيون هذا الواقع ادراكا عميقا وتصرفوا وفقه، ولكنهم لم يكلفوا أنفسهم عناء منح تلك الطبقة الامتيازات التي تطمح لها. فقد كانت لندن مصرة على تلبية التزاماتها ازاء تسليم الارث الاستعماري في فلسطين للحركة الصهيونية.
أعلن الرئيس الفلسطيني أنه سينكّس العلم الفلسطيني هذا العام في ذكرى وعد بلفور. الحقيقة لا اعرف ان كان هناك أعلاماً نكّست، ولكن بالتأكيد ان الرئيس اثناء زيارته لإيطاليا رفعت فيها الاعلام اثناء استقبال الرئيس الإيطالي له في اليوم الذي صادف ذكرى الوعد المشؤوم، في جولات يبدو ان وزارة الخارجية الفلسطينية تشقى من اجل ترتيبها. يبدو مثيرا للسخرية، كما تعودنا ان يعلَن عن تنكيس علم في دولة، يذهب رئيسها بنفس اليوم الى محافل دولية مع زمرته للاستقبالات ويبرق في التهاني بيوم تنكيس العلم الذي أعلنه، لاستقلال دول مختلفة ، ويقلد اوسمة.
اما السيد رئيس الوزراء وسفير دولتنا العتيدة في بريطانيا، فتبدو السعادة على وجوههما في الصور خلال مؤتمر المناخ بغلاسكو عارمة. وصورتهما مع وزيرة خارجية بريطانيا وتوثيقها على صفحة رئيس الوزراء، الذي لم ينس كذلك هو والسفير كما الرئيس اعلان ندبهما وتذكير العالم عن ظلم بلفور وشؤمه. ولكنهما للحق لم يطالبا بريطانيا بالاعتذار هذا العام.
أحيانا، لا اعرف ان كنت انا من افتقد لقواعد الدبلوماسية، ولكني انظر الى القيادة الفلسطينية التي لا تعرف حتى ابجديات العمل السياسي والدبلوماسي. كل ما يهم هذه القيادة في الآونة الاخيرة ظهورها وكأن الأمور اعتيادية. أي فرصة للتواجد بأي مكان يظهرها وكأنها قيادة اعتيادية. تصوير في أي وكل فرصة وكأنها محاولة تثبيت او توثيق شرعية مفقودة، او بالأحرى متلاشية. فلا ضير بالنسبة لهؤلاء التوقيت، فأقوالهم وافعالهم لا تلتقيان.
مع الأسف قد تنطوي هذه المحاولات من الظهور الاعلامي الاعتيادي على الناس، وعلى الدول التي تريد ان تشرعن وجود هذه السلطة بأي شكل- لبعض الوقت- ولكنها بالحقيقة لا تحتاج للكثير من التدقيق والتوقف عندها، لأن الأمور قد انتهت. فبين محاولة للرئيس وسلطته بكسب الشرعية من خلال صورة، وهرولة المرتزقين للجلوس بمجلسه او تسلم جوائزه واوسمته، يبقى المشهد لكل صورة بلا معنى، لا يصدقها أحد.
حال السلطة كزواج يعرف جميع اطرافه، من زوج وزوجة وأبناء وعائلة واصدقاء ومعارف انه انتهى، ولكن لا يجرؤ أحد على اعلان الطلاق، ويستمر الجميع بين تباهي من طرف ونميمة من طرف. ومع هذا يعيش كل طرف حياته الخاصة كما يحلو له منفصلا، مدعيا، محاولا، ان يبقي ما يمكن ابقائه امام الناس، حتى يأتي وعد الله او وعد بلفور او وعد ترامب او ربما بايدن…. او الأقرب للواقع… وعد المنسق.
جاء وعد بلفور كنذير لما هو قادم. شكّل بداية ما أصبح فيما بعد المأساة الفلسطينية عام ١٩١٧، والتي على أثرها وعد بلفور اليهود بوطن في فلسطين. على الرغم من أن الإعلان تضمن المحافظة على الحقوق المدنية وكذلك الحقوق الدينية لغير اليهود، إلا أن الزعامات الفلسطينية اعلنت عدم ثقتها بهذا الاعلان واعتبرته خيانة في الموقف البريطاني.
مع هذا وقع فيصل الأول مع حاييم وايزمان رئيس المنظمة الصهيونية العالمية في مؤتمر باريس للسلام عام ١٩١٩ اتفاقية فيصل – وايزمان ، الذي اعطى بها تسهيلات لليهود في إنشاء مجتمع للتعايش في فلسطين وأقرّ بوعد بلفور.
واستمرت الزعامات حينها بالتنديد والتشكيك بوعد بلفور ونية البريطانيين. ثم جاء الانتداب وعلى امتداد عقدين ونصف للتحضير لهذا الكيان الموعود، فتنظمت الصفوف ليبدأ الوطن بالتسرب الى ما هو قادم.
عقدان ونصف عمل الانتداب البريطاني فيها على التمهيد والتحضير لقيام دولة إسرائيل. تضاعف فيها اعداد اليهود المهاجرين الى فلسطين مثل الجراد، وكأنتفشي الجراد الذي اجتاح فلسطين سنة ١٩١٥ كان مؤشرا لحرب جراد بشرية كانت قد بدأت تجتاح المكان في ارضه وفضائه وتنهش أبنائه.
وعليه بدأت الزعامات الفلسطينية تنظيم صفوفها.. وصل عدد دورات المؤتمر العربي الفلسطيني سبع دورات حتى عام ١٩٢٨. وتم الإعراب في كل مرة عن القلق من الأهداف السياسية الصهيونية والاستمرار في رفض وعد بلفور.
عند افتتاح الجامعة العبرية سنة ١٩٢٥، التي عرفنا لاحقا من خلال وثائق الأرشيف الإسرائيلي التي عرضها المؤرخ الإسرائيلي هلل كوهين في كتابه جيش الظل انه تم شراء الاراضي المقامة عليها من راغب النشاشيبي الذي شغل منصب رئيس بلدية القدس وكان أحد أبرز الزعامات الموجودة. حضر بالإضافة الى بعض الشخصيات من الزعامات حينها شخصيات عربية مرموقة ومشهورة، فأرسل طه حسين برقية تهنئة ولطفي السيد الملقب بأستاذ الجيل مندوبا عن الحكومة المصرية. وشارك بوضع حجر الأساس كل من مفتي القدس ومطران القدس- رغما عنهما!
تذكرت اكسبو دبي الحالي…. ومرة أخرى أتساءل، تغيرت الوجوه ولكن بقيت القيادة الفلسطينية على حالها، كما الوضع العربي في تقلباته ومصالح حكامه.
يقول غسان كنفاني في كتابه عن افتتاح الجامعة العبرية وتحذير الشاعر اللبناني وديع البستاني الذي كان قد حذر من وعد بلفور: “بوضوح يبدو لنا وكأنه نظر في مرآة. ومن المفيد تتبع حقبة من الزمن يمثلها البستاني ستزدهر في الثلاثينيات، حين نضحي على ابواب الثورة المسلحة. طليعة كبيرة من الشعراء والقوالين الذين ألهبوا النضال المسلح وجعلوه ايضا جزءا من التراث الثقافي للجماهير التي كانت ترى في ” كلب الامير اميراً”. ففي ٢٩ كانون الاول ١٩٢٠ وجهت حكومة الانتداب البريطاني الى رئيس تحرير مجلة الكرمل رسالة رجت فيها نشر قصيدة كان قد اهداها الشاعر الشهير معروف الرصافي، الذي كان يزور فلسطين آنذاك، الى المندوب السامي هيربرت صامويل. ولكن صاحب الكرمل لم يجد من اللائق نشر تلك القصيدة التي لا مكان ان توصف الا بالخسة دون رد عليها تطوع لكتابته وديع البستاني:
خطاب (يهودا)؟ ام عجاب من السحر؟ وقول الرصافي؟ ام كذاب من الشعر؟
قريضك من در الكلام فرائد وانت ببحر الشعر اعلم بالدر
ولكن هذا البحر بحر سياسة إذا مد فيه الحق اذن بالجزر
اجل! عابر الاردن كان ابن عمنا ولكننا نرتاب في عابر البحر
يضيف كنفاني كيف تعتبر هذه القصيدة التي اشتهرت في حينها، انها “في الحقيقة وثيقة سياسية فذة، فالمناقشة فيها لا تسفه الرصافي فحسب، بل تثبت معطيات سياسية على غاية من الاهمية في ذلك الوقت المبكر، منها، بالإضافة الى هجرة يهود اوروبا وخطرها، دور بريطانيا بالتجزئة العربية، ووعد بلفور وآفاته الخ…”
استمرت خلال فترة الانتداب البريطاني فرق الإرهاب الصهيوني من هاجانا وغيرها بالتدريب، وتشكلت لتصبح عصابات قومية يهودية، واسست لما سيكون جيشاً إسرائيلياً. فتحت المصانع والشركات والمكاتب. واسست الجامعات والمدارس والمعاهد. توزعت الكيبوتسات الزراعية والصناعية لتعد العدة لبناء الدولة العتيدة. تشكلت القوى والأحزاب السياسية والنقابات العمالية، وتم تسهيل ولادة الدولة بملعقة ذهبية ودعم عربي ظاهري ومبطن.
في هذه الاثناء تسربت الأراضي الى اليهود وبدأت المستعمرات في شق طريقها نحو الوجود. بين السنوات ١٩٢٨ ـ١٩٢٩فقط تم إقامة حوالي ٦٠ مستعمرة جديدة. ارتفعت نسبة ملكية الأراضي الصهيونية من ٢،٠٤ بالمئة إلى نسبة ٤.٤ بالمئة سنة ١٩٢٩، ونسبة تعداد السكان اليهود ارتفعت من ٩،٩ بالمئة إلى ١٧،٦ بالمئة خلال نفس الفترة.[1]
واستمرت الزعامات الفلسطينية اعتبار الانتداب البريطاني ليس الا مشروعاً انجلو صهيونياً، تواجد من اجل تنفيذ البرنامج الصهيوني الذي تم اقحامه على الفلسطينيين بالقوة، وعليه اعتبروه باطلا من ناحية اخلاقية وقانونية.
ومع هذا، استمرت القيادة الفلسطينية حينها بالتصرف كما تتصرف اليوم.
يتناول غسان كنفاني بحثه وتحليله وكأنه يتكلم عن اليوم. السنوات فقط تختلف، وأسماء الاتفاقيات والتفاهمات وشكل الهبات والثورات وأسماء الزعامات من اشخاص وأحزاب. لم تكن القيادة صاحبة امرها الا امام الجمهور من الشعب المغيب.
يقول كنفاني:
“ورغم ان بريطانيا قامت في تلك الفترة بتحدي القيادات الفلسطينية بالضبط في النقطة التي خدعوا فيها الجماهير، وهي المتعلقة بمضوع الهجرة اليهودية الى فلسطين، وان هذه القيادات قررت مقاطعة اللجنة الملكية الا ان الملوك والامراء العرب أرغموا هذه القيادات مرة اخرى في اقل من ثلاثة شهور على الطاعة، فقد كتب الملك عبد العزيز ال سعود والملك غازي رسائل للحاج امين تقول: ” وبالنظر لما لنا من الثقة في حسن نوايا الحكومة البريطانية لإنصاف العرب، فقد رأينا ان المصلحة تقتضي الاتصال باللجنة الملكية.”
كانت القيادة الفلسطينية الموجودة مشكّلة بالمقام الاول من الأعيان من عائلات محددة، والذين شكلوا تدريجيا مع الأحزاب السياسية العربية الفلسطينية، مثل، الحزب العربي الفلسطيني، حزب الدفاع القومي الفلسطيني، وحزب الاستقلال، الخيوط الأولى للتطور الديمقراطي، والتي بقيت كظاهرة من مظاهر النقاش المستمر الذي تضمن منافسات تقليدية داخل تلك العائلات. الدكتور حسين فخري الخالدي، رئيس بلدية القدس في الثلاثينات من القرن العشرين، أعرب صراحة عن شعوره في مذكراته التي انتشرت قبل عدة سنوات، من رعبه حول الانقسام والتناحر الدائر بين العائلتين (الحسيني والنشاشيبي)، والتي تعدت خلافاتهم مصلحة الامة. وغالبا ما ادى هذا التنافس والعداء إلى التآمر مع العدو من أجل ايذاء الطرف الاخر.
هذه الأحزاب كانت في مجملها كما وصف غسان كنفاني: “الافرازات الني تبقت عن الحركات التي نشأت ضد العثمانيين منذ اوائل القرن، وهذا يعني انها ـ من جهةـ لم تكن متمرسة بالنضال الاستقلالي، ويعني من جهة اخرى ـ انها كانت اطارات عامة، دون مبادئ محددة، تحكمها شلل من الوجهاء، وتعتمد على ولاءات منحدرة اليها من نفوذها الديني او الاقطاعي او الوجاهي، ولكنها لم تكن لها قواعد منظمة. وفيما عدا القسام (والشيوعيون طبعا) فان احدا من زعماء الحركة الوطنية الفلسطينية في هذه الفترة لم يكن مسلحا بعقل تنظيمي. اما الحاج امين الحسيني الذي كان يمتلك قدرات ادارية نادرة فقد كان عقله بعيدا عن العقل التنظيمي بالمعنى النضالي. وان المسؤوليات التنظيمية ظلت في معظم الوقت مواهب فردية في اللجان الفرعية والكادر الاوسط، وغالبا ما كانت تعجز عن تحول كفاءاتها الى قوانين.”
أيار ١٩٣٦، شهد تمردا مفتوحا من قبل الفلسطينيين، وصفه المؤرخ الفلسطيني وليد خالدي على انه من انتاج الأحزاب السياسية الخمسة والتي تم تأسيسها سابقا: “اللجنة العربية العليا تحت قياده الحاج أمين الحسيني. وفي نفس الشهر، تمت الدعوة إلى عقد مؤتمر، دعا إلى العصيان المدني والإضراب العام احتجاجا على السياسة البريطانية الموالية للصهيونية. استمر التمرد لثلاث سنوات.”
ولكن مرة أخرى يؤكد كنفاني انّ ما بدا وكأنه قيادة ثورة دعا اليها المفتي كان مختلفاً. كما دوماً، ركوب موجة إنجازات الشعب في هباته الحقيقية من صمود وتحدي ودفع اثمان بالأرواح والاجساد والأموال. يكتب كنفاني
نقلاً عن أحد القساميين:
” قبل ان يصعد القسام الى الجبال بشهور قليلة، أرسل الى الحاج امين الحسيني بواسطة الشيخ موسى العزراوي يطلب منه التنسيق لإعلان الثورة في جميع انحاء البلاد، الا ان الحسيني رفض، بحجة ان الظروف لم تنضج بعد.
وعندما استشهد القسام لم يسر في جنازته الا الفقراء ، واتخذ الزعماء موقفاً فاتراً ما لبثوا أن أدركوا خطأه، فقد شكّل استشهاد القسام حدثاً بارزاً لم يكن بوسعهم تجاوزه بالتجاهل، والدليل على ذلك ان ممثلي الاحزاب الخمسة قاموا بزيارة المندوب السامي البريطاني بعد ستة ايام فقط من استشهاد القسام، وقدّموا له مذكّرة لعلّها من أندر المذكّرات صفاقة، فقد اعترفوا انهم اذا لم يتلقوا عن مذكراتهم هذه جواباً يمكن اعتباره بصورة عامة مرضياً، فإنهم سيفقدون ما يملكونه من نفوذ على أتباعهم، وعندئذ تسود الآراء المتطرفة غير المسؤولة، وتتدهور الحالة سريعاً. فمن الواضح انهم ارادوا ان يوظفوا حالة القسّام لتحقيق خطوة الى الوراء.”
في كل مرة أمرّ عن هذه العبارات اتوقّف من جديد وأفكر، كيف نجح أولئك حينها وهؤلاء اليوم بالاستمرار؟
كيف لم نتعلم نحن الشعب الدرس تلو الدرس؟
أتذكّر الشهيد نزار بنات الذي لم يبرد ترابه بعد. ولا أعرف إن كان القسّام في حينها فوّت عليهم بالفعل الشكل النضالي الذي فرضه، أم انّهم طوّعوه لمصالحهم ولوجودهم كما حصل حينها وكما يحصل اليوم؟
افكر يوميا بما جرى مع نزار بنات. استشهد، رحل، وهم ارتاحوا. الحقيقة الوحيدة انّهم بقوا وهو رحل.
يقول كنفاني:
“على انّ الشهيد القسام كان قد فوت عليهم، بالشكل النضالي الذي قرّره، فرصة للتراجع، …. فقد اكتشفوا خلال هذه الايام الاربعين انّهم إذا لم يحاولوا ركوب الموجة الشامخة التي فجّرها القسّام، فإنها ستطويهم، لذلك قفزوا من الفتور في جنازته الى المهرجانات والخطابات في اليوم الاربعين لاستشهاده.
ويبدو ان الحاج امين الحسيني سيظل فيما بعد شاعرا بهذه الثغرة، وحتى بعد ٢٠ سنة ستظل مجلة فلسطين الناطقة بلسان الهيئة العربية العليا، تحتوي الايحاء بان الحركة القسّامية انما كانت جزءا من نشاط الحركة التي كان يقودها المفتي، وان هذا الأخير والقسّام كانا ” اصدقاء شخصيين”.
وهنا، بينما تخلط الأوراق في عقلي بين الشهيد ونزار والقسّام. بين زعامات الامس واليوم. بين من يشكل الكلمة الفصل في المعادلة على الأرض في التحكم… بالأمس كما اليوم. ما جرى قبل اشهر قليلة بعد العدوان على غزة الذي سبقه ازمة تهجير سكان حي الشيخ جراح في القدس الذي سبقه تأجيل الانتخابات. يرصد كنفاني احداث ال ١٩٣٦ وكأنه يصف احداث اليوم.
يتابع كنفاني عند الحديث عن لجنة بيل التي تشكلت من قبل الحكومة البريطانية من اجل التحقيق أسباب اضطرابات ١٩٣٦:
“على ان هذا الحادث اذ يبدو جزئياً، مزّق التحالف في قيادة الحركة الوطنية، اذ انّ القوى التي كانت تقف الى يمين الحاج امين والتي يتزعمها حزب الدفاع سارعت الى معارضة قرار مقاطعة لجنة بيل، وابدى الحزب عدة دلائل تشير الى رغبته في قبول مشروع تسوية، وقد استند اولئك الى التذمر الذي اصاب كبار تجار العرب نتيجة الاضراب، والى التخلخل الذي طرأ على مصالح البرجوازية المدنية التي كانت على علاقات وطيدة ممثلة بوكالاتهم عن الصناعة البريطانية واليهودية احياناً
وساندت الانظمة العربية خصوصاً شرق الاردن هذا الموقف بقوة، ولم يكن عند الحاج امين وما يمثله اي حافز للميل الى جهة اليسار الذي كان عمليا قد بدأ يعمل على تصفيته ، وهكذا شرع موقفه يزداد تذبذبا وترددا، وبدا انه اضحى في موقف لا يستطيع معه المضي بالثورة ولا حتى خطوة الى الامام ، كما ان التراجع الى الوراء لم يعد يفيده ، ومع ذلك فحين اعتقد البريطانيون ان تصفية المفتي سياسيا اصبحت ممكنة خلال فترة الهدوء التي اعقبت انهاء الاضراب اكتشفوا ان ذلك ليس صحيحا ، وان يمين المفتي لا زال اضعف من ان يضبط الموقف ،واستمر المندوب السامي ،بخبث، يدرك ضخامة الدور الذي يستطيع المفتي لعبه وهو محصور بذلك الموقف بين حزب الدفاع عن يمينه وحزب الاستقلال عن يساره .
كان المندوب السامي يدرك قدرة بريطانيا على الاستفادة من الهامش الواسع القائم بين صلابة القرويين الذين قاومونا ستة أشهر وهم يتلقون اجورا ضئيلة ولا يقدمون على النهب” وبين “ضعف او انعدام الصفات القيادية العظيمة لدى اعضاء اللجنة العربية العليا العشرة “.
ولقد اتضحت صحة نظرة المندوب السامي الى الدور المحدود الذي يستطيع يمين المفتي ان يلعبه حين عجز حزب الدفاع عن الوقوف بوضح امام تقرير لجنة بيل الذي صدر في تموز سنة ١٩٣٧ والذي اقترح التقسيم وانشاء دولة يهودية .وقد اتضحت في الوقت ذاته ضغط اولئك الذين يقفون على اليسار الى افقاد المفتي لاعتداله على ان هذا الضغط لم يحصل من الجهة التي توقعها المندوب السامي ، بل من قبل الكادر الاوسط الذي كان ما يزال ممثلا في اللجان القومية ، والذي كان يمثل يوميا بأفواج من الفلاحين المعدمين والعمال العاطلين عن العمل في المدن والارياف ، وهكذا لم يكن امام المفتي الا الهروب الى الامام. “
مقترح بيل صار فعليا بقرار التقسيم في تشرين الثاني ١٩٤٧، أكد بلا أي مجال للشك ان الانتداب البريطاني لم يكن الا أداة تسهيل للتحضير للدولة الصهيونية. عندها تبين للفلسطينيين أخيرا الحاجة الملحة للعداد والاستعداد من اجل مواجهة الدولة الهجينة على أراضيهم.
لم يكن بالإمكان معرفة ما كان في كواليس ذلك الزمن من علاقات واتفاقيات، تم كشفها في السنوات الأخيرة كمراسلات حسين-ماكمهون وتفاهمات فيصل- وايزمان. وكتاب غسان كنفاني هذا…. والكثير من الكلمات التي دق من خلالها على خزاننا الفارغ، لأن التاريخ، ذلك الذي يكتبه دوما هو صاحب السلطة ، سواء كان على الجانب الخاسر او المنتصر منه.
انتهى الانتداب البريطاني لتعلن إسرائيل في صبيحة اليوم التالي دولتها. والجيوش العربية المتربصة منذ أكثر من ستة شهور بانتظار إعطاء الأوامر بالحرب، كانت قد تعبت من الانتظار واستهلكت المواطنين الفقراء أصلا ولم تكن تعرف ما الذي ستحاربه وأين بين تعليمات من القيادة الموحدة ومن الجبهة العربية.
سنة ١٩٩٣ شهدنا أوسلو بعد سنوات قليلة من مدريد. وما رفضناه وندبناه في التقسيم قسمناه في أوسلو وقلنا قسمة ونصيب. ٢٢بالمئة من الأرض المفترضة الممكن ان تسمى فلسطين وفق أوسلو، كان بها أكثر من ٦٠ بالمئة من المساحة الضائعة التي تعود لما يسمى بالمنطقة (ج). ال ٤٠ بالمئة الأخرى عليها شوارع وممرات ومعابر وحواجز وامتد جدار ليلتف ويبلع ويقص ما طاب له من أراضي ويفصل ما قرره من احياء ومقرى. القدس بقيت لمرحلة الحل النهائي وتركت لتتآكل وتبلع وتهضم بين إجراءات تعسفية وقمعية على السكان وتهويد وأسرلة لمرافق الحياة من تعليم وصحة وخدمات، حتى صارت المستعمرات في قلب الاحياء العربية. والمسجد الأقصى على عتبات التقسيم كما حدث للمسجد الابراهيمي من قبل. المخيمات في الشتات تركت بين هجرات أصحابها من سورية والعراق ولبنان عبر قوارب الموت الى أوروبا، وتحولت مخيمات الضفة الى مقاطعات لأولي السلطان من كل حزب وفصيل.
من كامب ديفيد الى واي ريفير الى خارطة الطريق ووقوفا عند الثورات العربية في ربيعها القصير. كل الطرق كانت تؤدي الى صفقة القرن التي غلّفتها بإحكام اتفاقات السلام العربية المتتابعة لتحكم إسرائيل امرها وتتحكم اكثر.
هزئنا من تفريغ الخارطة الفلسطينية بالشكل الذي رأيناه بين معلاق او فيل او جهاز هضمي في وثائق صفقة القرن، ولكن الحقيقة لا تختلف عن أصلها أوسلو. وكأن ما رأيناه نيغاتيف لصورة تم تحميضها من قبل.
اخشى ان تكون صفقة القرن كمشروع بيل، نتيجتها “فلسطين الجديدة”، كما “حكومة عموم فلسطين” التي اعلنناها ردا على رفضنا لقرار التقسيم سنة ١٩٤٧.
لم نكن نعرف أنهم كانوا يعترضون على تقسيم الغنائم التي سيحصّلونها من أجل بقائهم بالسلطة لا من أجل الوطن.
صفقة القرن ليست الا محصلة نهائية لأوسلو. كما كان اعلان إسرائيل محصلة للانتداب البريطاني.
حتى صفقة القرن بعد رحيل ترامب، تبدو كأنها فرصة ضائعة امام السلطة التي تستجدي من اجل بقائها اليوم.
ما يحدث اليوم من وضع أكثر كارثية من مقترحات ترامب وتوسل القيادة لأي شيء من اجل بقائها. الاف وحدات استيطانية على أراضي الضفة تم الموافقة عليها. أراضي الدولة صارت في جيوب صندوق الاستثمار الفلسطيني الذي يستثمر فيه اهل السلطة لأنفسهم واولادهم.
لن نتعلم….
سنعيد الكرّة في ترديد نفس الشعارات من تنديد وتظاهرات، ليستمر الوضع على حاله. قيادة تركب الأمواج هروبا بنفسها على الشعب واحتلال يرمي من تبقى تدريجيا الى البحر…
[1] وليد خالدي