تخطى إلى المحتوى

أزمة التعليم في القدس: ذرف دموع التماسيح على المناهج

أزمة التعليم في القدس: ذرف دموع التماسيح على المناهج

قد لا يلقى كلامي الاستحسان، ولكن ربما حان الوقت لنتحدث بصراحة بشأن ما يمكننا الاستفادة منه.. لعل وعسى. 

منذ ثمانينات القرن الماضي، اذكر في كل مرة كانت الاعلام ترفع في الشوارع بمناسبة استقلالهم ونكبتنا، كنت أقول في نفسي: لن يكونوا في العام القادم، لأن الاحتلال سيزول بالتأكيد. اذكر معلمة اللغة العربية وصوتها لا يزال يدوي في اذني: لا يوجد شيء اسمه إسرائيل. هؤلاء يهود، وإسرائيل ستنتهي. حينها كان وجع النكبة حقيقة مناسبة نرفع فيها الشعارات للتنديد أو التهديد.

شتان بين ما كان وما صار من كل شيء في حياتنا. 

كنا نقاوم ونواجه ونرفض بطريقتنا. كانت علاقتنا والاحتلال أكثر عضوية. مباشرة ومفهومة. ثم جاءت الانتفاضة لتبث فينا روح الامل. صدقنا اننا صرنا أقرب لتحقيق الحرية التي حلمناها صغارا. كانت مديرة المدرسة تجمعنا في ساحة المدرسة تحسبا من مشاعرنا المتدفقة نحو المواجهة، وتفتح امامنا المواضيع المختلفة عن الحرية والتحرر والمقاومة. بثت فينا الشعور بقوة العلم في مواجهة الاحتلال كقوة الحجر في مواجهته. كان اهم درس تعلمته في حياتي: مواجهة الاحتلال تكمن بالعلم الحقيقي. الاحتلال يخشى المتعلمين.

انظر اليوم الى ما يجري، ولقد انقلبت الدنيا انقلابا اخر علينا. وصرنا ابعد عن الحرية والتحرر. صرنا مكبلين باحتلالين او ربما أكثر. صرنا وسط متاهات لا نكاد ندخل أحدها حتى نتيقن ان لا مخرج لنا منها. نقاوم ام نطبّع. نرفع رؤوسنا ام نخفضها انكسارا؟ نندمج ام ننفصل؟ نريد دولة، ام نريد سلطة، ام نريد ان نكون جزءا من هذا الكيان المحتل؟ والتعليم لم يسلم من هذه المتاهات منذ دخلنا طوعاً وبإرادة مسبقة الى شرك النظام الإسرائيلي المحتل. على الرغم من ثماني عقود من الاحتلال لا نزال نتعامل وكأنهم بلهاء. وكأنهم المؤقت امام ديمومتنا على الرغم من انغماسنا بهم من حيث الصحة والتأمين والخدمات، والمرافق المختلفة، والتعليم، والوظائف. نقف اليوم امام غضب “كاذب” ورفض اعتدنا عليه إزاء ما يجري من أسرلة المناهج. 

نعم انها كارثة، ولكن لا افهم لم الاستغراب.  

وبينما أرى في كل محاولة لدق الخزان الفارغ، وفي كل محاولة جادّة للتغيير، تعبيراً عن رفض ما  يتم الآن من استكمال فرض منهاج إسرائيلي على الطلبة في مدارس القدس الخاصة قبل العامة، أفكر كيف تدور الدوائر علينا حتى في هذه المحاولات. 

فلقد لمست ان الكثيرين يختزلون الأسرلة ومعارضتهم لها لتغطيتها المعرفية للأعياد اليهودية والدرزية. وهذا مؤسف لأنه يتجاهل الخطر الحقيقي للأسرلة. وفي ذات الوقت فإنّه يتفّه الموقف الرافض للأسرلة.

اذ ما المشكلة بأن يتم تعليم الأطفال عن عيد الأنوار؟ او عيد النبي سبلان؟  ما المشكلة بالحديث عن الدين اليهودي واعيادهم ومناسباتهم واماكنهم الدينية؟  فنحن نعيش بين اغلاقات واعياد لا نفهم أولها من آخرها. هل معرفتنا وفهمنا لأعيادهم تجعلنا ننخرط بهم وننسى وطننا وما لنا وتمسح هويتنا الوطنية؟  هل الخطر من الكنيس والعيد ام من “اورشليم عاصمة إسرائيل”؟ 

الأخطر هو ان نرى خارطة فلسطين قد صارت الضفة وغزة أحيانا في مناهجنا الفلسطينية. 

الخطر الحقيقي عندما يدير المدارس العسكر ويعلم ابناءنا الضباط ، وعندما تنقل مقتنيات مدارسنا الس الجامعات الإسرائيلية. الخطر الأكبر عندما يتم استقبال الجيش ورئيس البلدية بالاحتفال والورود والزغاريد على مقربة من ضريح شهيد. 

ربما تعيد لنا المناهج الإسرائيلية التي تروّج لإسرائيل لذاكرتنا خارطة فلسطين التي حلمنا بتحريرها. 

جهلنا امام علمهم. لقد استباحونا وجهلونا ولا نزال نتعامل مع الامر وكأننا أقوياء. الجهل لا ينتج قوة، حتى لو كنا أقوياء بأحقيتنا بالوجود على ارضنا. تركونا لنكون موجودين فقط… 

الجهل عندما نواجه تل ابيب باستخدام كلمة تل الربيع، والتصديق ان كان لدينا مطار وعملة ودولة اسمها فلسطين- وأننا من صنعناها وانشأناها. الجهل عندما نظن ان كلمة صبرا تعني صبرا وشاتيلا عندما يصبح مارفل كابتن أمريكا– سوبرمان العصر- صبرا الحركة الصهيونية.

لو انتهجنا مع إسرائيل اليوم مقولة “اعرف عدوّك”، وبدلاً من ادّعاءاتنا الرّافضة الفارغة من العمل الحقيقي لمواجهة هذا الرفض، لاستطعنا ان ننظم أنفسنا بطريقة أفضل. ربما هناك فرصة لكي يعرف طلاب هذا الجيل ما لم نعرفه لنفهم عدونا وبالتالي نستطيع ان نبني حلم حرية أكثر إمكانية. 

من المفارقة انه في الوقت لماذا نرفض المناهج بينما يسعى الكثير منا لإرسال ابنه للتعلم بالجامعات الإسرائيلية ليحظى بفرصة عمل أكبر بالمؤسسات الإسرائيلية؟ نرفض تعلم اللغة العبرية في المدارس ومن ثم نسعى جاهدين لكي يتعلم ابناءنا اللغة لكي تسنح لهم فرصة عمل لديهم.  ما الذي نحاول ان نقوله برفضنا؟ ان هويتنا ستمسح وتمسخ؟ 

هل هناك أكثر مسخاً ومسحاً مما يجري بنا على مدار ثلاثة عقود منذ اوسلو؟ 

هناك جيل فلسطيني يظن انّ سكان القدس هم عرب إسرائيل (المصطلح الذي تستخدمه إسرائيل لوصف فلسطينيي الداخل).  هناك جيل فلسطيني يظن ان فلسطين هي رام الله والمقاطعة وحدودها ما بين الخليل وبيت لحم ونابلس. هناك جيل فلسطيني يعيش على حلم تصريح الدخول الى إسرائيل وقدسية التنسيق الأمني.

ربما حان الوقت لننظر الى إسرائيل كواقع. ان نفهم من هم، وان نتعلم من هذه التجربة المريرة لاحتلال حلّ علينا ويكاد يحلّ مكاننا بالفعل. 

علينا الاعتراف بهزيمتنا من كل النواحي، وهزيمتنا في التعليم نحن من اوصلنا أنفسنا اليها. نحن جميعا: مدارس وسلطة وافراد. انتهى الامر وما تبقى امامنا هو محاولة الاستفادة من الوضع الراهن. كيف نحوّل ما هو مخطط لأسرلة ادمغة طلابنا لفرصة لفهم ما يدور حولنا. 

ربما، نحتاج كأهل لأكثر من أي وقت ان نقضي اوقاتا حقيقية مع أبنائنا. ان نكون جزءا من عملية التعليم ما بين البيت والمدرسة. فالخطر الحقيقي ليس بالمناهج. الخطر الحقيقي نعيشه منذ سنوات. 

فما هو أخطر من أسرلة المناهج هو الاكتفاء بالرفض الشعاراتي له، وكذلك اغفال الكثير من المظاهر التي تنم عن طغيان ثقافة المحتل وهويته على ثقافتنا وهويتنا. اذ كيف نغفل في زحمة الانشغال في الرفض الشكلي للمناهج ما نعيشه منذ سنوات عندما نرى الشباب يصدحون بسياراتهم أغاني عبرية. عندما تركنا ابناءنا طعماً لجني المال الأسرع والأكثر بالعمل في مصنع، او كازية، او فندق، او ببورصة تل ابيب، وصار مقياس النجاح والقيمة هو بالراتب الشهري. عندما صار الحصول على المال بأي طريقة هو فهلوة وشطارة. عندما فرغنا التعليم من علمه وصار طموحنا بأبنائنا شهادة نتبختر بها امام الناس. 

عندما صار الوطن مشروعاً وسلطة. 

عندما صار المشروع علماً ودولة بلا سيادة ومناطق مقطعة متفرقة متقاتلة من اجل بقاء مصالح افرادها. 

أؤكد أخيرا، انني لا أؤيد ما جرى من أسرلة مناهج. وقد أكون كتبت في هذا المقام عشرات المقالات على مدار العقدين الأخيرين… عندما كنت اظن انني ادق على خزان يمكن انقاذ من فيه. نحن الآن امام واقع آخر في هذا الصراع المحتدم من اجل بقائنا. علينا الوقوف الحقيقي امام الحقيقة ومراجعتها والتوقف عن الرفض كشعار لطريقة حياة ملتوية. 

اترك رد

اكتشاف المزيد من نادية حرحش

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading