التوجيهي كابوس دائم الحضور لواقع متخبط
كابوس يلازمني منذ جلوسي للامتحانات بعد أكثر من عشرين سنة، مهما كبرت إلا أن ذكراه تلاحقني ، وفي كل أزمة خانقة، تراودني كوابيس جلوسي للامتحانات في حينه، أو أنني أجلس إليها مرة أخرى .. مع أنني تفوقت في تلك الامتحانات على نفسي في مصادفة كانت غريبة عني شخصيا، ولكنها في النهاية بصمت علي من أكون، بغض النظر كنت متفوقة حقيقة أم لا!
تلك المناسبة المجتمعية التي نتشاطر فيها الأفراح والأحزان وتلازمنا للأبد، فنذكر يوم ظهور النتائج ومن نجح ومن لم ينجح .. الحقيقة أن كلمة “لم ينجح” ليست بسياقها الحقيقي هنا؛ لأن الكلمة التي تعلم فينا هي “السقوط” ،”الرسوب” .. فالتوجيهي في حياتنا كيوم الحساب ، تحسم فيه النهايات والبدايات القادمة . وللمفارقة ، تنتابني عند إعلان النتائج لغاية هذا اليوم مشاعر تشابه تلك التي تنتابني عند حضور حفلات الزفاف؛ أجد نفسي متفاعلة وأبكي كالبلهاء في أمر لا يخصني من بعيد أو قريب ، وأتساءل دائما عند دخولي في هذا الانفعال في حالات الزواج: أهو شعوري بالأسى المتحتم القادم ؟ مع العلم أني أتدارك نفسي لكي لا يظن من يراني في تلك الحالة أني أتحسر لأني تطلقت!
والتوجيهي لسبب لم اربطه قبل هذه اللحظات، يدخلني في نفس الحالة: أهو حتمية المأساة القادمة ؟
التفوق أو السقوط يصبح العلامة الفارقة لمستقبل شبابنا وشاباتنا .. العلامة هي من تقرر نسبة الذكاء وتحسم مستوى الغباء، وترتبط معه ومع أهله للأبد؛ فالتوجيهي لا يخص الشاب أو الشابة فقط، فهو نجاح أو سقوط عائلي .. حيث ترى الفرحة في عيون الأهل وكأنه استحقاق لهم شخصيا .. وكيف لا ، ونحن نكرس حياتنا ما بعد ساعات المدرسة بالحذاء على الطاولة جاهزا للتدريس القسري خيارا أو غصبا. ندرس ونحفظ الدروس مع أبنائنا على مدار سنوات الدراسة، وكأن كل علامة هي إنجازنا أو خسارتنا، فيذهب أبناؤنا كالببغاوات ليعيدوا _سواء كتابة أو تسميعا_ ما تم تحفيظهم له طيله النهار والليل .
تجلس في جموع الأمهات أيام الدراسة وترى إعلان الطوارئ في البيوت من أجل الامتحانات .. حديث الأمهات بعد التفاخر لشراء لباس جديد أو قطعة أثاث تكون ما يقض من مضاجع الأهل من أمور الدراسة .. والكل مصر على أن ابنه أو ابنته متفوق .. إن لم يكن يقدر ذلك الفتى أو تلك الفتاة على التفوق بإرادته فهو بذلك الحذاء او تلك العصاة التي تجلس أمامنا!
وفي نفس الوقت، كلنا أو معظمنا ندعي أننا لا نهتم بتلك الأمور ، وندعي الإيمان بالتحفيز الإرادي لأبنائنا وتركهم على حسب إمكانياتهم .. ويأتي التوجيهي كناقوس الحساب ، ليفرز الذكي منا والبليد، الناجح والراسب، العبقري والغبي.
مع أننا جميعا نقر بأن التوجيهي لا علاقة له لا بتفوق عقلي أو عكسه، هو فقط القدرة الكاملة على الحفظ، فكل ما كانت مقدرتنا على الحفظ أكثر، كانت النتائج تصب في مصلحتنا .. وما نروج له من تفكير إبداعي ، وخلق فرص لهكذا إنتاجات عقلية يفرزها العقل المبدع لا تنتمي من قريب ولا من بعيد الى هذا النظام .
على العكس تماما ، فإن الطالب أو الطالبة في لحظة التفكير يتم طمسهم وإقصاؤهم تماما ونبذهم إذا ما تجرأوا على التفكير النقدي، وطبعا نتبنى أولئك المبدعين إذا ما رحلوا وتم اكتشافهم فيما بعد على أيدي الغرب .
ولا يوجد داع للخوض في هذا كثيرا؛ فأنا لن أفتي فيما تم إطلاق الفتاوى الكثيرة فيه، والجزم المطلق على عدم نجاعته، والحاجة الحقيقية لتغييره وإلغائه…التوجيهي أقصد طبعا.
ولكن ما يهم الخوض فيه، هو نحن واستمرارنا في نفس ردود الفعل من فرحة أو انتكاسة، كلنا أجمعنا على أن نظام التوجيهي نظام يجب إلغاؤه، وأنه لا يعطي المؤشر الحقيقي لمستوى تفوق أو فشل الطلاب.
كيف لنا أن نستمر في هذه الظاهرة المليئة بغوغائية الجهل تحت اسم العلم ، هي ما تنهي وتجزم مستقبل أبنائنا، في الوقت الذي من المفترض أن يخرج أبناؤنا إلى عتبة الحياة الجديدة؟ فالتوجيهي يشبه تعاملنا مع بناتنا عند دخول البنت منهن الى مرحلة المراهقة؛ نبدأ بتنفيذ حملة ممنهجة في طمس كل معالم الحرية للبنت لكي نتأكد من عدم انحرافها .. في حين أن المراهقة هي المرحلة الجديدة لبدء النضوج للفتاة التي بدأت تتحول لامرأة .
إن انتهاء المرحلة الثانوية ، مفترض أن تكون بداية مرحلة يخرج فيها ابناؤنا الى مرحلة النضوج والدخول الى حياة لم تعد حياة طفولة يعتمد فيها الأبناء على أهاليهم.. مرحلة يبدؤون بالدخول فيها إلى حياة الاستقلالية ورسم مخططات المستقبل.
وفي كل عام في غمرة هذه الفرحة الكبيرة أو الانتكاسة العظيمة، نرقص بأفراحنا على آلام هذا الشعب، وكأن الفرحة حق يتم نزعه من فاه المساكين والمنتكسين، فالعام الماضي والسابق له كانت نتائج التوجيهي بينما خيمة العزاء في محمد أبو خضير لا تزال منصوبة ، والعدوان على الشعب في كل الاتجاهات كان يدويه المدافع ويسكب في الأرض الدماء! استكثرنا على أمهات الشهداء وذويهم الحزن وفرقعنا السماء بفرحتنا وكأنها كل فرح الدنيا ..
واليوم , ولقد شهدت الشهور السابقة ولا تزال أيامنا تشهد …أبناء ضاعت فرحة أهلهم بهم الى الأبد . أبناء , كانت ستكون هذه الأيام لهم كذلك لولا فقدانهم لملكوت السماء الى الابد. اهل لن تجف دموع حسرتهم على فقدان فلذاتهم. لن نتوانى عن اطلاق فرحة جديدة، نقر جميعنا بأنها ليست إلا انتكاسة في مسار شعبنا نحو علم حقيقي، نصر بالفرحة منكسين فيها خيام العزاء على أصحابها .. تزين المفرقعات سماءنا بينما لا تزال أم محمد وام ليث وام ………أولئك الذين ندعي احتسابهم شهداء ، ولا نترك حتى دقيقة محاسبة لأفراحنا هذه أو مراجعة .. نرقص بينما بيوت العزاء مفتوحة .. بينما لا تزال أم شهيد تبكي ابنها الفقيد! ندوي السماء بمفرقعات لانتشال فرحة لا داعي للتلويح بها وكأننا انتصرنا أهم انتصاراتنا .
التوجيهي بكل أحواله نهاية مرحلة وبداية مرحلة جديدة لا تستدعي كل هذه المغالاة، لا بالفرح ولا بالانتكاس لمن لم يحالفهم النجاح او المعدل العالي .. مرحلة نحتاج معها التروي للتفكير فيما سيأتي وكيف سنحضر له بما يساعدنا على بناء مجتمع سليم فينا .
مغالاة في مشاعرنا ، في بهجتنا ،في انتكاساتنا وفي إنجازاتنا .. تجعلنا دائما أسرى للحظة فانية تستمر في الحوم برؤوسنا كالذبابة .. لحظة نعيش بها أبدية الانتصارات الخاوية ، وأزلية الفشل المدوي!
لحظة نصحوا منها دائما وكأننا كنا في كابوس.. كابوس يسكننا ليلا ويغيم حياتنا نهارا .
لحظة ….يا ليت نحتسبها بينما يستعد ابناءنا للامتحانات …تليها لحظات نتفرد فيها بالفرحة غير ابهين لكل تلك البيوت المكظومة حزنا على أبناء رحلوا لنكون.