أصحاب ولا أعز أم واقع ولا أبشع؟
شاهدت فيلم أصحاب ولا أعز بينما كنت اعد ورق الدوالي والكوسا. كنت بحاجة لمشاهدة محتوى عربي لا يجعلني انظر الى الشاشة كثيرا لتلتقط عيوني الترجمة. بالعادة انتبه كثيرا لكل ما اشاهده على نتفلكس، واتجنب المحتوى العربي بوعي تام. هناك شيء ما بمحتوى نتفلكس يتعدى التسلية والاثارة، ولست في صدد تحليله او الخوض فيه. فهناك قاعدة بديهية: لا أحد يجبرنا على المشاهدة. ولكن طالما انني اشاهد، فلا يحق لي الشك والرفض والتذمر.
ولكن، الواقع كذلك يوجب علينا الخوض في كل هذه الفضاءات المليئة بالغيوم المختلفة. فلا أستطيع ادعاء فضيلة عدم المشاهدة، وبالتالي حماية نفسي من شر المحتوى عندما تكون الشبكة متاحة لأفراد عائلتي، واصدقائي، وزملائي، وجيراني. وكذلك عندما يصبح المحتوى معبرا كما يقال لنا عن واقعنا. ولكن في كل الأحوال يبقي عنصر التسلية مهما. فماذا نفعل في يومنا بلا هذه الصناعات المتراكمة والمتلاحقة علينا من عالم لا نقوى على مواجهته بلا وهم التسلية المؤقتة؟
ما جعلني اقرر مشاهدة الفيلم هو وجود منى زكي. كان الوضع ملفتا ان أرى منى زكي بنتفلكس- فكرت- بالعادة نتفلكس يعني كازا دي بابيبل، كازا دي فلوريس، اليت، حتى فوضى. طبعا هناك عادل كرم ونادين لبكي واياد نصار، تلفتني عادة اعمالهم وتواجدهم، فكانت الجمعة بالنسبة لي مليئة بالاستعداد لما هو ممتع بالتأكيد.
اصبت بحالة من الغضب بالدقائق الأولى وأردت ان اترك المشاهدة لولا ان يداي كانتا غارقتين بين تتبيلة الأرز واللحمة مع وريقات الدوالي التي اصارع من اجل لفها. لم يكن بمقدور عقلي تحمل مشاهد تتكلم العربية وتتصرف بما ليس له أي سلطان على المجتمع العربي. عندما تواجه الأم مي (نادين لبكي) ابنتها المراهقة – التي لا تزال قاصرا- بغضب بسبب مكياجها وخروجها المتأخر وغيابها. ولكنها تكتم جماح غضبها لكارثة أكبر تكمن في ايجادها لواق ذكري في حقيبة الابنة، مما يجعلها تشارك الاب- الزوج وليد (جورج خباز) بالأمر. والزوج – الاب- هنا- هو حلم كل امرأة، زوجة كانت ام ابنة. يهدئ من روع الام القلقة ويلومها على التفتيش بحقيبة الابنة بتعديها على خصوصيتها. وبينما “تتحرأص” الام على الابنة التي على وشك الخروج من البيت بواق ذكري، يتعامل الاب ببساطة وعدم اكتراث وبإيمان بتربيته وثقته بابنته. ونراه يعطيها المصروف قبل خروجها.
هنا، قررت ان اتعامل مع الفيلم على انه ليس الا ترجمة من سيناريو لقصة اجنبية ما. من السهل رؤية هذا، وصرنا نرى هكذا تطبيقات درامية مترجمة طبق الأصل من مسلسلات تركية، وأوروبية، وامريكية، وغيرها. شيء ما يشبه الدبلجة، ولكن بوجود ممثلين كذلك يدبلجون الأدوار.
في نفس اللحظات كانت الاخبار عن قتل رجل لزوجته الحامل واتصاله بالشرطة تتصدر المواقع الاجتماعية.
فكرت ان كان هذا الرجل موجود بأي واقع، ليس فقط الواقع العربي. قد يكون نادرا بكل معنى الكلمة في كل المجتمعات الأخرى. ولكن، لو أراد صناع الفيلم إضفاء أي ذرة للحقيقة لا يمكن تخيل رجلا عربيا يتعامل مع الامر كأب بهذه الطريقة.
ولكن لأننا امام مبنى درامي لا يجب ان يكون بالضرورة انعكاسا لأي واقع، فكرت انه ربما هناك ما هو مقصود من هذه المبالغة. والحقيقة نه كذلك. فرأينا التباين المتعاكس المقصود في بناء شخصية هذين الزوجين: الزوجة مي طبيبة نفسية تحارب من اجل المبادئ وتشن هجومها على العالم الكاذب، والزوج وليد دكتور عمليات تجميل يؤمن بحق كل انسان ان يكون ما يريد ان يكون عليه، وبجمال الانسان الخاص.
الساعة والربع المتبقية من الفيلم كانت ممتعة جدا، وجلعت من لف ورق الدوالي والكوسا وعصر الليمون وتركيب الطبخة متعة كبيرة. ولكنها بالتأكيد تركتني مع “لطشة” في مواجهة الحقيقة.
كم هي حياتنا هكذا.. مليئة بالكذب والغش والمواجهة وقلب الصفحة نحو اليوم التالي وكأن شيء لم يكن؟
يجتمع الأصدقاء السبعة على مائدة عشاء في ليلة خسوف قمري كامل. ديباجة الأصدقاء العادية من أحاديث ونميمة، ارتداء كل شخصية ما يتوجب عليها ارتداؤه لتبدو وكأنها في أفضل احوالها امام الناس.
ربما ما أزعجني في البداية بالآداء هو هذا: ان الشخصيات موجودة بقوالب معدة تماما للدور. كنت أرى تمثيل منى زكي ونادين لبكي واياد نصار. لم يبذل أي فنان الكثير من الجهد من اجل تجسيد الشخصية. وهذا بالتأكيد يتطلب مهارة استثنائية وابداعا كبيرا من طاقم العمل كله. ولكن المهم هنا التمثيل الذي نمارسه في حياتنا الحقيقية. هكذا موائد يجتمع فيها “الاصدقاء” “الانتيم” تضفي جزءا أساسيا من شكل المجتمع اليوم. صداقات شكلية مهما بدت عميقة، محملة بالكثير من المظاهر الاجتماعية التي تشكل لنا مكانتنا في المجتمع. كل شخصية حريصة ان تبدو بأفضل ما يمكن مع رداء الفضيلة والمبادئ كأساس، بغض النظر عما تلبسه من ملابس وما تتفوهه من كلمات.
على الطاولة اجتمعت طبقة مجتمعية حداثية، شابة، متعلمة، ناجحة. طبقة مجتمعية نتراوح معظمنا اليوم حولها. افراد بأماكن مهمة بالمجتمع: طبيبة نفسية وطبيب. رجال اعمال، أستاذ جامعي، موظفة ناجحة، ربة بيت. مجموعة خبراء. زجاجة خمر. طبخة لبنانية وملوخية بالأرانب مصرية. ازواج جدد، وازواج يحاولون التأقلم والتفاهم، وعازب ينتظر الجميع زواجه من امرأة تضاف الى المجموعة. مبالغات في التعابير كانت ربما ضرورية للحبكة الدرامية، ولكني في كل مرة شعرت بالامتعاض عند سماعي لكلمة “خراء” وكأنها كلمة عادي جدا استخدامها كلغو كلامي عادي. منى زكي واياد نصار تسابقا على عدد المرات في استخدامها، ومن ثم دخل كل الممثلين في سباق لمن يقولها أكثر.
تذكرت نادين نجيم عندما استخدمت كلمة ” خرائية” في مقابلة لها بمهرجان الجونة. عندها كان المفروض ان تقول “خرافية” ولكنها تلعثمت، ولكنها أصرت ان الكلمة صحيحة وان للبنانيين مصطلحاتهم الغريبة.
وكأن كلمة نادين نجيم فتحت موسوعة استخدام الكلمة على مصراعيها. تذكرت كذلك فستان رانيا يوسف الذي قامت القيامة عند غياب بطانته ودفاعها وبكائها عن الغلطة بالتصميم وكيف رفعت البطانة بالخطأ، لنرى سباق تعري من كل صوب، جعلها بعد سنوات تعرض ابنتها بنفس الفستان معها على نفس السجادة الحمراء.
وكأن تردي الاخلاق والرذيلة معدية في مجتمعاتنا.
المهم، لا اعرف كم كان هناك حاجة لاستخدام هذه الكلمة بالفيلم مرات كثيرة. او الحاجة لاستخدامها أصلا. سقوط “الكلاس” المجتمعي الى مجتمع الشارع الذي تعزل هذه الطبقة نفسها عنه.
مشهد اخر، لا اعرف كذلك كم يمكن ان يكون قريبا من الواقع، وهو المشهد الذي يذكرنا بشارون ستون وفيلم بيسيك انستنكت عندما جلست بدون لباسها الداخلي قبل أربعة عقود ربما. الحقيقة انني لم افهم كثيرا هذا الإيحاء. ذكرني كذلك بفيلم-رواية خمسين لونا من السكني. شخصية مريم (منى زكي) الزوجة الغارقة بتربية طفليها الصغيرين وعدم وجود علاقة حميمية مع زوجها منذ سنة. لم افهم كثيرا هذا المقطع. ولكنه كذلك دخل ربما في سياق المبالغات الدرامية لإرسال أكبر عدد من الرسائل خلال ساعة الفيلم عما يجري في المجتمع.
او ربما انا من يعيش في عزلة المجتمع بغيابي عن عالم الأزواج منذ زمن.
علاقات الفيسبوك للزوجات المنشغلات بتربية ابنائهن وحاجتهن للاهتمام وتذكيرهن بأنهن نساء. في المقابل، يعيش الزوج حياته عبر صور اباحية ترسل له.
القنبلة في الفيلم تمثلت بالمثلية الجنسية، التي تتكشف عندما يبدل شريف (اياد نصار) هاتفه بهاتف صديقه لكيلا تكتشف زوجته مريم الصور التي ستصله في محاولة منه على الحفاظ عل عائلته إذا ما كشفت زوجته الامر. فالصديق الاعزب ربيع (فؤاد يمين) يمكن ان تصله رسائل من أي كان. تمر الصورة بسلام، حتى تأتي رسالة للهاتف الاخر الذي يحمله شريف ويتبين انه مثلي. يكرس المخرج او صانع المحتوى الكثير من الوقت امام هذه الازمة. المثلية: العيش في الصندوق، التخفي من المجتمع، التنكر للعلاقات والهوية الجنسية، رفضها الى اخره. وهنا يوضع المشاهد امام أكثر من مرآة مواجهة لهذا الامر. كيف يرى المثلي نفسه حين اكتشاف امره كما حصل بالمشهد. كيف يتفاعل الناس مع او ضد الموضوع. كيف يتبرأ منه، وكيف يصدمه، وكيف يحاول ان يقف صامدا امام الامر متقبلا له. ولكن بتوضيح مهم ومركزي للآخرين: انا لا يوجد لدي مشكلة بالأمر، ولكن انا لست هكذا.
الازمة التي تبدو وكأنها الأقل أهمية، ولكنها برأيي هي الأهم، والذي انتهى الفيلم فيها بترك المشاهد يبلع شوكه بعد كل هذا المضغ المرير. الخيانة الزوجية التي تدور احداثها الأهم على الطاولة نفسها بين الأصدقاء: مي الطبيبة النفسية التي أصرت على لعبة المكاشفة هذه في اول الأمسية. الام التي ارقها انفتاح ابنتها وزوجها بما يجب ولا يجب ان يكون. تخفي عنه نيتها بالخضوع لعملية تجميل عند طبيب اخر بمنطق وجيه، ويزعجها علمها بخضوع زوجها لدى طبيب او طبيبة نفسية أخرى.
الصديق الثالث زياد (عادل كرم) الذي يتلقى رسالة تلو الرسالة من سكرتيرته. ثم يهاتفه بائع المجوهرات ليسأله ان كان الخاتم والحلق قد اعجبوه. هنا تتوجه الكاميرا نحو الزوجة جنى (ديامان أبو عبود) وردة فعلها قائلة: أي حلق؟ ثم نرى مي وردة فعلها، ووليد يراقب بنفس الهدوء الذي تعامل فيه مع ابنته التي ارادت ان تبيت عند صاحبها. تأتي رسائل صوتية متلاحقة من السكرتيرة، وتبكي في رعب لأنها حامل.
تنهار جنى ويلحقها زياد، وتستفرد ندين به للحظة وترمي الحلق له. وزوجها يلاحظ بسكوت. تخرج جنى من الحمام بعد ان اغلقته على نفسها في حالة غضبها والأصدقاء امام الباب في حالة قلق عليها. تكون واقفة امام المرآة تصلح مكياجها وهندامها وتغلق الهاتف قائلة لزوجها: كنت بحكي مع أمك وانبسطت كثير لما عرفت أنك راح تصير اب.
المشهد قبل الأخير، ينتهي فيه الخسوف والازواج جميعهم يتطلعون نحو السماء في حالة هدود ودفء وسلام كلّ مع زوجه. فيخيل للمشاهد ان كل ما رأيناه لم يكن حقيقيا. كان أقرب الى: ماذا لو.
في المشهد الأخير مي ووليد، في الغرفة يتسامران قبل النوم بينما تمسح هي مكياجها وتخلع مجوهراتها. هنا يظن المشاهد ان كل ما حصل كان تخيلات، لأنها من المفترض انها اعادت الحلق للرجل الاخر.
يقول لها زوجها: حلق جميل جديد؟ فتجيب بنعم.
ثم ترسل رسالة الى زياد تقول فيها: كنت بتمنى احضنك الليلة.
تأتي الرسالة الى زياد، ويرد عليها انا كذلك. فتسأله زوجته بمن ينشغل فيجيبها بهدوء: كنت بشكر مي ووليد على السهرة الحلوة. فتجيبه جنى: كم هما رائعان. ثم تتصل السكرتيرة من جديد فتقول له زوجته كدبك بهدوء الا يجيب لأنها يجب ان تميز ان ما يجري في ساعات الدوام يبقى في ساعات الدوام.
اما مريم وشريف. فنراها تتوجه الى السيارة لتقود هي، على الرغم من انها تكشف اثناء انهيارها بلحظات سابقة ان الحادث الذي تعرضوا له قبل سنوات ومات على اثره احد، كان بسببها لأنها كانت تقود وهي سكرانه. وتحمل زوجها حينها المسؤولية للحفاظ علي الأطفال. يجب التنويه هنا ان شخصية مريم تبدأ بتناولها لشفة ويسكي قبل خروجها وخلعها لاحقاً لملابسها الداخلية.
هنا، يتركنا الفيلم بشعور بين الحقيقة والتهيؤ.
ربما هي حقيقة، ان الأزواج يعيشون هكذا. الجميع يتستر على بلاوي الحياة ويدعون ما هو اخر. يتزينون ويلبسون ويجلسون ويتحابون في هيئة يحددها الوضع ويطعنون ويكذبون ويراؤون في واقع اخر.
يتصايحون يتشاجرون، تطفو الفضائح الى السطح ثم يغلق عليها من جديد، وتعود الحياة الى اعتياديتها.
هل اختلق أصحاب الفيلم هذا المشهد من الحياة؟
ردة الفعل الحاصلة ضد الفيلم والممثلين تشبه ما حصل في الفيلم. لا أحد يريد ان يعيش الحقيقة. لا أحد يريد ان يكاشفه أحد او يكشف له أحد واقعه المرير المليء بالغش والخداع، والخيانة، والكذب، والرياء. الكل متفق على الاستمرار والادعاء ان كل شيء على ما يرام.
الكل يعيش خديعة لا يريد ان يواجهه أحد فيها.
الحياة يجب ان تستمر بالزواج….
يجب القول أخيرا، ان الفيلم متقن الأداء. صناعته متقنة في كل تفاصيلها تقريبا. وأداء الفنانون كان بالفعل رائعا.
ومهما تكلمنا عن مبالغات وجرأة… نحن امام دق على الخزان إذا ما قررنا اخذ العبر من هذا الفيلم.
ربما تشبه نتفلكس ما رأيناه في الفيلم. الواقع الذي يضعنا امام مرآتنا ونرفض الا ان نشاهده من خلال الفلاتر والمكياج وعمليات التجميل. لم نعد نشاهد من حياتنا الا شكلنا “المتجمّل” امام المرآة. لا أحد يقوى على مشاهدة الصورة الحقيقية بلا مكياج او عمليات او حقن بوتكس.
بدأت هذا المقال كخاطرة لا اكثر. لم انتبه الى استدراكي بالكتابة الا متأخرا. تذكرت انني بدأت بورق الدوالي وفكرت: لماذا يحتاج القاريء ان يعرف هذه المعلومة غير الضرورية؟ ربما وضعتني هذه المعلومة في قالب محدد يرافق المرأة الفاضلة التي تكتمل في صفاتها عندما تتقن فن الطهي كذلك. وكما في المشهد الذي وضعنا فيه الفيلم. ان كنت اعكس صورة المشاهد الفاضل الذي ينظر الى العالم غير الفاضل بعلو الفضيلة في المرأة بقدرتها على لف ورق الدوالي والترفع عن ترهات المجتمع المنغمس بالنميمة. ضحكت في سري قليلا، ثم تلاشت الضحكة الى مجرد ابتسامة قد تكون شكلت خطا على ملامحي لوهلة. وقلت في نفسي، بكيد الأمهات: ها انا اثبت مرة أخرى واقعة طبخ امام ابنائي عندما يتهمونني بحرمانهم من الطعام التقليدي كما باقي الأمهات.
كلنا نرتدي اقنعة نحاول من خلالها إخفاء حقيقة حياتنا. استدركنا في التخفي ووضع الأقنعة حتى كدنا نختفي ولم نعد نشكل أي حقيقة لهذه الحياة.
One comment