تخطى إلى المحتوى

 فاوست في المسلسلات الرمضانية: ظِل مع وقف التنفيذ في جزيرة غمام بطلوع الروح 

فاوست في المسلسلات الرمضانية: ظِل مع وقف التنفيذ في جزيرة غمام بطلوع الروح

السباق الرمضاني في المسلسلات كان حامي الوطيس هذا العام. عشرات المسلسلات دخلت السباق بقوة. اعمال ضخمة بإنتاجات وكادرات لفتت الأنظار. وكالعادة تعثر في السباق الكثير ووقع الكثير وخرج من السباق منذ اللحظة الأولى الكثير. 

وبقي الأقوى والاصلح في معظم الوقت. 

المواضيع التي تناولتها الدراما الرمضانية هذا العام كانت ملفتة. فمن بقي في السباق كان بقوة كاتب السيناريو من جهة والمخرج من الجهة الثانية، وسط فريق عمل تمثيلي قادر. 

الأهم هذا العام هو ان الاعمال الضخمة إذا لم يتم احكامها بإخراج وسيناريو جيد مستحيل ان تصمد. والإخراج والسيناريو مهما كان قويا لا يمكن ان يصنع فنانا موهوبا مهما اجتمعت قوى الإنتاج لتقرر ان بالمال والواسطة يمكن ان نقرر صناعة المعجزات. 

والامثلة على ذلك تبدأ من رامز إذا ما استقوى بفان دام، وتعيد الدوران عند يوتيرن قبل الانحراف وحتى لو قررت التوبة بملف سري، وحاولت جوقة عزيزة فتح باب الحارة بتكسير عضم بابلو. فلن يخرج من بيت الشدة دنيا تانية مهما طال المشوار للموت من واحد لاثنين. 

قوة الكاميرا جلبت الكثير من المتعة بالتأكيد في معظم المسلسلات الجيدة منها والتي لم تصمد امام وهج الدعايات ونجومها ونجماتها وكواكبها وكل مدارك الأبراج والافلاك والسموات التي عرفنا عنها ولم نعرف. ونجحت تترات الموسيقى والاغنيات في معظم المسلسلات حينما أخفق المسلسل وافل.

هذا العام حكم الموضوع على العمل مهما تجمعت مكونات قوته. فالموضوع لفت انتباه المشاهد. فكان لقضية المرأة في مآل الطلاق القاسي والظلم المترتب عليه من كل صوب مكانة هامة، جعلت من مسلسل فاتن امل حربي يستمر بالرغم من إخفاقات المسلسل في بعض الأحيان. كذلك كان مسلسل اختيار ٣ خارج عن التقييم البناء وخروجه من دائرة التقييم لغلبة الموضوع الشاغل لمصر بين التخلص من حكم الاخوان بتقديم وقائع تبرر عسكرة الحكم من جديد بصورة المخلص ياسر جلال بين أداء ادخله التاريخ وربما اخرجه من عالم التمثيل.

وهناك من المسلسلات ما قتلها الاطالة مهما اجتمعت عوامل النجاح الكبير الذي كان ممكنا لها، فلا يمكن ان يمر المشاهد عن روعة أداء حنان مطاوع، ولكن مسلسل وجوه وقع في فخ الاطالة والاعادة 

موضوع الشر والخير في وجه يجسد فيه وجه فاوست بدراما لا يمكن التوقف عن اعادتها لنفسها بعبقرية صياغتها الثانية قبل ان يحبكها لنا غوثيه بحبكتها الرائعة المتجددة دوما. فدكتور فاوستيس الذي قدمه كريستوفر مارلو بنهاية القرن الخامس عشر تم استنساخه مرارا منذ نسخ غوثيه له بعد أكثر من ثلاثة قرون. 

الحقيقة ان الكاتب الذي يستطيع ان يخرج دراما فاوست لا يمكن ان يكون كاتبا عاديا. من توقف عند غوثيه كقارئ واستدرك عبقريته التي يتنفس منها أكثر من صمدوا ليبقوا ويخلدوا في عالم الدراما والكتابة تأثروا به. فرواية المنبع لاين راند ورواية المعلم ومارغريتا وفيلم محامي الشيطان الذي قام ببطولته ال بتشينو يشكلان فقط مثالا بين الكثير من الأمثلة التي قرأناها في الادب من نيتشه الى شيلر الى هيسه وبولغاكوف توماس مان وكافكا وغيرهم.  وعليه كان تحدي الكتاب في المسلسلات التي تناولت هذا الموضوع لتشغله في دراما تلفزيونية تحاكي الواقع الذي يمثله المشاهد. وهذا ما كان في جزيرة غمام وظل ومع وقف التنفيذ.

اختار صناع جزيرة غمام وكاتبها الرؤية الصوفية والزهد الذي حاكاه الموروث العربي الإسلامي. وتشكلت بالحقيقة لوحة فنية جميلة ارتقت بالمسلسل لدرجة اعلى بسلم الدراما نفسها. فارتقت بالمشاهد كذلك نحو العالم الذي يمكن نقف او نتواجد فيه كمجتمع يشكل الافراد، فنلامس الزهد بالحياة بلا صعود الى عوالم النفس التي تحتاج الى الرقي أكثر في عالم الروحانيات. ابقانا كاتب المسلسل على الرض واختار زمنا على جزيرة ليست بجزيرة ولزمن يوحي لنا بزمن لكي يوقفنا على ارض نستطيع ان ندرك احداثها فنلائمها مع حياتنا المعاشة. لهذا كان هناك متعة دائمة في المشاهدة جعلتنا نتفكر في الكلام والمواقف لتكون بالفعل قريبة للمتفكر منا في عالم الصوفية من النفري الى الحلاج.  تشعر اثناء المشاهدة وكأنك تتابع مسرحية. كل ممثل يعرف ويفهم وينسجم مع الأداء بإيقاع متماسك يتراخى كموسيقى التتر التي تجلت بصوت علي الحجار. 

مسلسل مع وقف التنفيذ، كانت قوته الأولى بشارة تتره واغنية كانت كلماتها بقوة الموسيقى المتسمة بالروعة. الإيقاع الذي اتسم في تطور بناء الشخصيات بالمسلسل وانحراف ما طبع في اذهاننا كانطباع اولي على مدار جزء من الحلقات، تطلب الكثير من الابداع من الممثلين الذين بالفعل برعوا بدائهم، وسط تجسيد فاوستي واضح تم تقاسمه بين سلاف فواخرجي وفايز قزق بالتساوي، ليجرنا الى واقع درامي تأثر بقوة بواقع معاش أكثر قسوة من أي خيال. فلم يعد بمقدور المشاهد التمسك برؤية يرسمها خيال كاتب، لتغلب مأساوية الوضع في سورية وتعكس لنا التراجيديا بانعكاس درامي صعب وشيق. 

اما مسلسل ظل، فكان الأكثر تجسيدا للدراما الفاوستية بطريقة مباشرة: الشيطان عندما يتجسد في صورة نستطيع التعامل معها. الاغواء والطمع والنفوس الإنسانية الضعيفة والجشعة امام خير هزيل. 

الحقيقة ان هذا المسلسل هو الأفضل عند النظر من كل اتجاه. ومشكلته الوحيدة والتي طالت كل المسلسلات هو اجترار الاحداث التي كان يمكن وضعه في ١٥ حلقة بدلا من ثلاثين. ربما في حالة هذا المسلسل، استطاعت الشخصيات ان تنضج وتعلو لمستوى بالأداء جعل من كل ممثل مبدع بالفعل. ولا اعرف هنا اين القوة الحقيقية في هذ العمل، اهو اختيار المخرج للمثلين بهذه الطريقة الانتقائية المثالية؟ ام ان كل من قام بالأدوار استطاع بحرفية مطلقة اتقانها؟ 

بكل الأحوال لا يمكن عدم التوقف ولو قليلا امام أداء اعتبره الأفضل لكل فنان: عبد المنعم عمايرة، يوسف الخال، وجمال سليمان الذي استطاع ان يقدم دورا عظيما، على الرغم من تحفظي طيلة المسلسل وفي اعماله بالعادة على أدائه المتسم بالتعالي وضياعه بين اللهجة السورية والمصرية التي اضاعت بطريقة ما مخارج حروفه. ولكن في هذ الدور استجمع نفسه ربما او مرة أخرى انتقاء المخرج للفنانين بهذا القدر من الحرفية جعله يستطيع ان يركب الفنان نفسه بالشخصية لا العكس. المشاهد الأخيرة من الحلقة ٢٨ والتي يموت (ربما) فيها كانت في غاية الروعة في الأداء. طبعا، وجود الفنان القدير جهاد سعد بالمسلسل منح الروح للعمل ليكون بهذا القدر من الاعتلاء الأقرب الى ملامسة الروح. 

الحضور النسائي في هذا المسلسل قد يكون كذلك هو أضعف اركانه، ولكن لم يؤثر الامر كثيرا عليه. اما موسيقي واغنية التتر، فهي كذلك موفقة جدا ويعطيها إحساس اليسا بأغنية ضماير إضافة محكمة، فكانت الاغنية والكلمات أقرب لموضوع المسلسل، بينما أضفت الموسيقى الروح الفاوستية للمسلسل.

يبقى مسلسل بطلوع الروح متربعا في هذا السباق لاجتماع عناصر النجاح والتفوق كلها، والذكاء (آلحمدلله) من قبل مخرجة المسلسل كاملة أبو ذكرى العبقرية التي قررت (بالتأكيد) مع شركة الإنتاج وكاتب السيناريو ان تدخل هذا السباق في ١٥ حلقة وفي النصف الثاني لشهر رمضان. قصة المسلسل قد لا تكون فاوستية بالضرورة، ولكنها أرتنا بالتأكيد احدى طبقات جحيم دانتي. المسلسل في كل اتجاه ننظر اليه منه متفوق ومحكم. منة شلبي فنانة متحكمة بنفسها وواثقة بقدرتها ومؤمنة بموهبتها. احمد السعدني ممثل واثق، سهل ممتنع في أدائه، مقنع، ومتمكن. ومحمد حاتم قدم دوره بسلاسة وحرفية جعلته مقنعا جدا واثبت بالتأكيد موهبة حاضرة. الهام شاهين فنانة قديرة بالتأكيد. قدمت في هذا الدور أكثر من امكانياتها المتوقعة، وقد يكون السيناريو الذكي جدا ساعد في ذلك. على الرغم ان المسلسل في اول حلقاته كان أكثر توقعا لوقوعه في قصص مشابهة في أفلام أخرى (فيلم ليس بدون ابنتي)، ولكن سرعان ما استقر الامر لإبراز القضية المهمة التي تحاكي ما يجري في عقول وقلوب ما صنعته داعش. هناك محطات كثيرة بالحوار تجعلنا نفكر بما يجري في قلوب هؤلاء. وذكاء بالفعل عظيم هي محاولة أنسنه ما جرى في داعش بلا محاولة لإصدار حكم مسبق على الرغم من ان الحكم عليهم لم يعد مسبقا من قبل الشعوب العربية. استطاع المشاهد ان يتابع بلا شعور بشيطنة هؤلاء. وهو امر على عكس ما نشاهده في الدراما الامريكية في هذا السياق. والانسنة هنا مهمة ولا تعني ملأكة (من ملاك). هؤلاء أناس تم غسل ادمغتهم بطريقة تجعل المشاهد يتساءل ويتفكر ويحلل أكثر. 

في هذا المسلسل الحضور النسائي لا يقل قوة واهمية عن حضور الرجال من الفنانين وبشتى الأدوار. لم يكن هناك تزاحم على اثبات من يستطيع ان يمثل أفضل. لأول مرة نرى هذا الخلط من الجنسيات العربية بلا محاولات لتمييز أداء على أداء او تقليد أداء نحو أداء اخر (ربما يكون الدور التركي هو الأضعف والاقل اقناعا). تألقت الفنانات السوريات اللاتي شاركن بالمسلسل، أسماء سيكون لها صدى قادم بالتأكيد. 

ربما يكون مسلسل بطلوع الروح هو المسلسل الوحيد الذي لم يمر كاتب السيناريو فيه بأي اخفاق، فالحوارات متماسكة وذات معنى. لا يوجد كلمة واحدة غير مدروسة وبلا مكانها. حوارات الهام شاهين في المسلسل في قمة العبقرية، كذلك حوارات الطفل وادراج الاكلات السورية وهذا الدمج الدمث للثقافات المختلفة. فاذا ما كانت المخرجة كاملة أبو ذكرى هي بالفعل الأفضل، فالكاتب. محمد هشام عبية قدم أفضل نصا في اعمال رمضان. 

فإخفاقات النص لم تمر عن أي من المسلسلات الأفضل، جزيرة غمام عانى نصها في البداية في مشهد الشيخ مع مريديه وتوالت بعض الإخفاقات والاعادة والمغالاة في بعض الأحيان. واعتقد ان سبب هذا يعود بالتأكيد لطول المسلسل الذي يمكن ان ينتهي ب١٥ حلقة. مسلسل ظل كذلك عانى النص كثيرا من المماطلة والمغالاة التي كانت مملة جدا في الحلقات العشر الأولى، ومنذ الحلقة العشرين تماسك النص والحوار وصارت كل كلمة في محلها ولها معنى مكانا في الحلقة وفي سياق المسلسل. مسلسل على قيد التنفيذ كذلك مر بنصه الكثير من المناطق الضعيفة والحوارات المبالغ بها والمغالاة في الكثير من المواضع. وقد يكون هذا المسلسل على عكس مسلسل ظل من حيث القوة حيث بدأ قويا في بداية الاحداث وتراجع الحوار في الحلقات الأخيرة، وذلك كذلك لطول المسلسل الذي لا يحتاج ل٣٠ حلقة. 

الشخصيات في هذا المسلسل كانت كذلك رفيعة الأداء من قبل الممثلين: عباس النوري، غسان مسعود، سلاف فواخرجي. فايز قزق، غيرهم. المشكلة في الدراما السورية في هذه المسلسلات ان الممثلين قد وسموا بأدوار محددة ومتكررة. تقدم شكران مرتجى تقوم بها في معظم المسلسلات هي ذاتها. وكذلك فايز قزق الذي يجسد ذات الشخصية الشريرة في كل مرة على الرغم من اجتهاده في تغييرها من دور الى الاخر. كذلك الامر مع صباح الجزائري. 

المسلسلات التي كانت ممتعة من اول حلقاتها حتى الآن، ولا ضرر في طولها لأنها اتسمت بالخفة وروعة الأداء وخفة الظل بعيدا عن السخافة، وتناولت مواضيع اجتماعية مهمة تخص العائلة والترابط الاسري والصداقة. فتألقت يسرا مع غادة عادل وشيماء سيف ومي كساب في مسلسل أحلام سعيدة، كما تألق خالد النبوي مع وفاء عامر وانوشكا في مسلسل راجعين يا هوى، وتتر رائع اشدانا بصوت مدحت صالح. 

ولكن هناك ما عكسه مسلسل راجعين يا هوى من خلل حقيقي في تجسيد الأدوار النسائية من وضع المرأة بصورة السخيفة، والتافهة، والمجنونة، والمعتوهة. التأقلم مع موضوع تعدد الزوجات، وكأن الامر اعتيادي كان أحد إشكاليات هذا المسلسل والذي لم تخل من مسلسلات أخرى. في وقت نرى تجسيدا لمسلسل تدور احداثه في بيئة منفتحة ليبرالية يحاكي قضايا مجتمعية يمكن ان تكون مهمة كقضايا الميراث والادمان والخيانة يظهر موضوع التعدد كأنه عاديّ في هذا المجتمع.  

العنف الممارس كذلك ضد المرأة كان مؤرقا بين صياح وضرب وشتائم صاحب الكثير من المسلسلات. المرأة الشريرة والمسكينة عند الضرب والعنف والشتيمة تقف في نفس المكان. 

علميات التجميل والنفخ والشد والمغالاة في المكياج وتقديم الأدوار كأنها عروض أزياء كان سمة ضعف المسلسلات الجيدة وسمة تسويق المسلسلات السيئة. 

اترك رد

اكتشاف المزيد من نادية حرحش

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading