القوّة الظّالمة وانهيار الدولة: ابن خلدون والواقع الفلسطيني

 استغرق في الآونة الأخيرة في قراءة ابن خلدون، أحيانا أشعر أنّه يخاطبنا كشعوب، وأحيانا اشعر لو ان الحكام يقرؤونه، فيتعظون. ربما لأنه في المحصلة، الحاكم نتاج الشعب، فكيفما تكونون يولّى عليكم. ولكن المسألة أكثر تعقيدا من مساواة الحاكم بالمحكوم وتحميل وزر واقعنا المرير على الشعب بنفس قدر تحميله على أصحاب الحكم وسلطانه. فنحن كما قال عبد الرحمن الكواكبي ” لقد طمس الطغاة والمستبدون عقول الناس حتى جعلوهم ينسون لذة الاستقلال، وعزة الحرية، بل جعلوهم لا يعقلون كيف تحكم أمة نفسها بنفسها دون سلطان قاهر.” ولكن السلطان القاهر لا يمكن الا ان يكون ظالماً، والظلم كما قال ابن خلدون: ” مؤذن بخراب العمران، وان عائدة الخراب في العمران على الدولة بالفساد والانتقاض”. و”إذا زال العدل انهارت العمارة وتوقف الإنتاج، فافتقر الناس واستمرت سلسلة التساقط حتى زوال الملك.” ” يقلب الحاكم توجسه وغيرته من شعبه الى خوف علي ملكه، فيأخذهم بالقتل والاهانة.”من جنين رأينا كيف تفسر هذه الاقوال نفسها في واقع نعيش تفاصيله بظلم واقع علينا من كل اتجاه، لا نكاد نرفع رأسنا من خبطة اوقعنا بها الاحتلال، حتى نسقط من هوي ضربة تقصم فيها السلطة رؤوسنا وقلوبنا. بين مشهد أصحاب السلطة يتصببون عرقا بعد طردهم من المخيم المحبط بالدمار والدم بعد أيام من القصف والقتل والتدمير، وبين مشهد رئيس السلطة محاصر بين اتباعه وجنوده وكأنه داخل الى تكنة حرب في مواجهة اعدائه لا لقاء شعبه، يقع قول ابن خلدون بالحاكم الظالم الذي يظهر له الشعب الولاء ويبطن له الكره والبغضاء، فإذا نزلت به نازلة أسلموه ولا يبالون. ما رأيناه من استعراض قوة لا نفهم الغرض منه الا الاستقواء على الشعب وفرض القوة بالبطش أكثر كلما أمكن. لا يحتاج المشهد للتحليل، بين مروحية تحمل الرئيس وبين الاف الجند والعسكر محيطون به، يتأكد الجميع ان امر هذه السلطة انتهى. فيقول ابن خلدون: “قد يحصل ان الدولة تأخذ بمظاهر القوة والبطش لكنها إفاقة قريبة الخمود، أشبه بالسراج عن انتهاء الزيت منه، فإنه يتوهج لكن سرعان ما ينطفئ”.  لا اظنها صدفة، انغماسي قبل ابن خلدون بتاريخ الاندلس وسقوطها وملوك الطوائف. وليست مصادفة تطابق الكلمات على وقع احداث زمانها اختلف فيها، ولكن لا يختلف فيه صفات انهيار الملك في الأمم. ف”إذا تأذن الله بانقراض الملك من امة حملهم على ارتكاب المذمومات وانتحال الرذائل وسلوك طريقها، وهذا ما حدث في الاندلس وأدى فيما أدى الى ضياعه.” ربما صحيح كذلك تأكيد ابن خلدون: “فاز المتملقون”! لأنه “إذا فسد الانسان في قدرته، ثم في اخلاقه ودينه، فسدت انسانيته وصار مسخا على الحقيقة.” وما نراه اليوم في الشارع الفلسطيني من تهميش نهش في وجدان الانسان لدرجة فقدنا فيها الاهتمام بكل ما حولنا الا من صراع بقاء على الاكل والشرب من اجل الوجود على هامش ما يمكن ان يكون خاصا لكل منا، فتشتعل نيران البغض والكره لتنعدم الاخلاق ويظلم الافراد بعضهم البعض.  يقول ابن خلدون: “ان الانسان إذا طال به التهميش يصبح كالبهيمة، لا يهمه سوى الاكل والشرب والغريزة.” من ظلم الافراد لبعضهم البعض، وفساد القضاء الذي يفضي كذلك كما يؤكد ابن خلدون الى نهاية الدولة، يبقى ظلم الافراد اقل الشرور، لأن ظلم الافراد كما يرى ابن خلدون، “يمكن رده بالشرع، اما ظلم السلطان فهو اشمل وغير مقدور على رده وهو المؤذن بالخراب.”وها نحن نرى كيف “يقلب الحاكم توجسه وغيرته من شعبه الى خوف على ملكه، فيأخذهم بالقتل والاهانة.” ما نشهده من اعتقالات سياسية اشبه في وحشيتها لروايات عبد الرحمن منيف، وربما أكثر قباحة. “رب قوم قد غدوا في نعمة زماً.. والعيش ريّان غدق. سكت الدهر زمان عنهم. ثم أبكاهم دماً حين نطق.” هل كان ابن خلدون عبقريا في وصفه الدقيق للحالة الفلسطينية اليوم؟ هل كان عبد الرحمن الكواكبي مبصرا لواقع قادم؟ هل كان عبد الرحمن منيف يكتب تاريخ المستقبل لواقع كانت تخط تفاصيله للتو؟ اختم بكلمات ابن خلدون: الحق لا يقاوم سلطانه، والباطل يقذف بشهاب النظر شيطانه، والناقل انما هو يملي وينقل، والبصيرة تنقد الصحيح اذا تمقل، والعلم يجلو لها صفحات القلوب وبصقل.” “لو خيروني بين الزوال الطغاة وزوال العبير لاخترت بلا تردد زوال العبيد لأن العبيد يصنعون الطغاة ولا يبنون الأوطان.”    

 

اترك رد